إمرأة من كمبو كديس .. صراع الفكر والدين !
تلخيص الكتاب :
تدور فكرة هذه المجموعة القصصية في بعض محاورها للصراع القائم والمستمرر منذ الدهر الدهير ما بين الفكر والتقدمية العلمية المجتمعية بالتحديد وما بين الدين صياغة لهذه المعايير الحياتية ، فالخلاف والإختلاف لا يهدأ أبداً أو قل : ما أن يهدأ حتى يثور من جديد ، وأُمُّ هذه الصراعات هي المؤسسات الحاكمة للدولة المعنية ، فالنقل مجازاً هنا السودان / الأصل السودان ولكن أردت تعميم الفكرة أكثر لتضح الرؤية للقارئ النبيل / فأي آيدلوجية حاكمة لا تعبر بالضرورة عن الشعب ولكنَّها بالضرورة تعبر عن المذهبية الحاكمية للدولة عبر مؤسساتها القابضة لمفاصل الدولة وأخص بالذكر هنا المؤسسة العسكرية لمنظومة الحكم في عهد الهوس الديني واللوثة الفكرية المتخبطة وكان جرَّاءها طفوح التهميش التنموي والمجتمعي في غالب أرض السودان والذي أدَّى من بعد لتعمق جذور المشكلة السودانية التي أصبحت هي القاع وهي الطرورة وهي الطفح الواضح في مسرح الحياة السودانية من قضايا الهوية { أقصوصته : ” أسنان لا تغني ” [ يقولون إنَّك من السودان ؟ ! ] ص : 66 } والتنمية والتهميش والسلطة القابضة والحريات وأدلجة المؤسسات القومية مما فاقم الإشكال بالتدويل لقضاياه المحلية فمزقت البلاد وتسعى لتمزيق ما تبقَّى منها مما هو ظاهر للعيان .
القصة ” إمراة من كمبو كديس ” هي النموذج الذي يحكي هذه التجربات المريرة لحياة المهمشين والبسطاء وساكني الأرصفة ومجاري الصرف الصحي ودور الأيتام والمعذَّبين في الأرض بكل ما تعنيه هذه الكلمات من معاني وهم في تطلعهم من وضعهم ذاك لحياة كريمة تسد الرمق وتعزز القيمة الإنسانية وكرامتها وحياءها آن الصراع الآيدلوجي / الإسلام بين العقيدة والعلم / يمنون أنفسهم وذراريهم بالكرامة البشرية المقدَّسة ، يعيشون ويلات الصراع الفكري بين مفهوم الدين الحاكم وبين الحداثة فيه أو قل : الجانب العلمي منه ، وهم مطحونون بين مطرقة الدين وسندانة التطور الحياتي المحدث / راجع الأقصوصة : ” العاشق ” ، ” حذاء ساخن ” ، ” محاربة قديمة تحسم المعركة بنفسها ” ، ” أسنان لا تغني ” ، ” الأخدود ” / فالكاتب عبر هذه الأقصوصات تراه مثقلاً بالجراحات الإنسانية ولا يقدر على ضمدها من كثرة دماملها كما أرى .
استعمل الكاتب الرمزية والإيحائية في بعض ما كتب / راجع النماذج أعلاه / تارة يلمح لنظام الحكم ، وتارة لنظام الحياة المجتمعية ويقارن بينها وبين غيرها من العموميات / راجع أقصوصته : ” أسنان لا تغني ” / ويخرج لنا بقاعدة مفتوحة على مصراعيها من التوقعات اللانهائية ليضع القارئ يعيش بعضاً من هذه التجربات الحياتية أو لينقله عبرها فيعلم ما غاب عنه من حياة لأناس طالهم الضنك والدونية والطوية وذلك لمن يفهم .
ملاحظات حول النصوص :
هذه المجموعة القصصية أقلَّ مكاناً من ناحية التجويد الفني واللغوي مقارنة مع روايته : ” الرجل الخراب ” فتجد أنَّ الكاتب أو الكتاب لم يبلغ مستوى الإحترافية بعد ، فلغته أكثر من عادية مع جودة اختياره للمواضيع ، ولنقل مطمئنين :
إنَّ الكاتب كتب هذه المجموعة في بواكير كتاباته التأليفية { عمره بالتقريب سبعة وثلاثين سنة ( 1963 م – 2001 م ) } فالتجربة الكتابية لم تنضج بعد عنده وهذا ظاهر جداً في أسلوب الكتابة والمعالجات أو طريق تراكيب الجمل وتراتيب الأفكار بلغة المدقق المجوِّد فهي عادية في أغلب قصص المجموعة إن لم تكن ضعيفة ، ويمكن للقارئ النبيل مراجعتها حيث توجد .
قال ص : 9 [ وأكثر ما يعذبني أنَّها خانتني ، خانتني أنا بالذات ] ، أقصوصة ” بنت الجزار ” ، التعبير هنا غير دقيق لأنَّها ابنته – علويه إسماعيل – فمصطلح الخيانة لا يستعمل إجادة هنا ولكن في مقام الزوجة أو العشيقة أو ما شاكله فيمكن ، ثم ص 11 : [ نزلت عند الجامعة ] وذات الصفحة : [ إنَّه في الحصة الآن ] [ قربي خفير ثرثار ] ، [ الجرس الذي دقَّ ] فأعتبره سقط سهواً فهو قد بدأ فصله بالجامعة ثم قفز إلى المدرسة مما يوحي للقارئ أنَّ الحادثة كانت في الجامعة ولم يبين قرب المدرسة منها أو علاقتها بها إلا فيما بعد فذات الحدث أوهم القارئ / وأنا منهم/ بأنَّه في الجامعة لأنَّ تلك المفردات لا تستعمل لها بل للمدرسة ، فالقفز يوهن الطالب والمطلوب ويشوشر على المتابع أغلب الظن .
قال : [ ولو أنَّ كثيراً مما معي من المكشوشين هربوا ] ص : 29 ، التركيب اللغوي هنا ركيك للغاية والأصوب والأجود أن يقول : ممن ، وليس ” مما ” لأنَّ الأولى تستعمل للعاقل والثانية لغير العاقل ، ثم خذ قوله من ص 31 : [ إشعال المحرك ] فهي ضعيفة ، والأقوى أن يقول : تدوير ، فهي أوضح ، ثم [ وأنا ما أزال أنادي ] نفس الصفحة ، فاستعمال اسم الموصول ” ما ” غير جيد والأجود استعمال ” لا ” النافية ، كذا ورد في القرآن الكريم : [ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ] سورة التوبة ، ثم صيغة المخاطَب والمخاطِب لا تتسق مع لغة التداعي / هذه في قصته : ” حذاء ساخن ” بما فيها من اندياح في التوصيف / قال ص 33 : [ كان فمه يرتجف ] الضمير ” هو ” [ كانت القرية تمضي بعيداً عني ] الضمير ” أنا ” في جملة واحدة ، فهذه الكلمة دون المقام والكبرياء فيما أرى .
إدخال أو إقحام اللغة الدارجة المحلية مع الفصيح أدَّى مباشرة لترهل النص وبنيته اللغوية والفنية معاً ، رغم ما يرومه الكاتب من إضفاء روح المحلية على القالب الفصيح العربي إلا أنَّه لم يوفق في ذلك مما يعني أيضاً نزول مستوى القصة أو الكتاب لدى المتلقي العربي / راجع قصته : ” صاحبة المنزل ” وأخريات / وأُعزي هذا الترهل والضعف في عموم البنية النصية للكتاب – أسنان لا تغني / ” يقولون إنَّك من السودان ” ص : 66 – لعدم نضج الكاتب فنياً وتجويده آن الحبك العام لمدلولات الفكرة المرادة من الكتابة ، ويمكن – رغم المحاولة – لعدم كثرة القراءة لآخرين آنذاك ، فهو يؤدي بطبيعة الحال لضعف النص بلا ريب ، قال ص 45 : [ دايم السؤال عنك ] فهذه لغة موغلة في المحلية والأجدى [ دائم ] ، ثم : [ أهل العريس / أهل العروس ] ص : 46 ، فالعرب تستخدم كلمة ” العروس ” للجنسين ، وهنا فرَّق الكاتب بينهما كما ترى ، [ تملأ الحلة طنيناً ] ص : 60 ، فالصواب : ضجيجاً أو ما شابه ، إذ الطنين والطَّنُ يعني القطع أو البتر في لغة العرب ، تقول العرب : أطنَّ فلان ساقه ، أي : قطعها .
يكثر الكاتب من استعمال اللغة العسكرية أو المشاهد العسكرية كثيراً ، ربما لجملة الأحداث التي صاحبت فترة إعلان الجهاد والخدمة العسكرية الإلزامية على الشعب المغلوب على أمره { القرار الجمهوري رقم ” 165 ” لسنة : 1995 م } ، والحرب الدائرة بين الشمال والجنوب ، فمثل هذه التداعيات ليست من نسج الخيال وإن استعمل فيها الخيال بقدر ما هي وقائع وأحداث دُوِّنت في قالب قصصي ومآسي إلاَّ أنَّها كانت حياة معاشة مثل : عرس الشهيد وخلافة أسرة الشهيد والنفس مقابل المادة أو الحياة لك ولأسرتك من طريق الإستشهاد في الحرب والموت سمبلة وكل يرقص على ليلاه / راجع قصته : ” محاربة قديمة تحسم المعركة بنفسها ” ص : 55 وليلى لا تقر لهم وصلاً / قال :
[ ثُم همَّ المحسنون بتحرير الأشياء من العجينة الضخمة : أحذية الأطفال، البطانية القديمة العجوز، الملاءات الآنية الصيني والتي اشترتها بعرق دمها من سنوات مضت، حبال جوال السكر البلاستيكية، الملابس الداخلية، الكبابي، شظايا زجاج دولاب العفش القديم والذي كانت دائمًا ما تفتخر به، كراسات المدارس القديمة، ما تبقى من معاش إسماعيل ألفان من الجنيهات وُجدا معًا وسط الكعكة العظيمة، جرادل المياه، آنية رمضان ومسبحتها، صابون الغسيل، عطر آمنة الذي رفضته، توب الجيران، قفة الكجور، وطواطم الأسبار.
كانت كعكة، لم يرَ أحد أكبر منها في حياته، تعوم في زيت السمسم ويفوح منها عطر السيد علي بطعم السكر وما تبقي من ملح وكول ولبن بدرة ماركة الكفين المتصافحين.
بينما كان الناس مشغولين بتفكيك الكعكة … طفلاها وابنتها يصرخون، كانت هي ساكنة وعلى شفتيها ابتسامة رضًا عظيمة بلهاء وهي ترقب الملائكة يلتهمون كعكتها الطازجة احتفاءً بعرس الشهيدة: التي كانت هي نفسها.] ص : 63 ، لمن يفهم .
استعمال بعض المفردات الموغلة في المحلية الغريبة على القارئ الغير سوداني ، وإن كانت جيدة في توسيع ماعون تصدير لغتنا المحلية إلى العالمية ، إلا أنَّها حوشية بعض الشيء مثل : [ كلاب السِمِع ] في قصَّته ” الأخدود ” ص : 74 ، فلمن لا يعرفه السِّمِع فهو : حيوان شبيه بالكلب أو من فصيلته لكنه ليس كلباً كما نعرف ووجه طويل وأنحف من وجه الكلب المعروف وشرس جداً وقيل إنَّه يوجد في بعض قرى السودان الطرفية في الخلاء ( في إقليم دارفور كلية ) حيث يعيش هناك ويلتهم الماشية حين ورودها وصدورها وسرحتها ، أعجبني هذا التداخل .
وبالمناسبة : ” الأخدود ” لم أجد ربطاً موضوعياً بين أولها وآخرها ، فلا هي عاطفية ولا هي جنسية ولا هي حربية ولا هي فكرة ولا ذات منطق ولا خيال ولا غيره ، ولا علاقة بين موضوع الجيش والجنس فيها موضوعياً اللهم إلاَّ أن اتخذها مدخلاً لفكرته التعريفية بالمنطقة في قالب درامي تراجيدي ، فمثل هذه الفكرة أدخل حاق الفلكلور الشعبي أو المورثات الشعبية منها إلى لغة الخيال أو الموضوعية أيَّاً كانت ، وقد تكون حقيقة وقد لا تكون ، فيعرف من عاش في الخلاء وأطراف القرى البعيدة من ولايات السودان مثل هذه الموروثات كـــ : أبو لمبة والبعَّاتي والمرفعين أو المرعفيت أو المرفعيت وأكَلة البشر / اشتهرت قبيلة الفراتيت والمساليت بهذه الحكايات والله أعلم صحتها من كذبتها / والسِمِع وغيرهم الكثير ، فقد عايشتها عن قرب مخالطة غير موؤفة بالظن والحدس في تجوالي بولايات السودان المختلفة – جنوب سنار بالدالي والمزموم والترَّو وبوزي والشُرَّاك وأبي عريف وجبل أبي قرود وأبي ضلوع وجنوب الدمازين سلسلة جبال الأنقسنا وغيرهم الكثير والحمد لله رب العالمين – طيلة عشر سنوات حيث كنت أعمل مهندساً مقيماً بمشاريع الري والحفريات المدنية للمشاريع التنموية بها ، وقد رأيت أبا لمبة أكثر من مرة وكذلك المرافعيت وسليل آكلي البشر بصورة من الصور .
فهي تقع ما بين الحقيقة والمصادفة الخيالية أو قل : يكون أو لا يكون / أكرر : شاهدته وعايشته كثيراً ومراراً / إلا أنَّه في مخيلتنا الفكرية والشعورية موجود بشكل من الأشكال .
” الأخدود ” إن أحسنت فهماً لها فهي لا يفهمها إلا من خاض تجربة الكاتب فيها أو هو ملمٌ بها في غير ما محفل أو معايشة أو قريباً من ذلك ، فالتصوير هنا جيد والحكي جميل كما تذوقته أنا وعشته بين أهلنا في ربوع السودان المختلفة .
وداع كمبو كديس :
كان أول عهدي باسم / عبد العزيز بركه ساكن ، سنة : 2013 م تقريباً ، حين وجدت عند مفترشي الكتب القديمة والجديدة بشارع السيد عبد الرحمن بالخرطوم في برندات السوق العربي ، اسم كتاب صدر حديثاً يحمل عنواناً هو : ” إمرأة من كمبو كديس ” فاستغربت لرجل يعرف الكنابي / الكمبو أو الكنابي أحياء صغيرة وبلدية وموغلة في الشعوبية البحتة فهي بيوت تبنى من القش والطين وسيقان الشجر والرواكيب القديمة ويمتاز أهلها بالبساطة – التهميش – أو الفقر المخزي لكنَّها تمثل لهم جنة الله في الأرض فهي حياتهم ومعاشهم ومعادهم ودنيتهم وآخرتهم وأغلب قوتهم من الذرة الأحمر وماء الترع والميجرات والكناري إن وجدت أو الجمامات مجمع الماء من الترع ويعملون في الزراعة والرعي / غيري أو مثلي ولم أكن أعرف أنَّ ساكن هو من ذات البيئة مثلي فهاجمته هجوماً عنيفاً في الصحف والمقالات دون أن أقرأ له أي حرف ناهيك عن سطر أو كتاب واعتبرته مدعياً المعرفة ، لأنَّه ليس من جيلي الجامعي – ولا من مثقفي البندر – من يعرف الكنابي ولا حياة البادية ونحن أولاد الخرطوم حيث أتيحت لي الفرصة لأتعرف على بلادي وأهلي من ذات الشاكلة حين لم تتح لهم الحياة فرصة التعرف ولا المعايشة في الكنابي ، فكيف لبركه ساكن أن يعرف ؟ هذا حين ظننت ظناً وبعض الظن إثم .
وحين قرأت له عن كثب ومتابعة وجدته يحمل في جنباته الإنسانية الكامنة في شخوص أهل الكنابي والدانقات والمجرات فقدَّرته أشد تقدير وأخشى إن لقيته أن يكون خلاف ما يكتب ” الله يكضب الشينة ” فأعود للهجوم من جديد لا قدَّر الله .
ساكن ، من مواليد سنة : 1963 م ، وكتب هذه المجموعة القصصية العشرة بين عامي : 2000 م – 2001 م ، / قصته : ” بنت الجزار ” كتبت سنة : 2004 م / وطبعت بمؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة بمصر سنة : 2012 م – 2014 م ، ( وعمره حوالي : سبعة وثلاثون سنة ) ، لذي جاءت المجموعة في عامتها ضعيفة بعض الشيء وليس ساكن هو قبل الأربعين كمن هو بعدها ، فتجربته نضجت للحد البعيد كما هو معروف / راجع أعماله كلها بعد هذه التواريخ ” الجنقو مسامير الأرض ” مثلاً ونيله الجوائز حصداً / وعندي أنَّ القصص القصيرة يصعب الحكم على كاتبها بالإجادة أو الرداءة لكن واضح عند المقارنة مع غيرها له مكانتها في مؤلفاته إن شاء الله .