رغم تكفيرهم.. كيف دافع المعتزلة عن الإسلام
دخل الإسلام طوائف كثيرة من المجوس واليهود والنصارى وغير هؤلاء، ورءوسهم ممتلئة بكل ما في هذه الأديان من تعاليم جرت في نفوسهم مجرى الدم، ومنهم من كان يظهر الإسلام ويبطن غيره، إما خوفا ورهبة، أو رجاء نفع دنيوي، وإما بقصد الفساد والإفساد، وتضليل المسلمين، وقد أخذ ذلك الفريق ينشر بين المسلمين ما يشككهم في عقائدهم، وظهر ثمار غرسهم في فرق هادمة للإسلام تحمل اسمه ظاهرا وهي معاول هدمه في الحقيقة، فظهرت “المجسمة” و”الرافضة” التي تقول بحلول الإله في جسم بعض الأئمة، و”الزنادقة”.
وقد تصدى للدفاع عن الإسلام أمام هؤلاء فرقة درست المعقول وفهمت المنقول، فكانت المعتزلة، تجردوا للدفاع عن الدين، وما كانت الأصول الخمسة التي تضافروا على تأييدها، وتأزروا على نصرها إلا وليدة المناقشات الحادة التي كانت تقوم بينهم وبين مخالفيهم. والتوحيد الذي اعتقدوه على الشكل الذي أسلفنا كان للرد على المشبهة والمجسمة، والعدل كان للرد على الجهمية. والوعد كان للرد على المرجئة، والمنزلة بين المنزلتين ردوا بها على المرجئة والخوارج.
وفي عهد المهدي ظهر “المقنع الخراساني” وكان يقول بتناسخ الأرواح واستغوى طائفة من الناس وسار إلى ما وراء النهر. فلاقى “المهدي” عناء في التغلب عليه. ولذلك أغوى بالزندقة والزنادقة، فكان يتعقبهم ليقضي عليهم بسيف السلطان، ولكن السيف لا يقضي على رأي، ولا يميت مذهبا؛ ولذلك شجع المعتزلة وغيرهم للرد على الزنادقة وأخذهم بالحجة، وكشف شبهاتهم وفضح ضلالاتهم، فمضوا في ذلك.
يمكننا أن نلخّص الخدمات التي قدّمها المعتزلة إلى الفكر والحضارة الإسلامية، والتأثيرات التي تركوها بالنقاط التالية:
١- أنّهم أسهموا بشكل فاعل في نقل التراث والثقافة اليونانية في جانبها الفلسفي والعقلي إلى الحضارة الإسلامية، وذلك من خلال اطلاعهم على تلك الثقافة، وتمثّلهم لمعطياتها العقلية والفلسفية .
٢- وكان لهم الفضل الأكبر في الجمع بين الدين والفلسفة، بينما كان معارضوهم يرون في النزعة الفلسفية نوعاً من الزندقة والإلحاد والخروج عن قواعد الدين.
٣- وبفضل تسلّح المعتزلة بسلاح الفلسفة، والمنطق، وعلم الكلام، وأساليب الجدال والمناظرة فإنهم قد أدّوا دوراً كبيراً وبارزاً في الدفاع عن العقيدة الإسلامية إزاء المعتقدات والديانات الأخرى السماوية المحرّفة منها كالمسيحية واليهودية، والمشركة والإلحادية كالمجوسية، والثنوية، والمانويّة، وقد تمثّل هذا الدور إما في مناقشة وإبطال حجج أصحاب تلك المعتقدات والديانات أو في دعوة غير المسلمين الطالبين للحقيقة إلى الإيمان بالعقيدة الإسلامية.
٤- وأخيراً، فقد أرسى المعتزلة دعائم حركة عقليّة واسعة كان لها أكبر الأثر في صياغة الحضارة الإسلامية؛ نظراً إلى أن مذهبهم كان يقوم في الأساس على احترام العقل وتمجيده، والتعويل عليه في استنباط واستنتاج الكثير من الأحكام الشرعية من جهة، وأساليب التفكير السليم من جهة أخرى.
يقول جولد تسيهر في هذا الصدد: “نحن لا نستطيع نكران أنه كان لنشاط المعتزلة نتيجة نافعة، فقد ساعدوا في جعل العقل ذا قيمة حتى في مسألة الإيمان، وهذا هو الفضل الذي لا يجحد والذي له اعتباره وقيمته، والذي جعل لهم مكاناً في تاريخ الدين والثقافة الإسلامية” .
وعلى أثر اعتماد المعتزلة على العقل كمرجع أساس في استنباطاتهم، وتقريراتهم، ونتيجة لعدم جمودهم على النصوص، وتعبّدهم بها بشكل مبالغ فيه، فقد كان لهم دور كبير في إشاعة أجواء حريّة التفكير، والعقل، ونحن نلاحظ هذا الاتجاه بشكل واضح في عصر المأمون، وفي القرن الرابع الهجري.
وقد بلغت هذه النهضة العقلية الجديدة التي أرسى المعتزلة دعائمه أحداً من العمق والتأثير والاتّساع بحيث أنها تركت آثارها حتى على أهل الحديث أنفسهم، وتجلّى هذا التأثير بشكل خاص لدى الأشاعرة رغم عدائهم للمعتزلة، وحربهم الفكرية ضدّهم، وانضمام الكثير من أهل الحديث إلى صفوفهم، فقد آمنوا مع المعتزلة بأنّ البرهان المؤسس على العناصر النقلية لا يعطينا أيّ يقين، وكانوا في بحوثهم الكلامية متأثرين بالمعتزلة إلى حدّ كبير.
لعبت المعتزلة دورا رئيسيا ومهما في رحلة تطور الفكر الإسلامي على مر التاريخ. ونظرة سريعة إلى معتقدات الفرق والمدارس المختلفة في مجال العقيدة ترينا الآثار والبصمات التي تركها عظماء المعتزلة على معظم هذه الفرق والمدارس.
وقد لاحظ ذلك نيكلسون في كتابه عن تاريخ الآداب العربية، حيث يقول:
“إن المعتزلة قد رفعت بطريقة غير مباشرة الفكر الإسلامي إلى درجة تستحق الاعتبار”. وامتدح دورهم الإمام أبو زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الإسلامية، حيث يقول: “إن هؤلاء ( المعتزلة) يعدون فلاسفة الإسلام حقا”.
وحتى جولد تسيهر قد اعترف في كتابه العقيدة والشريعة بتأثير المعتزلة العظيم على الفكر العربي، قائلا: “نحن لا نستطيع نكران أنه كان لنشاط المعتزلة نتيجة نافعة. فقد ساعدوا في جعل العقل ذا قيمة، حتى في مسألة الإيمان. وهذا هو الفضل الذي لا يجحد، والذي له اعتباره وقيمته، والذي جعل لهم مكانا في تاريخ الدين والثقافة الإسلامية.
ثم إنه برغم كل الصعوبات التي أثارها مذهبهم، وكل ما أنكروه على خصومهم، فإن حق العقل قد انتصر على إثر كفاحهم بنسبة صغيرة أو كبيرة، حتى في الإسلام السني، ولم يكن هينا بعد هذا إبعاده تماما”.
أما العالم المصري أحمد أمين، فيقول: “وكان للمعتزلة الفضل الأكبر في علم الكلام، لأنهم كانوا أكبر المدافعين عن الإسلام ضد ما كان يثيره اليهود والنصارى من هبوب. حتى لقد كانوا فيما روي يرسلون أتباعهم الكثيرين إلى البلدان الأخرى لرد هذا الهجوم ردا عقليا”. وهو يأسف على زوال المعتزلة، حيث يقول: “في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة، وعلى أنفسهم جنوا”.
وحتى الذين هاجموا المعتزلة بشدة، وكفروهم، ونسبوهم إلى الزندقة والإلحاد، فإنهم مدينون للمعتزلة بشهرتهم؛ لأن المعتزلة هم الذين وضعوا أسس علم الكلام، وبحثوا في موضوعات ومسائل لم يسبقهم إليها أحد؛ فلولا أنهم أبدعوا وألفوا المصنفات المختلفة، وبحثوا في مسائل علم الكلام، لما وجد من هاجمهم شيئا يبحث فيه، وينقده. ومن ينكر أنه لولا ظهور المعتزلة، لما سمعنا عن شخصيات كبيرة في الإسلام اليوم، مثل أحمد بن حنبل، والأشعري، والباقلاني، والبغدادي، والجويني، والغزالي، بل وابن الريوندي.
إن موقف كل هذه الشخصيات المعروفة في تاريخ الإسلام من المعتزلة هو موقف الناقد من الكاتب المبدع. لقد أبدع مفكرو المعتزلة، وأثروا الثقافة الإسلامية بكتاباتهم، وتصانيفهم العديدة، وأخطأوا قليلا، ولكنهم أصابوا كثيرا فيما ذهبوا إليه.
أما ابن حنبل، والأشعري، والباقلاني، والبغدادي، والجويني، والغزالي، وابن الريوندي، فقد كانوا نقادا أكثر منهم كتابا مبدعين. وليس يشك أحد في أن مرتبة الأصالة والإبداع أرفع وأسمى من مرتبة النقد والتجريح. يقول المستشرق السويدي نيبرج: “… ولو لم تكن المعتزلة مهدت الطريق، لما كان لأهل السنة تقدم في هذا الفن، مثل تقدمهم. ثم نريد أن نشير إلى شيء آخر، وهو أن قوما هذا شأنهم وموقفهم إزاء أعداء كثيرين، ونحل مختلفة متدربة على المناظرة به، لا بد وأن يكون في أسلوبهم شيء من الضعف والتردد، والعدول عن سواء السبيل. إذ من نازل عدوا عظيما في معركته، فهو مربوط به، مقيد بشروط القتال، وتقلب أحواله، ويلزم أن يلاحق عدوه في حركاته وسكناته، وقيامه وقعوده، وربما تؤثر فيه روح العدو وحيلته. كذلك في معركة الأفكار أيضا”.