أين نحن من هؤلاء “الطيب أمكرود”
“محمد أمكرود” (1942-2020)، نموذج من ملايين الآباء المغاربة ممن أنجبوا وأنشأوا وربوا، وطعموا مؤسسات الوطن بآلاف الأطر الكفئة. هؤلاء من زودوا المؤسسات بأطر من مختلف الكفاءات والدرجات والتخصصات، آباء أجيال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، ومثلهم كثير إلى اليوم من البسطاء المنحدرين من أسر المغرب الغيورة على المغرب التي تنبض قلوب أبنائها للمغرب.
هؤلاء من اعتمدوا على إمكاناتهم البسيطة، المنعدمة في بعض الأحيان، حيث لم يتلقوا فلسا واحدا من المال العام، بل زودوا خزينة الدولة بما يؤدونه من ضرائب ومكوس ورسوم طوال حياتهم عن منتجاتهم البسيطة التي كدوا من أجلها، وصرفوا من أعمارهم الكثير.
هؤلاء من اكتفوا وكانت قناعتهم وأنفتهم وعزتهم سلاحهم، وعلى أيديهم، وهم الذين لم يطلعوا على نظريات التربية، تربينا وتلقينا أفضل القيم، وأضحينا على ما عليه نحن الآن. ولدنا في بيوت بسيطة من الطين والحجارة، وكان الأب يصر إصرار العنيد على تحقيق كل آماله، التي يخفي من أجلها آلامه. أذكر أننا، وطيلة مسارنا الدراسي الطويل الممتد المكون من عدة محطات، جزء من الابتدائي في مدرسة الدوار، الجزء المتبقي في مركز الجماعة، الإعدادي بتمنار، الثانوي بالصويرة، الجامعي بأكادير…، كان يعين كل منا على عبور الوادي بسلام، يوقظنا باكرا كل يوم، يحرص على كل صغيرة مهما بدت لنا تافهة، يصر على زيارتنا في مؤسسات الإيواء، على السؤال، على تتبع المسار الدراسي وهو الذي لم يلج قط مدرسة…، وكلما هلت عطلة اجتمعنا في بيتنا هناك بأحد دواوير إيحاحان البعيدة، وتناولنا وجبات أمي البسيطة اللذيذة، وكلما اقتربت نهاية العطلة، نلاحظ وجوم الأب المسكين وصمته، والذي لن نفهمه إلا بعد سنوات، لقد كان يفكر في طريقة توديع كل منا بمبلغ يفي بقضاء بعض أغراضه في انتظار العطلة الموالية.
كان والدي، ومثله كل آباء من يشاركونني نفس الوضع، يمتهن حرفة بسيطة هي الجزارة في أسواق المنطقة، يتنقل بين خميس سميمو، وجمعة أيت داوود، وسبت نكنافة، وأحد سميمو، انتهاء باثنين إمي نتليت، يشتري بضع رؤوس من الماعز الأجود بالمغرب قبل طلوع الفجر، يذبحها ، يبيع اللحم ويصح له بعض الربح الذي يكفل له توفير حاجيات أبنائه الأربعة وبناته الثلاث وزوجته، يحضر ما جاد به السوق، يدعه بين يدي الأم، ليستيقظ باكرا في اليوم الموالي قصد الانتقال إلى السوق الآخر، وهكذا دواليك طيلة أربعين سنة أو تزيد، يغادر البيت في الثاالثة صباحا، ولا يعود إلا والغروب، ولا يرتاح إلا الثلاثاء والأربعاء من كل أسبوع، راحة تقطعها الأشغال الموسمية كلما هلت من حرث وحصاد ودراس …
من تلك الحرفة البسيطة أنشأ محمد أمكرود أبناءه، بنى بيته، علمهم، ويحق له أن يوسم بأول مستثمر في الموارد البشرية بمنطقته، لقد كان الفقيد كلما حدثناه عن شراء فلان منزلا هنا، أو فلان أرضا هناك يرد بكون ذلك موكول لنا عندما سنكبر وسنفهم الحياة، وأن مهمته هي تعليمنا أولا وأخيرا، وكان كلما نقلنا إليه خبر توسط بعضهم لبعض في الوصول إلى منصب يقطب جبينه، وينصحنا باعتماد النزاهة، وعلمنا بالمواقف الشهامة والصلابة والوفاء.
هؤلاء هم الآباء المغاربة البسطاء، تعلموا مهنا تقيهم شر الفاقة، وعلمونا، وحققنا أحلامهم البسيطة دون أن يطلبوا وساطة، أو يدفعوا رشوة، ودون أن يتباهوا قط بمستواهم الاجتماعي أو بأملاكهم، وإن حدث أن كانوا من كبار الملاكين والأثرياء، ولم نسمع قط من يبرر الذي لا يبرر من أحط السلوكات…، واليوم نفتقدهم، نفتقد آباءنا، نفتقد معلمينا، نفتقد كل من ترعرع وسط الحقول وتربى على القناعة، كل من تخرج من أزقة مدن الوطن وتشرب أرقى الخصال، نفتقد البساطة، نفتقد التواضع، نفتقد العزة والأنفة والكرامة، نفتقد طينة من الناس أضحت عملة ناذرة، مغاربة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، هؤلاء جميعا هم من بنوا مغرب اليوم، وتتلمذ على أيديهم الصالحون من أبناء المغرب اليوم، والمعول عليهم في السير بمغرب اليوم نحو مستقبل زاهر ليس عل المغاربة بعزيز.
بقلم: الطيب أمكرود