الحضارة العربية والعلم التجريبي.. الجاحظ نوذجا
ليست الحضارة العربية الاسلامية هي هذا الكم الهائل من كتب التراث الفقهي والمرويات التي تمتلئ بها مكتبات الجامعات والمؤسسات الدينية في ارجاء العالمين العربي والاسلامي، وقد أقام الإسلام حضارته الرفيعة على منهج العلم والمعرفة والعقل والبحث والتجربة والاستنباط تقديراً منه لحيوية العلوم في بناء الدولة والمجتمع فابتدأ بالقضاء على الجهل والأمية والتنديد بالتقليد الأعمى ثم أشاد بالعلم والعلماء في مختلف الاختصاصات الشاملة لكل إدراك يفيد الإنسان في القيام برسالته في الحياة وهي تعمير الأرض والاستفادة من خيراتها وكنوزها كما يرشد إليه قوله تعالى : (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) . ولقد تميزت حضارة الإسلام على أنها حضارة علمية تهتم بالعلم والبحث العلمي ورفعته إلى درجة العبادة. وهناك من العلماء والمبدعين الذين اسسوا تلك الحضارة بوضعهم حجر الاساس للعلوم الحديثة قبل ان يعرفها الغرب المتطور حاليا، ومن بين هؤلاء العلماء هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري (159 هـ-255 هـ)، وللجاحظ مكانة متميزة في تاريخ الفكر العربي باعتباره مثل قطيعة معرفية مع الفكر التسليمي الإنطباعي وعدّ مؤسّسا للمعرفة العقليّة. ولقد كان الجاحظ استجابة حضارية طبيعية لظرف معرفي مخصوص تميز بحضور مكثف للعقل ودليل ذلك أن السلطة في عصر الجاحظ كانت اعتزاليه. وتميز هذا الظرف بكثرة الجدل و الاختلاف بين الفرق الإسلامية كما تميز باكتمال مرحلة التدوين وما أفرزته من تداخل بين الحقائق .وميزة الجاحظ انه خاض بالعقل في ميادين لم يخض فيها العقل مسبقا و قد نظر في عالمين اثنين متقابلين و لكنه تمكن من الربط بينهما هما عالم المحسوسات من خلال دراسة الحيوان و قد أسس أثناء ذلك منهجا يقوم على السماع و الشك و التجربة وعالم الغيب والماورائيات و قد استند في ذلك الى الاستدلال.
وكان الجاحظ من أول من نظّر للتطور من البيولوجيين المسلمين. كتب عن تأثير البيئة على فرص بقاء الحيوان، وكان أول من وصف الصراع من أجل البقاء. كان الأول أيضا في الكتابة عن سلسلة الغذاء كما كان من القائلين بما يسمى الحتمية البيئية حيث حاول أن يبرهن بأن للبيئة القدرة على تحديد الصفات والمميزات الجسمانية لقاطني المحيطات البيئية المختلفة، كما قال بأن لون البشرة المتباين بين البشر هو أحد نتائج تأثير البيئة. يذكر في كتابه “الحيوان” :
“تدخل الحيوانات صراعاً من أجل الحياة: من أجل المصادر مثلاً، أو بغية تجنب الافتراس من قبل الحيوانات الأخرى، أو من أجل التكاثر. بإمكان العوامل البيئية أن تؤثر على الكائنات الحية لتطور صفات جديدة تساعد على النجاة وبالتالي تؤدي إلى تحولها إلى أنواع حية أخرى. إن الكائنات الحية التي تتمكن من البقاء تستطيع التكاثر مما يؤدي إلى انتقال تلك الصفات المميزة إلى الذرية.”
كان لكتابه هذا تأثيراً عظيماً على العلماء المسلمين خلال القرون 11 إلى 14 الميلادية، كما أن التراجم اللاتينية لأعماله وأعمال غيره توفرت لتشارلز داروين ولمن سبقه كـ لينيوس، بوفون، ولامارك.
ومن خلال قراءة منتج الجاحظ المعرفي نجد ان أهم جوانب مشروعه الفكري هو منهجه التجريبي الذي لم يقابله الباحثون بمزيد من العناية فقد أعلى الجاحظ من قيمة العقل فكانت للتجربة والمشاهدة القول الفصل لديه لذلك رفض الكثير من آراء أرسطو لأنها تتعارض مع التجارب التي أجراها ومشاهداته للحيوانات من الديوك والكلاب والحيات، فلم يقف أمام أرسطو موقف التلميذ الخائف بل وقف أمامه موقف العالم والمعلم المصحح، فاهتم في كتابه «الحيوان» بالبحث في طبائع الحيوان وغرائزه وأحواله وعاداته فكان بذلك مؤسس علم طبائع الحيوان.
و قد استفاد الجاحظ في نشأته في البصرة التي كانت قطبا فلسفيا و فكريا و قد ازدهرت فيها التيارات العقلية و نشطت فيها حركة الترجمة مما مكن الجاحظ من الاستفادة بالتراث اليوناني و لا سيما تراث أرسطو.
فقد أسس الجاحظ منهجا لأدراك اليقين يقوم على أسس ثلاثة أولها السماع اذ أخذ الجاحظ في كتابه الحيوان من مصادر مختلفة منها ما هو مكتوب و مأخوذ من التراث اليوناني و كتاب “الحيوان” لأرسطو و منها ما هو عربي شفوي كمساءلة أصحاب الخبرة من الحرازين و الحواءين و الصيادين و منها ما هو شعري كبعض الأبيات التي قيلت عن الحيوان.
ونجد ان كثرة المصادر في كتاب الحيوان يعود الى ايمان الجاحظ أن معرفة الفرد محددة و لا سبيل لنماء علمه الا بالاطلاع على معارف السابقين يقول الجاحظ: “الانسان لا يعلم حتى يكثر سماعه” لكنه لم يسلم بما يسمع و لم يطمئن الى العلماء مهما كان مقدار علمهم لأن التقليد و الحفظ قاصران على ادراك الحقيقة يقول الجاحظ: “ان مستعمل الحفظ لا يكون الا مقلدا و الاستنباط هو الذى يفضي بصاحبه برد اليقين.”
و لما كانت غاية الجاحظ معرفة الحقيقة فانه لا مناص له من استعمال العلم للظفر باليقين و الشك جلاء عملي و ترجمة فعلية للعقل . و الشك عند الجاحظ منهج لا غاية في ذاته لهذا السبب يدعو الى معرفة الحالات الموجبة له لمعرفة الحالات الموجبة لليقين وهو بذلك يتجاوز شك الريبيين الذين جعلوا الشك منطلقا و غاية.
فالشك في الأخبار أساسي عند الجاحظ لأن البشر ميالون بطبعهم إلى التحريف والإنسان ليس معصوما من الخطأ مهما كان لذلك دعا إلى اعتماد الشك في الخبر مهما كان مصدره حتى و إن روي عن علماء ثقات لأن ثقة السند ليست دليلا على صحة المتن فيقول:” لا ترسلوا إلى كبير من العلماء فإذا عليمهم يقول بغير رواية و على غير أساس”.
ومن هنا كانت علاقة الجاحظ بالتراث تقوم على جدل الاتصال و الانفصال.
و بما أن الشك طريق إلى اليقين و العقل سبيله فان الحس و التسليم و التقليد عائق الإدراك، لذلك يدعو إلى المعرفة العقلية. يقول الجاحظ :لا تذهب إلى ما يريك العقل و العقل هو الحجة.”
و لقد كان الجاحظ في تجاربه ملاحظا مستقرئا دقيقا يعرض تجربة و يصفها ساعيا إلى إدراك الحقيقة و لم يكن متعصبا أبدا و مما يؤكد ذلك اعتماده على تجارب غيره حتى بدا كتاب الحيوان مزيجا من الجهد الذاتي و الجهد الموضوعي و مزيجا متناسقا من المصادر المكتوبة و المسموعة.
و تجارب الجاحظ على الكلب تؤكد انتباهه و مشاركته بلوغ بعض النظريات الحديثة فظاهرة الانتباه الغريزي في الكلب لا تختلف كثيرا في جوهرها عن نظرية الانعكاس الشرطي “لبافلوف” فقد استطاع أن يثبت بعض السلوك الحيواني الذي يتنزل حديثا ضمن ما يعرف بعلم النفس السلوكي و لم يتسن ذلك للجاحظ لولا المنهج التجريبي وملاحظة السلوك و مراقبته و تنويع التجربة بتغيير الظرف الزمني أو المنبه(السماع, الشم, الافتراض)و لكن إذا سلمنا بتوفر الأسس المنهجية الضرورية للبحث العلمي التجريبي عند الجاحظ فإننا نتساءل لماذا لم تثمر هذه التجارب نظريات علمية دقيقة؟
ومفهوم الحقيقة عند الجاحظ ليس مفهوما علميا ذلك إن أصلي الحقائق ما اتصل بالدين و ما الحقيقة العلمية إلا أداة لإثبات الحقائق الدينية و هذا المزج بين الدين و العلم أعاق عقل الجاحظ و جعله عاجزا عن التسليم.
ملامح المنهج العلمي عند الجاحظ
فلقد انتـهج الجاحظُ في كتبه ورسـائله أسلوباً بحثيًّا أقلُّ ما يقال فيه إنَّهُ منهجُ بحثٍ علميٍّ مضبوطٌ ودقيقٌ، يبدأ بالشَّك لِيُعْرَضَ على النَّقد، ويمرُّ بالاسـتقراء على طريق التَّعميم والشُّـمول بنـزوعٍ واقعيٍّ وعقلانيٍّ، وهو «في تجربته وعيانه وسماعه ونقده وشكِّه وتعليله كان يطلع علينا في صورةِ العالم الذي يُعْمِلُ عقله في البحث عن الحقيقة. ولم يكتف أبو عثمان بالشَّك أساساً من أسس منهجه في البحث العلميِّ بل عَرَضَ لِمَكانة الشَّك وأهمِّيَّته من النَّاحية النَّظريَّة في كثيرٍ من مواضع كتبه، ومن أهم ما قاله في ذلك: «واعرف مواضع الشَّك وحالاتها الموجبة لها لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة لـه، وتعلَّم الشَّك في المشكوك فيه تعلُّماً، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرُّف التَّوقُّف ثُمَّ التَّثبُّت ، لقد كان ذلك مما يُحتاج إليه. ثمَّ اعلم أنَّ الشَّكَّ في طبقاتٍ عند جميعهم، ولم يُجمعوا على أنَّ اليقين طبقات في القوَّة والضَّعف». تتبيَّنُ لنا من ذلك مجموعةٌ من النِّقاط المهمَّة التي تفصح عن أصالة الجاحظ وتجلو ملمحاً من ملامح عبقريَّته، فهو لم يرد الشَّكَّ لمحض الشَّك، ولا يقبل أن يكون الشَّكُّ كيفما اتَّفق ولا في كلِّ أمرٍ على حدٍّ سواءٍ ولا بالطريقة ذاتها؛ إن الشَّك الجاحظيَّ، بهذا المعنى، لا يختلف البتة عن الشَّك المنهجيِّ عند الفيلسوف الفرنسي رينه ديكارت، فكلُّ منهم أراد الشَّكَّ طلباً للحقيقة؛ الحقيقة الجلية الواضحة، التي لا تقبل تفاوتاً في الدَّرجات. ونجد انَّ المتتبـُّعَ لكتب الجاحظ ورسائله يكشفُ لنا عن عقليَّة نقديَّةٍ بارعةٍ؛ نقديَّةٍ بالمعنى الاصطلاحي المنهجي وبالمعنى الشَّائع للانتقاد، فنقده بالمعنى الشَّائع يتجلَّى أكثر ما يتجلَّى في تهكُّمه وتعليقاته السَّاخرة التي لم يسلم منها جانبٌ من جوانب المعرفة ولا مخطئٌ أمامه أو واصلٌ إليه خبره، ومن ذلك مثلاً تهكُّمه على الخليل بن أحمد الفراهيدي من خلال علم العروض الذي قال فيه: «العروض علمٌ مردود، ومذهبٌ مرفوض، وكلام مجهول، يستكدُّ العقول، بمستفعل ومفعول، من غير فائدة ولا محصول».
أما نقده المنهجيُّ فما أكثر ما تجلَّى في كتبه ورسائله في تعامله مع مختلف الموضوعات المعرفيَّة؛ العلميَّة والأدبيَّة، ومن ذلك نقده لعلماء عصره ومحدِّثيه ورواته وفقهائه والعلماء السَّابقين، والشَّواهد على ذلك جدِّ كثيرة، تجعلنا حقًّا في حيرة أمام اختيار واحد منها.
وإذا كان النَّقد هو الخطوة اللاحقة على الشَّكِّ فإنَّ المعاينة والتَّجريب هي الخطوةُ المقترنة بالنَّقد والمتلازمة معه، وخاصَّةً في مسائل العلم الطَّبيعي، والجاحظ لم ينس هذه الخطوة ولم يتناساها بل جعلها عماداً لازماً من أعمدة منهجه البحثي، وقد بدا ذلك في اتجاهين؛ أولهما قيامه هو ذاته بالمعاينة والتَّجريب، وثانيهما نقل تجارب أساتذته ومعاصريه. وقـد أجرى الجاحظ كما أخبرنا تجارب ومعايناتٍ كثيرةً للتَّثبُّت من معلومةٍ وصلت إليه، أو لنفي خبرٍ تناهى إلى سمعه ولم يستسغه عقله، والأمثلة على ذلك جدُّ كثيرة نذكر منها تجربته في زراعة شجرة الآراك وقصَّته الطَّويلة معها للتَّأكُّد مما قيل عن تكاثر الذَّرِّ عليها وكذلك عندما أجمع أناس، بينهم طبيبٌ، على أنَّ الجمل إذا نُحِر ومات والتمست خصيته وشقشقته فإنهما لا توجدان، فأرسل إلى جزَّار أن يأتيه بالخصية والشقشقة إذا نحر جملاً، ففعل، فلم يكتف بذلك، فبعث إليه رسولاً يقول: «ليس يشفيني إلا المعاينة» ففعل ودحض هذا الادعاء ولجأ أيضاً إلى تجريب بعض المواد الكيماويَّة في الحيوان ليعلم مبلغ تأثيرها فيها، وليتأكَّد مما قيل في ذلك ومما أورده من تجارب غيره تجربة أستاذه النَّظَّام عندما سقى الحيوانات خمراً ليعرف كيف يؤثِّر الخمر في الحيوان، ولم يكتف بنوعٍ واحدٍ بل جرَّب على عددٍ كبيرٍ من الحيوانات كالإبل والبقر والجواميس والخيل والظِّباء والكلاب والحيَّات وغيرها.
أما عن منهجه في معرفة الحلال والحرام فيقول : “إنما يعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق، وبالسنة المجمع عليها، والعقول الصحيحة، والمقاييس المعينة” رافضًا بذلك أن يكون اتفاق أهل المدينة على شيء دليلاً على حله أو حرمته؛ لأن عظم حق البلدة لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولأن أهل المدينة لم يخرجوا من طباع الإنس إلى طبائع الملائكة “وليس كل ما يقولونه حقًا وصوابًا”. فقد كان الجاحظ لسان حال المعتزلة في زمانه، فرفع لواء العقل وجعله الحكم الأعلى في كل شيء، ورفض من أسماهم بالنقليين الذين يلغون عقولهم أمام ما ينقلونه ويحفظونه من نصوص القدماء، سواء من ينقلون علم أرسطو، أو بعض من ينقلون الحديث النبوي.