أزمة الكاتب
وهذه الأزمة ربما تأتي بإبداع كبير أو مبدع مثير وكليهما يصيبنا منه شطط الإبداع وشطون الإمتاع ؛ ولربما كانت أزمة الكاتب من هذا القبيل .
لا أعرف مبدعاً في أي مجال إبداعي إلا والأزمة كانت سبباً في نبوغه واستمرار ذيوعه بين الناس الدهر الطويل ؛ وشكلها من تداعيات الفكرة حين يريد صاحبها إبرازها أو قل : تخليدها في أذهان الناس بأكثر من كيفية لأكثر من تداع ؛ فتضطرب فكرته بعد لأي ثم يعيدها مراراً وتكراراً على الورق أو عرضها على مقياس القبول لدى المتلقي ذوقا واحساسا تارة وأخرى بمقياس النقد الذاتي تارة أخرى ؛ ثم آخر أمره تخرج من رحم تلك المعاناة والمعاني في ثوب قشيب أو ثوب هلبسيس أيهما كان .
على سبيل المثال لا الحصر أذكر في قراءتي لعدد من الكتاب وترجماتهم كم من المعاناة والمعاني بلغ شأوهم وشأنهم لكنهم أفادوا أنفسهم وقراءهم بلا ريب كالأستاذ الكبير المرحوم / عبد الله الطيب _ رحمه الله _ فقد كان يكتب كتابه المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها في أول الخمسينيات من القرن الماضي ب” لمبة الجاز ” وربما استعان بالشمع يوقدها فيكتب ؛ ويعد هذا السفر ذي الأربعة أجزاء في خمسة مجلدات من أهم المراجع الأدبية في عصرنا الحديث فلا غنى لطالب الأدب إلا أن يستعين به بحال من الأحوال ؛ وهو القائل :
شعر من الخمر الرصين خبأتها * ما مثلها البردان أو قطربل
والبردان – بتحريك الباء والراء والدال – وقطربل – بضم القاف وتسكين الطاء وضم الراء والباء – موضعان اشتهرا بالخمر الجيدة ؛حيث بلغت مؤلفاته ما ربى على الخمس وأربعين كتابا .
وليس عميد الأدب العربي الأستاذ الدكتور الكبير المرحوم / طه حسين – رحمه الله – عما نقول ببعيد ؛ فقد كان يملي تآليفه على الأستاذ / فريد – رحمه الله – ؛ وهو من بعد يذهب بها إلى المطبعة ؛ في ظروف قاسية ونعرف عن العميد إصابته بالعمى أول صباه ويعتبرها من أشد المصائب إيلاماً في حياته – راجع كتابه : “الأيام” في ثلاثة أجزاء – وبلغت مؤلفاته ما ربى على الثمانين كتابا فتأمل ! .
هذا ! وكذلك في القديم الغابر فقد قيل : كان يكتب شاعر الإنسانية الكبير / أبو الطيب المتنبي – رحمه الله – ضروب شعره فيقول : لخلع ضرس أهون علي من كتابة بيت شعر ؛ والحطيئة ليس عنه ببعيد ؛ فقد كان يكتب شعره بعد أن يدهن جسمه ويجعل رأسه أسفل الأرض ورجوله على الحائط – راجع كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري – ؛ وهو القائل لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين حبسه بعد أن أشتهر بهجائه للناس :
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ * زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة * فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الذي من بعد صاحبه * ألقت إليك مقاليد النهى البشر
ما آثروك بها إذ قدموك لها * لكن لأنفسهم كانت بك الإثر
قالوا : فرق قلب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأمر بإخلاء سبيله بعد أن أخذ عليه العهد أن لا يهجو أحداً وقد فعل .
فأنت ترى أيها القارئ النبيل كيف يولد الإبداع وشطون الإمتاع من خلال عصارة أفكارهم ومشاعرهم أسفارا خلدتهم بين ظهرانيهم ؛ ورحم الله هذا الجيل الجديد الذي يبدع في التكنولوجيا الرقمية ويهجر الكتاب ؛ فلك أن تميل لأي المبدعين أحبهم إلى نفسك ؛ فأنا أحب الرجال الأول من الزمان الغابر ؛ رحمهم الله أجمعين .