لغة التدريس بالمغرب بين لغة الأم و” لغة الأمة “
يتحدث المغاربة في بيوتهم، وفي الدوار والحي وكل مناحي الحياة العامة، والإدارة وكل المؤسسات لغاتهم الأم: الأمازيغية وتنويعاتها التي لا يمس الاختلاف بينها إلا الصوت والمعجم ولا يمتد إلى الصرف والتركيب أي البنية القاعدية للغة، وهذا موضوع آخر يمكن التعمق فيه، والدارجة المغربية وهي مجال توارد بين الأمازيغية والعربية في صورتها المغربية والحسانية جنوب كلميم وهي أيضا لسان يجمع أمازيغية صنهاجة، لغة السكان الأصليين للصحراء، وعربية الوافدين.
إلا أن الطفل، وبعد أن يكون قد قضى ست أو سبع سنوات في كنف أمه، وفي الحي أو الدوار، ولا يسمع إلا ألسن ذويه المذكورة، يصطدم وهو يلج المدرسة أول مرة بلسان آخر لم يسمع به قبل ذلك: العربية الفصحى، لسان أريد له أن يفرض بالقوة لتعريب المغاربة. فيجد المدرس نفسه أمام أطفال أبرياء تعلموا طيلة ست أو سبع سنوات لغات أمهاتمهم بمعاجمها وصرفها وتركيبها، وأتقنوها نطقا، ولا ينقصهم إلا أن ينتقلوا إلى كتابتها، ليصطدموا بعالم آخر ولغة أخرى اتخذها المسؤولون، إلى جانب وضعها كلغة مدرسة لغة تدريس لباقي المواد.
يجد المدرس نفسه معاقا تواصليا أمام الأطفال الناطقين بالتنويعات الأمازيغية إن كان قادما من وسط ناطق بالدارجة، ويجد نفسه معاقا تواصليا أمام أطفال ناطقين بالحسانية إن كان قادما من أوساط لا تتحدث فيها الحسانية، ويذوق صنوف العذاب وهو يحاول تنفيذ برامج دراسية انطلق واضعوها من كون العربية الفصحى لغة أم لكل المغاربة، فقرروا تأسيسا على نزوتهم/ حلمهم/ مشروعهم ذاك اعتمادها كلغة وحيدة للمدرسة تدرس للأطفال وتدرس بها مختلف المواد والعلوم، والحقيقة والواقع أن لا أحد من المغاربة يتحدث العربية الفصحى ولا يصادفها إلا أثناء الصلاة أو في الوثائق الرسمية أو نشرات الأخبار.
يقضي المعلم فترات عصيبة يجد نفسه وسطها بناء على قرارات لمن لا يعرفون أو لا يريدون أن يعترفوا بكون العربية الفصحى لغة غريبة عن بيوت المغاربة وعن أحيائهم ودواويرهم، وأن أطفالهم لا يمتلكون لا معجمها ولا صرفها ولا تركيبها. وهنا تحضرني طرائف تحدث للبعض منا أثناء تقديم دروس مكونات وحدة اللغة العربية خصوصا في المستويات الثلاث الأولى من التعليم الابتدائي.
ينطلق أول درس من دروس مكون التعبير في المنهاج القديم بنص للانطلاق يتلوه المعلم ويحاول تقريب مضمونه بصويرات، إن وجدت، يقرأ النص المصوغ بعربية فصيحة، لا تفاعل على الإطلاق والسبب معلوم: الأطفال لا يعرفون ولو كلمة من اللغة المصوغ بها النص، يمر المعلم إلى باقي مراحل الدرس وينتهي كما بدأ دون تفاعل، ويقضي حصة القراءة على نفس المنوال، يعلق الصويرات على السبورة الوبرية، ويستدرج التلاميذ للتعبير عن محتوياتها لاستخراج الحرف موضوع الدرس، وأين لتلميذ ناطق بالأمازيغية أن يأتي باسم عربي فصيح لحيوان أو نبات أو جماد؟
ويحكى أن معلما عين بمنطقة ناطقة بالأمازيغية علق صورة ضفدعة على السبورة وطرح السؤال: ما هذا؟ لم يلق سؤاله أي تجاوب إلا من طفل متوار في الخلف يحاول رفع أصبعه، أشار عليه الأستاذ مستنجدا برد مهما كان، فقال الطفل ببراءة: أَڭْرٌو. نهره المعلم غير الناطق بالأمازيغية رغم سلامة جوابه، حاول أن يعثر على إجابة عند بقية التلاميذ دون أمل، فقال للتلميذ الوحيد الذي تجرأ على الرد: هذه ضفدعة، رددها الآخرون وعاد الطفل إلى مقعده هامسا إلى زميله في نفس المقعد: أُولاَّهْ أَوْدِّي أَرْ نٍّيغْ إٍيزْدْ أَكْرُو تعريبها: كنت ظانا أنها أَكْرُو، وهو ما يطلق على الضفدعة بالأمازيغية. مغزى الحكاية أن كثيرا من الجهد نضيعه في تغيير أسماء الأشياء من لغات حية بيننا إلى لغات يراد لها أن تحيا بالقوة وليس بالفعل.
بينما كانت شعوب، تحتل المراتب المتقدمة اليوم بين الأمم الراقية قيما واقتصادا وتجارة ومالا وتصنيعا كالصين واليابان تنطلق من ذواتها وتبويء المواطن الفرد المكانة اللائقة به باعتباره مركز أي تنمية منشودة دون الانغلاق على أنفسها واعتبار ما تمتلكه الحقيقة المطلقة، قرر مسؤولون علينا كل همهم تعريب المجتمع المطلق أو أسلمته تعريب التعليم، قرار آخر لا يستند على أية خلفية علمية بل منطلقه خلفيات إيديولوجية يحكمها التطلع إلى التعريب المطلق، تواصل تعريب المقررات الدراسية، واستمر التعليم في الاندحار وأضحت الشهادات التعليمية المغربية تفقد مكانتها وصيتها العالميين، ليجد أبناء المغاربة أنفسهم في نهاية مساراتهم الدراسية غير قادرين على التواصل بلغاتهم الأم التي يصر بعض الساسة حملة الفكر السلفي أو القومي أو الإسلاموي على محاربتها وإبعادها عن المدرسة، غير قادرين على التواصل بالعربية الفصحى التي تمتص آلاف الساعات من أعمارهم وملايير الدراهم من جيوبهم كل عام فقط لأن بعض الساسة يصرون على فرضها، وعاجزين عن مواصلة تحصيل المواد العلمية بلغات نشأت العلوم في أكنافها ووضعت الأرضية المفاهيمية لتلك العلوم، ليقرر مسؤول، همه تعريب البشر والشجر والحجر، قرر ذات نزوة تعريبها دون أن يأخذ برأي أهل العلم وذوي الاختصاص، فاتحا أبواب التجهيل على مصراعيها أمام ملايين التلاميذ ممن أضحوا يتلقون دروس العلوم بالعربية الفصحى إلى غاية الحصول على الباكالوريا ليجدوا أمامهم التعليم العالي وكبريات المدارس والمعاهد تعتمد لغات العلوم الأصلية في تدريس تلك العلوم.
إن صوت العقل، وليس صوت القلب، ينادي كل غيور على هذا الوطن للنظر إلى الواقع بعين مغربية، لا شرقية ولا غربية، لا قومية ولا سلفية إسلاموية؛ النظر إلى أبناء المغاربة كما هم لا كما يريدهم، ومنهم الناطقون بالأمازيغية والناطقون بالدارجة المغربية والناطقون بالحسانية وينطلق منهم: من ثقافاتهم ولغاتهم وأوساطهم لاتخاذ القرارات التي تؤهلهم لخدمة الوطن. ومن القرارات مقررات دراسية تناسبهم بلغاتهم الأم، وتبويئ العربية الفصحى مكانتها الحقيقية، بعيدا عن أي إيديولوجيا، باعتبارها ليست لغة أما لأي من المغاربة، وتدريسها طبقا لتلك الوضعية كلغة مدرسة واختيار المنهج المناسب لتلك الوضعية، ووقف اعتبارها لغة لتدريس باقي المواد، وتدريس العلوم باللغات التي نشأت في أحضانها ووقف مسلسل التعريب/ التخريب الذي لم يفلح في تعريب المغاربة، وهو القصد المسكوت عنه من المشروع، ولم يفلح في إيصال أبنائهم إلى بر الأمان متملكين مختلف الكفايات وعلى رأسها وفي صلبها التواصل وفي صلبها تأهيلهم لولوج المعاهد والمدارس التي لا تدرس أيا من علومها بالعربية الفصحى بل بالفرنسية والانجليزية.