أم دوم… هذي بلادك يا عزيز !
الإنتماء للمكان هو الهوية الضائعة في ذاكرة الشعوب فمتى ما انتمى نُهاها كانت هويته مرجعاً سامقاً لوجوده وذاته ؛ هذا في عموم الأشياء ؛ أما في مخصوصها فمتى ما ذكرت أنا أم دوم أو ما انتمي له نهايا أو طيبة الخوَّاض جذر نسل الإنتماء للمكان أو بيت المال مسقط الرأس فإنَّ الموضوع يتعدى المحدودية للإطلاق السرمدي وما وسعني الحرف نقشاً ولا رسماً ولا نحتاً وإنَّ تخالني بالحرف الكلامي زعيم .
تمهَّل معي أيها القارئ النبيل هداك الله في هذه الكلمة ولا تعجل فيفوتك النبأ العظيم الذي هو بالخير مفيض ؛ فلو عددت لك الشجون في الكتب النفائس للذين كتبوا انتماء الهوية لبلدانهم لما وسعتك الحيلة أن تتركني وشأني وهذا ما لا أرومه كما ترى .
ويعجبني قول الأستاذ الشاعر الكبير المرحوم / توفيق صالح جبريل ( 1897 م – 1966 م ) ؛ عليه من الله الرحمة والمغفرة ؛ فيما تغنى له بها الأستاذ الدكتور الفذ / عبد الكريم الكابلي ؛ رائعته عن كسلا فقال :
حديقة العشاق ( كسلا)
نضر الله وجه ذاك الساقي * إنَّه بالرحيق حل وثاقى
فتراءى الجمال مزدوج الاشر * اق يسبى معدد الآفاق
كان صبحا طلق المحيا نديا * اذ حللنا حديقة العشاق
نغم الساقيات حرك أشجانى * وهاج الأسى أنين السواقي
بين صب في حبه متلاش * ومحب مستغرق في عناق
وتلاقت في حلبة الرقص أيد * وخدود والتف ساق بساق
فضللنا والظل هام في * انسجام وبهجة واتساق
ظلت الغيد والقوارير صرعى *والأباريق بتن في إطراق
ائتني بالصبوح يا بهجة الروح * ترحني إن كان في الكاس باق
يا ابنة القاش إن سرى الطيف وهنا * واعتلى هائما فكيف لحاقي
والمنى بين خصرها ويديها * والسنى في ابتسامها البراق
كسلا اشرقت بها شمس وجدى * فهي في الحق جنة الإشراق
وبهذه المناسبة ، فقد تناولت الشاعر في كتابي ” القبضة ” ولم أشأ أن أُناقش الأستاذ / هنري رياض ( 1927 م – 1995 م ) ، رحمه الله ، في أمر معاقرة ” جبريل ” للخمر حين استدل له بأكثر من بيت شعر وهذا منها :
ائتني بالصبوح يا بهجة الروح * ترحني إن كان في الكاس باق
لأنَّها من المسائل الشخصية التي لا تناقش في مكان عام ولا في درس الخصوصيات للشخصيات العامة ، وعلى الباحث الإهتمام بالمادة الفكرية للكاتب كيفما تكون ، ثم ليس لها قيمة أدبية تذكر حتى يذاع سيطها وتكون موضوع أساس للباحث ، وأذكر في كتاب الأستاذ الكبير المرحوم الدكتور / عبد الله الطيب ، رحمه الله ، في كتابه : ” ذكرى صديقين ” أنَّه قال : { رأيت رؤيا أفظعتني } ثم سردها وهي : أنَّه رأى فانوساً مسرجاً قد انطفأ ! فقال : أولتها بإنتقال توفيق صالح جبريل ، وقد كان ، قال : ثم ذهبت للأستاذ الكبير الأديب / حسن نجيله ( 1912 م – 1983 م ) ، لمعاودة جبريل فهو طريح الفراش وقد ترك ديوانه ” أُفق وشفق ” للأستاذ / نجيله ، لمراجعته ، فعاداه ومات من باكرته ، رحمهم الله جميعاً .
وقد انفعل وتفاعل الدكتور / الطيب ، مع رائعة المرحوم / جبريل ، حين ذكر مدينة الدامر مسقط الأول فقال :
أيا دامر المجذوب لا أنت قريه * بداوتها تبدو ولا أنت بندر
خرجنا قبيل الصبح منك وأنت في * غلالة ظلماء فهل فيك من دروا؟
الى جنة فى شاطئ النيل برة * تطالعنا الأمواه أيان ننظر
أزاهيرها الحمراء مسدلة على * عناقيدها والنخل فيها مزنر
شراعك يا ملاح دعه تسر به * إلى الملتقى ريح الصبا والتحدر
وغنى على وجه المجازيف إنَّه * مع الموج عن شوق قديم يعبر
فأُعجب المجذوب – هداك الله – بها متهللاً من البيت في قصيدة طويلة ، ويُعرف المجذوب بوطنيته الموغلة في المحلية وحبه العظيم لمدينته الدامر وبالتحديد حلته ” الدومه ” بطرف من التميراب ، قال :
بلى أنا حـقاً فوق ذلك كلـه * و دوني خرطوم و بارا و بربر
و يا دامر المجذوب أنت مليحة * تذكـرتها يا بعـد ما أتذكـر
وفيك بنو المجذوب أبناء بيرق * و أبناء عبدالله والفضل يذكـر
ألا إنَّ توفيق بن جبريل هاجني * إلـى الشعر منه بيت شعـر محـبر
و توفيق عندي شاعر ذو أصالة * مجيد شديد الوجـد عنه يعبـر
ذكرني أيام دامـر و قبلهـا زمــان * لنا في جانب القاش أخضـر
وهاك طرفاً مما شجوت به لأمدوم بقول بن الفارض :
تشبهوا إن لم تكونا مثلهم * إنَّ التشبه بالكرام فلاح
قلت :
ولنا في شاطئ النيل منزلٌ * من الحسن عبقري ومنظرُ
لو رأيت الحسن يقطر بلسماً * إذاً لرأيت أم دوم أيَّان تنظر
وهالك من التفاف النيل حولها * خصر هضيم ونخل يسحر
أما وعيني في الهجران أرقبها * تبكي فما عمرت وتعمر
وزادك رحيب الحسن رونقها * رجال شم العرانين ويفخر
أيا طالب الحب هاك فريدة * خذها بالخفاف وثِقالاً فتُنْصَر
يمم هاتيك البقاع فإنَّها * نعم الملاذ ونعم المسكن البكر
وقل للمليحة ذات القناع مسدداً * رُمها ولا تَرِمها ذيَّاك ومزهر
وفيها من ألوان الهناءة سائل * لمن يرجوا النوال فيظفر
وقد هاجني المجذوب وصالحاً * بالشعر الجزيل وشعر يزخر
وكيف لا والشعر يظهر حسنه * شعري والشعور محبب ومذكر
وأم دوم ترمي بالظلال كأنَّها * زبر تجد متونها أقلام ومحبر
وأم دوم عندي لعمرك جنة * نشتهيها ونحن فيها وسكر
وشاقني منها المشوق المستهام أنا * فزاري وعتَّاق وقرَّاي ومِغْفَرُ
وعبد السلام وأصهار وناجدٍ * ونسب تهدى الساريات ومعشر
وقومي من كل القبائل تلفها * يسار في يمان ويمن كذا أسور
أينما ألفيتهم ألفيتهم جسداً * وروحاً واحداً ما لانهم ومخثر
وشاقني هداك المليك أنَّها * لبانة خاطر وهمهام يتقطر
بالله يا ساقي الخمر تعللني * ما الخمر إلا الحياة ومزهر
ويا حادي الركب أسفل مركب * أحدوا فما الحداء بسلوى فأسهر
ويا زائراً تلك اليفاع بلغ شدوها * فشدوي يعانق السماء ويسحر
وهاجني قول المجذوب وصالح * بلى ودوني جريف وطيبة أفخر
وقمولة وقرادة وخلوة صادق * وعتيق وأوسط ورجالٌ كُثَّرُ
ومالي غير شعر أجود به * على الشوق القديم ومقال أذكر
مهلاً أم دوم فالصبابة نارَها * تصلي والصبر سلو يُشكر
ولا يعتب بنوها لعاعة تائهٍ * فالكلم الكليم مهيض ويقْصُرُ
سلام في الخالدين ما بقيت * أم دوم جنة بربوة وجناها سُكَّر
ورحمات الله بالخير تزفهم * كما زفت الملائك البشرى بشَّر
وهم ما دامت لحمتهم توراثاً * خصي بشؤبوب الفضل معشر
فُضُلٌ ورحماهم طوقاً وسورة * بمعصم الآل والأهل أجدر
وصل ربِّ على النبي وصحبه * ما أسجع بالقرآن حرف محبر
واقبل يا ربِّ هذى مشاعري * وعدِّ عني اللوم فأنت وتقْدِر
هذا ! وقديماً قال البحتري يصف العراق ، والبحتري هو أبو عبادة بن الوليد ، شاعر جيد رقيق العبارة جزلها وفخمها وأـمره مع الفرزدق وجرير لا يخفى وهو القائل – أي الفرزدق – :
أؤلئك آبآئي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامع
قال البحتري :
حنت قلوصي بالعراق وشاقها … في ناجر برد الشأم وريفه
ومدافع الساجور حيث تقابلت … في ضفتيه تلاعه وكهوفه
والحنين للعراق أشد منه إلى أم دوم وطيبة الخوَّاض وبيت المال ، شوقاً ، فمراتع الحياة بعضها يحاكي بعضها كلي ، وقد جال صروفها في كل أقاليم السودان ويظل الشوق طريفه وتليده لبعض ما يشكل الإنتماء والهوية ذات اللسان الفصيح ، قال أبو تمام :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى * فما الحب إلا للحبيب الأول
وكم منزل في الأرض يألفه الفتى * وحنينه أبداً لأول منزل
وأبو تمام شاعر كبير ، قيل إنَّه مات في ريعان شبابه ، رحمه الله ، في أول سني الأربعين ، كذا جاء خبره بوفيات الأعيان لابن خلكان ، وقرأت للعميد / طه حسين ، في كتابه : ” من حديث الشعر والنثر ” الذي هو عبارة عن محاضرات ألقاها – رحمه الله – في فرنسا وأميركا والقاهرة ” ، أنَّه مات في سن الثامنة والثلاثين وخرَّج ديوانيه : الحماسة الكبرى ، الذي حاكاه فيه الأديب اللوذعي الفهَّامة / عبد الله الطيب ، في ديوانه : ” الحماسة الصغرى ” ، ثم ديوانه الآخر ديوان ” أبو تمام ” وهو القائل عن القاسم بن عيسى الوزير الملقب بأبي دلف :
إنَّما الدنيا أبو دلفٍ * من ماضيه إلى حضره
فإذا ولَّى أبو دلفٍ * ولَّتِ الدنيا على أثره
واسمه القاسم بن عيسى بن ادريس العجلي قائد عباسي في زمن المأمون والمعتصم توفي سنة 226 هـــ ، وهذه من القصائد الجياد الشهيرات له ، رحمهم الله أجمعين .
أرى لزاماً علي مغادرة هذه المادة ، وكتبتها لأسجل في التاريخ سطراً مسطوراً عن حق ما أراه حقاً في مدينة أم دوم بالتحديد فهو واجب تمليه ضرورة الأدب والعلم والأمانة والشعور بالإنتماء وبالهوية التي نحن اليوم في شُقةٍ منها بعيدة ووئيدة فالله خيرٌ حافظ وهو أرحم الراحمين ، ولا أجد بداً أن لا أطيل فالإطالة تبعث الملل والإختصار يبعث الرغبة في الإستزادة ، ومن الخير أن نطلب المزيد من أن نبعث الملل وما زال في النفس شيء من حتى عن أم دوم لم أقله بعد وعسى الله أن أقوله قابل الأيام إن شاء الله ومدَّ في الأجل ، وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين .