الخشوع …

قال تعالى:” لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” الحشر 21

خَشَع يَخْشَعُ خُشوعاً واخْتَشَع وتَخَشَّعَ: رمى ببصره نحو الأَرض وغَضَّه وخفَضَ صوته. وقوم خُشَّع: مُتَخَشِّعُون. وخشَع بصرُه: انكسر .قال ذو الرمة:

تَجَلَّى السُّرى عن كلِّ خِرْقٍ كأَنه صَفِيحةُ سَيْفٍ، طَرْفُه غيرُ خاشِع
وقيل: الخُشوع قريب من الخُضوع إِلا أَنّ الخُضوع في البدن، وهو الإِقْرار بالاستِخْذاء، والخُشوعَ في البدَن والصوْت والبصر كقوله تعالى: خاشِعةً أَبصارُهم؛ وخَشَعتِ الأَصواتُ للرحمن . وقوله: وخشَعتِ الأَصوات للرحمن؛ أَي سكنت، وكلُّ ساكنٍ خاضعٍ خاشعٌ.

وعمل القلب هو الأساس، وعمل الجوارح ما هي إلا آثار ومشاهدات لعمل القلب، فإذا خلى القلب من هذه الأعمال كانت الجوارح والبدن كالجسد الميت بلا روح لا فائدة منها، ولا نفع لها؛ لأن المقصود الأصلي هو صلاح القلب وسلامته، فهو كالرأس للجسد.

ومن هذه أعني أعمال القلوب الخشوع والتذلل والسكون بين يدي الرب تبارك وتعالى، عند القيام ببعض الأعمال الصالحات من صلاة، وقيام لليل، وتلاوة القرآن الكريم، والتضرع بين يدي الله- عز وجل-بالدعاء، والاستغاثة وغيرها من الأعمال الصالحات، والخشوع أيضا أصل من أصول الأخلاق المحمودة، التي ينبغي على المسلم مراعاتها.

وأعمال القلوب سواء الواجب منها أو المستحب هي عبودية القلب فيجب الاهتمام بها، فمن عطلها فقد عطل عبودية القلب وإن قام بعبودية الجوارح، فلا بد أن يكون ملك الأعضاء وهو القلب قائما بعبوديته لله سبحانه هو ورعيته.

ويقال: الخشوع، ذوبان القلب وانخناسه عند سلطان الحقيقة. ويقال: الخشوع، مقدمات غلبات الهيبة، وقيل في تعريف الخشوع: هو الانقياد للحق. ويقال: الخشوع: قشعريرة ترد على القلب بغتة عند مفاجأة كشف الحقيقة، وهو قريب من الأول.
وقال الحسن البصري: الخشوع: الخوف الدائم اللازم للقلب. وسئل الجنيد عن الخشوع، فقال: تذلل القلوب لعلام الغيوب. وسئل بعضم عن الخشوع، فقال: الخشوع: قيام القلب بين يدي الحق، سبحانه، بهم مجموع.

ويقول ابن القيم-رحمه الله-: الخشوع قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل والجمعية عليه، وقيل الخشوع: الانقياد للحق، وهذا من موجبات الخشوع فمن علاماته: أن العبد إذا خولف ورد عليه بالحق استقبل ذلك بالقبول والانقياد.

لذلك رأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رجلا طأطأ رقبته في الصلاة فقال يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب.

درجات الخشوع
الدرجة الأولى: التذلل للأمر، والاستسلام للحكم، والاتضاع لنظر الحق.
وقصد بالتذلل للأمر هو القبول والانقياد والامتثال ومواطأة الظاهر الباطن مع إظهار الضعف والافتقار إلى الهداية للأمر قبل الفعل والإعانة عليه حال الفعل، وقبوله بعد الفعل.

وأما الاستسلام للحكم: فيجوز أن يريد به: الحكم الديني الشرعي فيكون المقصود: عدم معارضته برأي أو شهوة، ويجوز أن يريد به: الاستسلام للحكم القدري وهو عدم تلقيه بالتسخط والكراهة والاعتراض، والخشوع هو الاستسلام للحكمين، وهو الانقياد بالمسكنة والذل لأمر الله.

أما الاتضاع لنظر الحق: فهو اتضاع القلب والجوارح وانكسارها لنظر الرب إليها واطلاعه على تفاصيل ما في القلب والجوارح.
الدرجة الثانية: ترقب آفات النفس والعمل، ورؤية فضل كل ذي فضل عليك، وتنسم نسيم الفناء.
ومعناه كما يقول ابن القيم-رحمه الله: انتظار ظهور نقائص نفسك وعملك وعيوبهما من فإنه يجعل القلب خاشعا لا محالة لمطالعة عيوب نفسه وأعماله ونقائصهما: من الكبر والعجب والرياء وضعف الصدق وقلة اليقين.

وأما رؤية فضل كل ذي فضل عليك: فهو أن تراعي حقوق الناس فتؤديها ولا ترى أن ما فعلوه من حقوقك عليهم فلا تعاوضهم عليها فإن هذا من رعونات النفس وحماقاتها.
وأما تنسم نسيم الفناء: فلما كان الفناء عنده غاية جعل هذه الدرجة كالنسيم لرقته وعبر عنها بالنسيم للطف موقعه من الروح وشدة تشبثها به، ولا ريب أن الخشوع سبب موصل إلى الفناء فاضلة ومفضولة.

الدرجة الثالثة: حفظ الحرمة عند المكاشفة، وتصفية الوقت من مراءاة الخلق، وتجريد رؤية الفضل. فحفظ الحرمة هو ضبط النفس بالذل والانكسار عن البسط والإدلال، وتصفية الوقت من مراءاة الخلق: أنه يخفي أحواله عن الخلق جهده كخشوعه وذله وانكساره لئلا يراها الناس فيعجبه اطلاعهم عليها ورؤيتهم لها فيفسد عليه وقته وقلبه وحاله مع الله, فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل وأنه لا شيء وأنه ممن لم يصح له بعد الإسلام حتى يدعي الشرف فيه .

وأما تجريد رؤية الفضل: فهو أن لا يرى الفضل والإحسان إلا من الله فهو المان به بلا سبب منك ولا شفيع لك تقدم إليه بالشفاعة ولا وسيلة سبقت منك توسلت بها إلى إحسانه.

فضل الخشوع وأهميته

وللخشوع فضائل تدل على أهميته فأهل الخشوع هم أهل الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة قال الله تعالى: ” قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ” المؤمنون: 1-2.
فالخشوع في الصلاة من أسباب فلاح أهل الإيمان، الذين هم في صلاتهم إذا قاموا فيها خاشعون وخشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته وقيامهم فيها بما أمرهم بالقيام به .

والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها واشتغل بها عما سواها، وآثرها على غيرها وحينئذ تكون راحة له وقرة عين، فيحصل له فيها الفوز والفلاح، فهي أهم الشعائر في الإسلام.
وقال الشاعر:

ألا في الصلاة الخير والفضل أجمع لأن بها الرقاب لله تخضع
وأول فرض من شريعة ديننا وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع
فمن قام للتكبير لاقته رحمة وكان كعبد باب مولاه يقرع
وصار لرب العرش حين صلاته نجيا فيا طوباه لو كان يخشع
وقد مدح الله -عز وجل- الخاشعين بقوله: “وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ” البقرة 45.

والخشوع قد أمر به الحق -تبارك وتعالى- بقوله: “وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ” الأعراف 205، وقال الله تعالى: ” وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي” طه 14، وقال الله تعالى وقد استبطأ الخشوع من المؤمنين فعاتبهم بقوله: “َلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ”.الحديد: 16,

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: “أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ” إلا أربع سنين .
وقال ابن عباس -رضي الله عنه-:” إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن “.

وحث النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- على الخشوع فعن أبي هريرة- رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “هل ترون قبلتي ها هنا والله ما يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم، وإني لأراكم وراء ظهري”.

ففي هذا الحديث الحث منه -صلى الله عليه وسلم- على الخشوع في الصلاة، والمحافظة عليها بأداء أركانها وشروطها. يقول العلامة النووي -رحمه الله-: وفي الحديث الأمر بإحسان الصلاة، والخشوع، وإتمام الركوع والسجود .

يقول محمد بن سيرين -رحمه الله-: كانوا يلتفتون في صلاتهم حتى نزلت ” قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ .الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ” المؤمنون 1-2 فأقبلوا على صلاتهم ونظروا أمامهم وكانوا يستحبون أن لا يجاوز بصر أحدهم موضع سجوده.
الخشوع من أسباب دخول الجنة.

والخشوع والسكينة والتذلل بين يدي الرب تبارك وتعالى من أسباب دخول الجنة ففي الصحيح من أبي هريرة-رضي الله عنه-: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : ” سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله . ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ” متفق عليه “.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “عينان لا تسمهما النار عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله” .
والخشوع من صفات الأنبياء الكرام عليهم -الصلاة والسلام- ومن صفات عباد الله الصالحين:

قال سبحانه وتعالى: ” فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ” الأنبياء 90

وقال -عز وجل- في صفات المؤمنين: ” إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً” الأحزاب 35

وأثنى على المؤمنين من أهل الكتاب ومدحهم بخشوعهم لله تبارك وتعالى فقال – عز وجل- ” وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ” آل عمران 199.

والخشوع من أسباب قبول الأعمال ومغفرة الذنوب
وفي الصحيح عن عثمان بن عفان-رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “ما من امريء مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله” .
الخشوع من أسباب نزول الملائكة والسكينة
فالسكينة والخشوع في تلاوة القرآن الكريم من أسباب نزول الملائكة الكرام .

الخشوع في الصلاة
ومما ينبغي أن يعلم أن الصلاة التي تقر بها العين ويستريح بها القلب هي التي تجمع ستة مشاهد ذكرها العلامة ابن القيم -رحمه الله- من هذه المشاهد مشهد الصدق والنصح وهو أن يفرغ قلبه لله فيها ويستفرغ جهده في إقباله فيها على الله، وجمع قلبه عليها وإيقاعها على أحسن الوجوه، وأكملها ظاهرا وباطنا فإن الصلاة لها ظاهر وباطن فظاهرها الأفعال المشاهدة، والأقوال المسموعة، وباطنها الخشوع والمراقبة وتفريغ القلب لله، والإقبال بكليته على الله فيها بحيث لا يلتفت قلبه عنه إلى غيره فهذا بمنزلة الروح لها والأفعال بمنزلة البدن فإذا خلت من الروح كانت كبدن لا روح فيه أفلا يستحي العبد أن يواجه سيده بمثل ذلك.

والخشوع هو أساس الصلاة وجوهرها ، وأعلم أن الخشوع في الصلاة على ثلاث مراتب :
-المرتبة الأولى: خشوع خوف وانكسار وإذلال وهو للعباد والزهاد،
-المرتبة الثانية: خشوع تعظيم وهيبة وإجلال وهو للمريدين السالكين،
-المرتبة الثالثة: خشوع فرح وسرور وإقبال وهو للواصلين من العارفين ويسمى هذا المقام قرة العين.

فالخشوع من أهم أعمال القلوب التي ينبغي للمسلم الاهتمام والعناية بها لمن أراد الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، خاصة وأن هذه العبادة، والعمل القلبي من أول العبادات التي ترفع عن هذه الأمة، فهذا حذيفة -رضي الله عنه- يقول: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة ورب مصل لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعا.

والله نسأل أن يجعلنا من الخاشعين، المخبتين، المنيبين له، إنه على ما يشاء قدير، وأن يلهمنا الرشد والصواب والتوفيق والسداد، والحمد لله رب العالمين، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة، وصلى الله وسلم على إمام الخاشعين، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

بواسطة
د. خضر موسى محمد حمود - الأردن
المصدر
مقال الرأي يُنشر في الجريدة ويعكس في الأساس رأي الكاتب حول الموضوع الذي كتبه ولا يعبر بالضرورة عن صوت المواطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق