الأخيذة

رواية: بين عوار الفقر و دموية المال

الأخيذة رواية الكاتبة نهلة الهبيان وصلتنى ضمن مجموعة رائعة من إصدارات دار غراب للنشر والتوزيع، بدأتُ فى قراءتها بعد فترة، حينما أنهيتُ ما كنتُ مشغول بقراءته، فإذا بها تأخذنى من البداية، فأصبحتُ أنا المأخوذ أو الأخيذ لو جاز لى استخدام اسم الرواية، ومعنى كلمة “الأخيذة” فى المعجم “المرأة تُسبى فى الحرب”، إذن نحن منذ اللحظة الأولى ومن خلال العنوان نعلم أننا أمام فتاة أسيرة، إمرأة مقهورة، أمام حالة إنسانية تجسدها شخصية نسائية، بعد عنوان الفتاة التى أُسِرَت “الأخيذة” نجد كلمات ثلاث مكتوبة بخط رقيق “قضية رأى عام” وهنا تكتشف أيضًا، كما ترائى لى، أن أزمة تلك الأخيذة قد أُثِيرت أمام الرأى العام حتى إنها قد تحولت إلى قضية تهم الجميع. لكن إن تكشفت بعض خبايا العمل من العنوان فهذا لا يُشبع نهم القارئ ولا يروى ظمأ عُشَّاق السرد الروائى، فالذائقة لا تكف عن البحث عن رواية خلف أخرى تستمد منها المتعة والروعة والتسرية والتسلية وتتعلم منها بعد اللغة والأسلوب كيف تواجه عقبات الحياة إن تماثلت. الخط العام للرواية بدأ يتكشف لى منذ اللحظة الأولى لكن يبقى السؤال “أى ثوب يتثوبه هذا الخط وفى أى بيئة يحيا وبأى أسلوب يتم عرضه؟”

وتبدأ رحلة الإبحار بين شاطئيَّ الرواية فإذا بنا أمام كاتبة متفردة تمتلك ناصية اللغة حتى كأنك تراها فى يدها مثل قطعة صلصال سهلة لينة تكاد تذهلك بل ويتجسد فى ذهنك نفس السؤال الذى تجسد أمامى “كيف لا تجلس هذه الكاتبة فى الصفوف الأمامية بين كُتَّاب هذا الجيل؟!” رواية “الأخيذة” باختصار لا يروى عطش قارئ تتحدث عن فتاة يتزوجها ثرى عربى يستغل فقر أسرتها ويلقى إليهم ببعض الدراهم، وبعقد عرفى يحملها ويرحل عن بلد النيل إلى مملكة النفط وهناك يقتحمها كزوجة ولا يرحم ضعفها ودمعها، وبعد أيام يُجرى لها عملية رتق غشاء تفتت تحت جبروته كى تعود لها عذرية زائفة تندهش لها الفتاة، فلماذا يرغب زوجها فى إعادة عذريتها لها؟! هل دبت الحياة فى ضميره ويرغب فى إعادتها إلى أهلها؟ لا .. التالى كارثيَّ .. فهو ليس هو، إنه صاحب اسم مستعار وظيفته الحقيقية سمسار بشر أعاد لها عذريتها كى يبيعها لأمير يعشق العذارى، يلقيها له ويحمل أمواله ليدخل بها الأمير قبل أن يلقى بها ضمن جواريه وملك يمينه فى فيلا خاصة وينساها مع مَن مروا عليه ونسيهم وهن كثيرات لتنجب هالة “الأخيذة” رضيعة يطلق عليها اسم “رهف” تربيها فى هذا السجن الذى لم تخطو هى أو ابنتها إلى خارج بوابته ما يزيد على سبعة أعوام كاملة حتى تنطلق شرارة الثورات فى المنطقة ويهرب حارسها لتجد نفسها وابنتها فى طريق بلا معالم، تسارع إلى سفارتها تخبرهم بقصتها وأنها لا تعرف لابنتها أب. نصرتهم لها فقط فى ترحيلها إلى بلد النيل ومن ثم إلى منزل أبيها لتجده قد غادر الدنيا بعد فقر ومرض وغدر من الثرى الذى وعده بأموال شهرية ثابتة ولكنه لم يرسل دينارًا ولا درهم. وتبدأ رحلة إثبات نسب ابنتها من خلال الـ “أدهم” حبيب الطفولة والصبا وابن خالتها وتنطلق بنا الأحداث حتى النهاية.

ولو اقتربنا أكثر من النص نتلمس بعض فيضه كإشارات تكشف لنا غموضه وتوضح لنا جانب من روعته لوجدنا “لم تخرج من بؤرة العشوائيات يومًا، بين صفائحها ولدت، وعلى حصيرها حَبَت، وبين جدرانها الواهية ترعرعت” وفى فقرة أخرى “ذهب عنها شاريها كما وصفته لأمها وقت البيعة ليرعى مصالحه كما أخبرها، وها هى المصالح تتضح ماهيتها وتتبدى كاشفة النقاب عن وجه الدياثة يضحك بملء شدقيه فى بلاط العهر” وتنتقل هالة إلى حياة لا تعلم كيف تواجه تفصيلة واحدة من تفاصيلها التى تعجز عن حصرها وتتجسد أمامها علامات استفهام لا تعى مقدارها حتى “لم تمهلها الأيام كثيرًا لتجد إجابات وافية وكافية لسقاء تلك الأسئلة التى نبتت فى فكرها، فلقد أتاها ما كان سببًا فى إلهائها عن نفسها فتذبل بكل يسر، وتبدأ فى مرحلة جديدة من التفكير ليس من أجلها ولكن فيمن كان سببًا فى نفيها بعيدًا بعيدًا عن أعين الناظرين، إذ حملت هالة بجنين فى رحمها، ولما علم الأمير بنتاج نزوته المغروس، أصدر قرارًا بإقصائها عن القصر الذى يحوى كل جواريه إلى فيلا أخرى بعيدة بصحبة خادمة وحارس، لتبقى هناك بمنفاها بقية العمر فى عزلة تامة عن كل ما يدور حولها” وتمر السنوات وتترعرع الطفلة فى سجنها إلى أن “بدأت رحلة العودة إلى البلاد بعدما كانت ضربًا من محال، والفضل بعد سهام الدعاء المصوبة فى كبد السماء طيلة ما مضى من سنوات، تلك الانتفاضات الثائرة التى أضجت عرش الملكية، فالتهوا بما حط عليهم الزمن من مصاب بدا فى ظاهره كالريح العاتية تقتلع كل ما يمر به، فانهالوا عليه ضربًا وقصفًا وأسرًا ونسوا خصوصيات إمائهم وجواريهم فلا وقت للانشغال بذاك العبث الذى أسكنوه القصور البعيدة” وتعود والصمت حروفها والدمع كلماتها ويرتج كيان الحبيب الذى أصبح محاميًا وتزوج وأنجب، ابن الخالة الذى يحتويها بدموع الفقد ليعلن أنها له وأنه لن يشعر للحياة بطعم قبل أن يعود لها بحقها المسلوب وينتقم لها ممن دمروها، أما هى فتخبئ عشقها الذى ما نسيته يومًا لتسره له على وريقاتها فتقول ” آثرتُ أن أبقيك داخلى وأحاورك داخلى ولا أخبر الأوراق بسرى فيك، لكنى تراجعتُ عما آثرتُ بآخر نبضة شهقت بقلبى إليك تخشى عليك الأفول، اليوم أشعر بأن طائف الموت يحوم حولى يغازلنى متوددًا إلى، يمد يده ينتظرنى أصافحه” وتنطلق الأحداث لتتحول الأخيذة إلى قضية رأى عام حتى تغلب المصالح وتُسرع الأيدى لتخرس الأصوات والأبواق وتتحول هالة إلى كاذبة خائنة مجنونة فى بعض الأوقات بل وظهرت عشرات الهالات بضغط من مال وسلطة كى تضيع قضية الأخيذة فتزهد فى الحياة كلها، لكن أدهم إلى جوارها يطلبها زوجة لتكتمل حياته فتقول على وريقاتها بكلمات وأسلوب كثيرًا ما يتأثر بالوحى الإلهى فى أكثر من موضع من النص “ها هى جميلتك تقف عاجز التلبية، مصمتة النبض لقلب استوى على أوجاعه فما عاد يعجبنى فكيف به يعجبك، أتراه حقًا يروق لك؟ أتراه إن رأيت بلوغ نبضه الحلقوم وقد دنا منه الموت وتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى؟”. تتعاون خلال النص شخصيات تتجسد فى هدوء لتظهر لنا كى نراها وكأنها بيننا تعيش، منها شخصية “راوية” الكاتبة وزجها الدكتور “حامد” والأم، مع تفاصيل المكان وروائحه التى تنبعث من هنا وهناك كى تكتمل الملحمة.

من النادر أن يلتقى الفرد بنصِ جيد يترك بداخله أثر ويحرك فى يده القلم ليكتب عنه لكن أخيذة نهلة الهبيان، التى لم أعلم عنها صراحة قبل أن تصلنى هذه الرواية، خلقت بداخلى هذا الأثر وحركت القلم كنوع من الإشارة إلى عمل يستحق تسليط الضوء عليه وتوجيه نظر المهتم المتذوق لروعة الأدب إليه، وأيضًا كى أعطى صاحبة النص حقها وأنا ككاتب أعلم كم هى مؤثرة تلك الكلمات وإن كانت قليلة عن نص هو ابن لى، كلمات تُشعرنى بأن ما سهرت فيه الليالى ونحتُّ من عمرى الشهور كى أنجزه وجد صدى عند قارئ ولو فى أقصى الأرض. وأخيرًا المجال الوحيد الذى يعطى أى عمل روائي حقه هو قراءة النص كاملًا لكشف خباياه والاستمتاع به بعد رحلة على صفحات أسلوبه وأحداثه وما يحمله من فلسفة وفكر وتشريح لقضايا شائكة.

بواسطة
رضا سُليمان - مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق