مقهى الغاردينيا..
لم اكن في تلك الأيام اعرف الكثير من قصص الإنجيل، فرحت استمع اليهما ونحن نقطع الشارع، عن قصة ذلك الرسول الذي كان من أعدى أعداء المسيحيين وكيف اضطهدهم زمنا قبل ان يهتدي ويصبح على رأس المبشرين والداعين إلى الدين الجديد.
فبينما هو على الطريق إلى دمشق قادما من أورشليم بحثا عن المسيحيين أبرق حوله نور من السماء فسقط على الأرض خوفاً، ثم سمع من البرق صوتا يناديه باسمه الاصلي قائلا : شاؤول شاؤول، لماذا تضطهدني؟
فقال بولس : من انت يا سيد؟
فقال الصوت : انا يسوع الذي تضطهده.
فقال بولس وهو يرتعد : يا سيد ماذا تريدني ان افعل؟
فقال له الصوت : قم وادخل دمشق وهناك ُيقال لك ماذا تفعل.
وعندما نهض بولس كان قد فقد البصر، فاقتاده المسافرون في القافلة، وادخلوه دمشق، وسكن بتا في شارع يقال له المستقيم. وكان لا يأكل ولا يشرب. كان في دمشق تلميذ مسيحي اسمه حنانيا، فجاءه وحي من الرب (أن اذهب الى بيت بولس وضع يدك على عينيه فيُبصر)، فأبصر بولس في الحال وقام فتعمد على يدي حنانيا ثم أكل وتقوّى وراح في اليوم التالي يكرز بالمسيح.
ولكن اليهود اللذين أرسلوه تتبعوه ليقتلوه وراحوا يراقبون ابواب المدينة ليل نهار. فأخذه التلاميذ ليلا وانزلوه عن سور المدينة في سلة، ونجا بولس ليغدو واحداً من أهم رُسل الدعوة.
أنهكنا التعب وافترقنا ظُهرا بعد ان تواعدنا على اللقاء مساءً في المقهى.
عندما التقينا في المساء، كانتا تتناولان البيرة المثلجة، قالت احداهما : اعتقد انه من الأفضل لنا ونحن في طائرة العودة أن ننسى كل ما رأيناه على ارض الواقع لكي نحافظ على حُلم الشرق حيا في النفس.
قلت : لماذا لا تعودان مرة اخرى بتصورات أكثر واقعية؟
قالت اصديقتها وهي تنظر إليّ من وراء نظارتها نظرة ثابتة وحنونة : أيها الشاب يبدو لي أن الحلم والخيال أكثر غذاءً للنفس من الواقع.!
بعد ثلاثون عام،
أدركتُ صدق مقولة تلك السيدة.
*
فالانسان كائن محب للقصص والحكايا بالرغم من عقلانيته وكفائته في التعامل مع واقع الحياة اليومية، إلا انه دوما يسعى المفارقة هذا الواقع الى عالم من صنع الخيال، انه منجذب عاطفياً الى ما وراء الملموس، يتجلّى هذا الانجذاب في التعبير الفني بكل أشكاله، كما يتجلى في التعبير الأدبي بدأ ًمن الاسطورة والحكايات الشعبية والخرافات حتى الملاحم والسيَر البطولية.
لكن الكتابات الادبية الشبيهة بالاسطورة لا تؤخذ على محمل الجد ولا ينطوي على مؤيد ذاتي يلزم الراوي والمستمع بتصديقه او الايمان برسالته، فإن هالة القداسة التي تحيط بالاسطورة تسمو باحداثها الى مستوى الرمز، وتجعل من مضامينها السرمدية رسالة موجهة لبني البشر.
هذا الوضع المتميز للاسطورة جعلها من بين الاشكال الادبية الأكثر تلبية لحاجة الإنسان القديم لفهم نفسه ككائن تاريخي يقع في نقطة المنتصف بين البدايات والنهايات، ولفهم أصل الحاضر المتجذّر في الأحداث الماضية صعودا نحو ازمان الخلق والتكوين الأولى.
بذلك عقد صلة لا تنفك بين الاسطورة والتاريخ، وراحت كل ثقافة تبحث عن ماضيها وماضي الانسانية من خلال عملية قص تاريخي مشبع بالميثولوجيا. وولد جنس الكتابة التاريخية كنتاج للقص الأسطوري.
لم يعد الإنسان يرى في الاحداث الماضية او الحاضرة انها نتاجا لتدخّل قوى ما ورائية فتجرد التاريخ من قداسته، وعندما بحث الإنسان في الأسباب والنتائج من خلال روابطها وصلاتها الواقعية، ولد علم التاريخ وحلّ مكان الاسطورة في تكوين الذاكرة الجمعية، وعرّف الإنسان بدوره في صنع تاريخه، وبأهمية نشاطه الخلاّق وأثره على الصيرورة التاريخية.
لكن هذا العلم بقي مرتبطا بأصوله الاولى كفن ادبي قصصي يستلهم الاسطورة ويتكيء عليها فمن يقرأ اليوم بيروسوس البابلي ومانيتو المصري وهيرودتس الاغريقي، يعرف الى اي مدى تم استلهام الاساطير واعيد صياغتها باعتبارها تاريخ.
ولم ينج علم التاريخ الحديث أيضا رغم مناهجه العلمية، من هذه الآفة المتأصلة والتي تقارب قوة وطريقة صياغة القصص المؤثرة اقرب الى الحدث التاريخي.
تزداد العلاقة بين الادب والتاريخ تعقيدا عندما يتم تجنيد الكتابة التاريخية لصالح الايديولوجيات الدينية او القومية، هنا يغيب التفكير المنطقي والمنهج العلمي وتحل القصص الاسطورية محل الحقائق التاريخية، ويغيب ما حصل فعلا ويظهر مكانه ما نتمنى ان يحصل فالأيديولوجيات الدينية لا تكتفي بتفسير التاريخ بل تعمل على خلق التاريخ (لأن ما هو أهم من الماضي هو أثر الماضي على المواقف ووجهات النظر الثقافيه في الحاضر).*
وهنا تصبح استثارة الماضي من اكثر الااستراتيجيات شيوعا في تأويل الماضي لا في فهمه، ويتحول الصراع على الماضي صراع على الحاضر. من خلال انتكارات خيالية لماضِ يعاد بناؤه بشكل تعسفي.
ويستمر طغيان الادب على التاريخ وتعلو تهويمات القصص على والحكايا فوق احداث الماضي الهاجعة وتتحول الكتابات التاريخية الى صياغات عقائدية وبلاغية مشحونة بالعواطف والانفعالات….
(ان أخطر سردية تاريخية انتجها هذا العوج في الفكر والسيكولوجيا الإنسانية، هي السردية المتعلقة بما يُدعى (تاريخ بني إسرائيل) والتاريخ اليهودي الملحق به.) **
هنا التقت الرؤية المنحرفة للأيديولوجيا القومية بالرؤية المنحرفة للأيديولوجيا الدينية وصاغتا اكثر السرديات ضلالا وبعدا عن منطق وحقائق التاريخ.
وهنا تجلت القصة المشبعة بالاسطورة في أبشع اشكال سطوتها وقفزها على الحدث والواقع عندما تحولت سلسلة ألف ليلة وليلة التوراتية الى تاريخ فلسطين القديمة والى مصدر موثوق من مصادر الشرق القديم.
أحمد
*ادوارد سعيد(الثقافة والامبريالية) ص ٨٧
**فراس سواح (تاريخ اورشليم) ص٩٠