المرأة والحياة الروحية فى الإسلام

دكتوراه فى الفلسفة الإسلامية والتصوف-جامعة المنيا-
إن الثقافة الإسلامية بحر متلاطم الأمواج,واسع الأبعاد ,يقف الإنسان بشاطئه فيجد أمامه من جهود الفكر البشرى فى فهم الوحى الإلهى وخدمته,وفى خدمة اللغة العربية وتوسيع دائرتها ,فيجد ذلك العجب العجاب,وكما أن بحار العالم ومحيطاته كثيرة فإن الثقافة الإسلامية بحار شتى ومحيطات شتى ,ومن تلك الأبحر التصوف.

حيث يمثل التصوف جانباً من جوانب الفلسفة الإسلامية من ناحية ,وبوصفه تحقيقاً للعقيدة الإسلامية الجامعة بين العقل والروح من ناحية أخرى.وإن هدف الإسلام هو أن يكون الإنسان مستقيماً وسبيل ذلك هو أن يحيا- الإنسان – دينه ظاهراً وباطناً فى إطار ينسجم العقل فيه مع القلب ويتحد الجسد مع الروح ,وليس التصوف إلا سعياً ليرتقى بالإنسان إلى تهذيب السلوك,وكيفية السمو والإرتقاء بالنفس البشرية بالتزكية والتصفية ,عن طريق علاج أمراض القلب ,وتقويم الجوارح وفق ضوابط الشريعة,والسمو الإخلاقى عن ملذات الدنيا وشهواتها للفوز برضى الله تعالى ,ونيل سعادة الدارين.

ولما كان التصوف من العلوم التى نشأت فى الإسلام واستأثر فيه الرجال بنصيب كبير من الزهد والتصوف ,وانفردوا به فى تصانيف كثيرة؛ فقد جرت العادة بين من يكتبون عن التصوف أن يذكروا أقطاب الزهد والتصوف من الرجال ,وذكر أدوارهم وجهودهم فى الفكر الصوفى,من تعريفات للزهد والتصوف والصوفى,إلى غير ذلك مما قد يشتمل عليه هذا العلم ويغفلون ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات. مع أن المرأة فى الحياة الروحية فى الإسلام كان لها دور لا يضام, فهى إنسان سوي كالرجل .
فالتصوف الحقيقي لا يستعمل اللغة الذكورية في أي شأن يمس المرأة بل أجاز التصوف تسليك المرأة وأن يتولاها شيخ , فهناك مريد ومريدة وسالك وسالكة , وعارف وعارفة ، وقد تتصوف الزوجة دون زوجها أو يتصوف الإثنان معاً ولا ضير في ذلك.

ولقد رفض التصوف والمتصوفة اعتبار الجنس ميزان التفاضل بين الذكر والأنثى ، عندما اعتبر التقوى هي الميزان الذي يتفاضل بحسبه الإنسان ذكرا كان أو أنثى كما جاء فى قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (سورة الحجرات:اّية:13).

ولو عدنا إلى المتصوفات في طريق التصوف؛فسوف نجد أنهن كثيرات رغم أن كتب التاريخ والسير والتراجم لم تحتفظ لنا بالكثير من أخبارهن وحكاياتهن، وإذا كانت المصادر صمتت عن ذكرهن فلا يعني ذلك أن طريق التصوف الصحيح كان خالياً من النساء المتعبدات الصوفيات.

والتصوف المقصود هنا ليس طريق البدع والضلالات التي شابت فترات وأشخاصا وطرقا ومشايخ من المتصوفة، ولكنه التصوف الذي عرفه “أبو عبد الرحمن السلمي” بأنه ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع والضلالات، أو كما عرفه الإمام الجنيد بأن “كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع سنته، ولزم طريقته، فإن الخيرات كلها مفتوحة عليه”، وربما يجعل هذا التحديد المنهجي للتصوف المقصود الاصطدامَ التقليدي بين السلفيين والمتصوفة يخفت؛ لأن المدخل الحقيقي للعبادة لا بد أن يكون بالاتباع الصحيح وأن يعرف الاتباع بالعقل والقلب معاً.
ولعل أول ما يقابلنا في التصوف النسوي أنه كان تصوف عبادة وزهد وإخلاص، بعيدًا عن التفلسف ، وبعيدا عن الشطحات التي احتفظت لنا بها بعض كتب المتصوفة؛ فهو تصوف ليس به كدر التأثر بالفلسفات الوافدة، كما أنه حمل أبعادًا اجتماعية بمعنى أن هؤلاء العابدات كن الأقرب إلى القيام بالخدمات الاجتماعية والإنسانية، فكان النسيج ملتحما بين التعبد والعمل الاجتماعي، وربما هذا ما أعطى كثيرا من الخدمات الاجتماعية التي كانت تقدمها المتصوفات والتصوف أعماقا إيمانية؛ فكان هناك إطعام للروح والبدن معاً. ولم تكن رابعة العدوية وحدها هى التى باشرت الطريق واشتهرت بأنها لها الفضل فى إشاعة لفظ الحب الإلهى بل إن المدقق الأريب الناظر إلى ما ذكره السلمى لصفوة من الصوفيات المتحققات لهن الأحوال والمقامات والتدرج فى مراتب الحياة الروحية ؛يجد أن هناك متعبدات صوفيات كثيرات وصلن إلى درجة من الرقى الروحى ,وبلغن مبلغاً عظيماً فى هذا الطريق.

وأذكر مثالا على ذلك ما جاء عن السيدة “فاطمة النيسابورية” . تـ 223 هـ . والتي بلغت من الرقي الروحي مبلغاً كبيراً ,وشهد لها كبار الصوفية بما كانت عليه, بل و أرخ لها الكثير من المؤرخين . فها هو أبو عبد الرحمن السلمي يقول عنها “: كانت من العارفات الكبار.وأثنى عليها أبو يزيد البسطامي. (ت 261 هـ) وسألها ذو النون عن مسائل . (ت245 هـ) ولم يكن في زمانها من النساء مثلها

وليس هذا فحسب بل نجد ” ابن عربي” (ت 638 هـ) قد ذكرها في باب ذكر من لقي ذا النون من العابدات . شيخة ” ذي النون” وأستاذته فاطمه النيسابوريةحيث عبر ذو النون عن بعض من ملامح الحياة الروحية عندها وكيف كانت ولية من أولياء الله في فهمها لكتاب الله عز و جل , بل وطلب منها أن تعظه , وهذا يدل علي دور المرأة في الحياة الروحية وكيف كانت مربية لكبار الصوفية في زمانها . فقد سئل ذو النون المصري:من أجل ما رأيت؟ قال: مارأيت أحداً أجل من امرأة رأيتها بمكة يقال لها :- فاطمة النيسابورية- كانت تتكلم فى فهم القرآن ، فتعجب منها ، وسئل عنها – أيضاً – فقال : هى ولية من أولياء الله تعالى، وهى أستاذتى ,فقد سمعتها تقول : من لم يكن الله عز و جل منه على بال فإنه يتخطى فى كل ميدان, ويتكلم بكل لسان ، ومن كان الله منه على بال أخرسه إلا عن الصدق ، وألزمه الحياء منه والإخلاص .

فهى رسمت له الطريق جاعلة أوله المراقبة, لماذا؟لأنها حياء المقربين والمخلصين. ولازالت ترسم معالم الطريق إلى الله -لذي النون- حينما طلب منها الموعظة فقالت له : ” الزم الصدق وجاهد نفسك فى أفعالك وأقوالك ، لأن الله تعالي يقول : ” فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّـهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ “(سورة محمد:21) .ثم توضح له أن الإنسان مهما بلغ منازل الصدق والتقوى لا يغتر أبدا بل عليه أن يسأل ربه الإخلاص والنجاة . فيقول : قالت فاطمة : الصادق والمتقى اليوم في بحر يضطرب عليه أمواجه ، ويدعو ربه دعاء الغريق, يسأل ربه الإخلاص والنجاة.ولعل ترقيها فى مدارج السالكين وعلو حالها ,جعل ذا النون يقول “: لقيت فاطمةالنيسابورية فما ذكرت لها مقاماً إلا وكان ذلك المقام لها حالاً .

بواسطة
محمد حسن معاذ القاضي - مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق