الدكتور منير القادري يحاضر حول المقاصد الاخلاقية للقيم الروحية وأثرها في السياقات المعاصرة
تناول الدكتور منير القادري موضوع “المقاصد الاخلاقية للقيم الروحية وأثرها في السياقات المعاصرة”، أثناء مداخلته مساء السبت 22 اغسطس الجاري، في الليلة الرقمية السابعة والستين من ليالي الوصال الرقمية التي نظمتها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى، بتعاون مع مؤسسة الجمال.
أبرز القادري في كلمته المقاصد الروحية والأخلاقية للدين الإسلامي التي تتمثل في تبيان الطريق الذي يقود الى تحقيق فلاح الانسان في الدنيا والاخرة، موضحا أن هذا الجانب يمثل البعد العملي والانساني لرسالة الاسلام، وهي اخراج الناس كافة من عبادة العباد وعبادة النفس واتباع الهوى الى عبادة الله الواحد القهار ومن ضيق الدنيا الى سعتها ومن جور المعتقدات الزائفة الى نور الايمان.
وأوضح رئيس مؤسسة الملتقى أن مقصد الدين الاسلامي هو إقامة صرح الأخلاق الإحسانية في الأرض لتعم الانسانية كافة، مضيفا أن هذه المقاصد قائمة على حب الخير والاحسان للجميع وإفشاء السلام وبذله بين كافة الناس وإشاعة الرحمة والتيسير على الخلق مستدلا بقوله تعالى “وما أرسلناك الا رحمة للعالمين”.
وتابع القادري أن الإسلام يحث المسلمين قبل غيرهم على طلب السلم والسلام والامان مستشهدا بقوله تعالى في سورة البقرة “يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة”، وهو ما لا يتأتى الا بإشاعة معاني الإحسان وحسن المعاشرة ومراعاة الجوار والمعاملة بالحسنى بين الناس مستدلا بالحديث الشريف “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
واعتبر ان مكارم الأخلاق تمثل جوهر ديننا الحنيف، الذي لا يفصل بين الممارسات الظاهرة من اداء الشعائر والمناسك والعبادات وبين الثمار النفسية الباطنة والآثار الخلقية، مستشهدا بقوله تعالى “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر”، وتابع “إنه جهاد اخلاقي داخلي يتجلى على قلب صاحبه بأنوار وإشراقات ومقامات عرفانية، لكنه يروم في الوقت نفسه الوصل بين مظاهر هذا الدين وتجلي ثمراته في المعاملة بالأخلاق في حياة الناس، انها مجاهدة قلبية ونفسية لولاهما لصار وجود الانسان كله عبث وبلا معنى، إذ لا غنى للإنسان عن خوض تجربة التربية على الاخلاق والقيم وجهاد النفس ومحاسبتها (الجهاد الاكبر)…”
واكد أنها محاسبة جديرة ان تجعل الانسان يرتد الى باطن ذاته ويستشعر مقدار الامانة التي تحملها انها امانة المسؤولية الاخلاقية اتجاه نفسه ووطنه والخلق اجمعين موردا مقولة للفيلسوف الدكتور طه عبد الرحمن “إن الحد الفاصل بين الإنسان والحيوان ليس هو قوة العقل وإنما هو قوة الخلق إذ لا إنسان بغير خلق”.
وأضاف مدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم أن الحديث عن المقاصد الاخلاقية لا يستقيم الا بالحديث عن رؤيته للعالم المعاصر ومنزلة الانسان في هذا العالم وعن الانعكاسات الممكنة لهذه الرؤية على القيم الأخلاقية والقيم الروحية لأن مشكلة الإنسان المعاصر هو تساهله في جانب القيم الاخلاقية، مستدلا بقوله تعالى “يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء اعمالهم”، موضحا أن القيم الروحية ثابتة لا تتغير بتغير الزمان أو المكان ولا تتبدل بتبدل الأحوال أو الظروف، فلا يقبل من الإنسان أن يكون صادقا في بعض المواقف وفي بعضها كاذبا، كما لا يقبل منه أن يكون عادلا مع قوم وظالما لقوم آخرين.
وبين الدكتور القادري أن التربية على القيم الروحية كقيم الإخلاص والصدق والإحساس بالمسؤولية ومساعدة المحتاج وغيرها تؤثر في تهذيب سلوك الإنسان وتقوي ثقته بنفسه وتحفظه من الامراض النفسية، مستشهدا بالحديث النبوي الذي رواه مسلم “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي الى البر وان البر يهدي الى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا واياكم والكذب فإن الكذب يهدي الى الفجور والفجور يهدي الى النار ومازال الرجل يكذب حتى ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا”.
وزاد أن القيم الروحية تساعد على تامين الرقابة الذاتية وتساهم في انضباط الفرد والمجتمع في تحقيق المثل العليا عبر احياء الدين في النفوس، والعمل على تخليق حياة الخلائق وغرس بذور القيم النبيلة والانسانية في قلوبهم ، هذا الهدف الأصيل يلزمه آليات معاصرة تتطلب تطوير منهجية الاشتغال والعمل على تثمين المشترك الانساني ودرء الخصومات والصراعات، لأن البشرية اليوم تعيش ازمة اخلاق تفرض عليها مهمة كبرى وهي الاهتمام بالإنسان قبل أي اهداف دنيوية أخرى.
ونبه إلى أن بناء منظومة اخلاقية في أي مجتمع يقتضي البدء أولا بإقامة نوع من السلم الداخلي بين الفرد ونفسه يجعله يشعر بانسجام مع ذاته ومع محيطه الانساني والطبيعي، ومع تطلعاته الروحية ثم العمل على تثبيت دعائم السلم الاجتماعي في المجتمع ككل ومحيط الوطن والمحيط الاقليمي والدولي.
وأضاف أن تعاليم الاسلام نجحت في خلق الجسور الواصلة بين الفرد والعالم وبينه وبين الله وبينه وبين باقي البشر سواء كانوا موافقين له ام مخالفين، عن طريق تصور قرآني يعلي شأن السلم ويدعو إلى إشاعة أخلاق التعاون والود بين المسلمين وغيرهم المختلفين عنهم دينا ووطنا، وذلك وفقا لمبدا أساسي قوامه أنه ما جاء في قوله تعالى “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين”، مؤكدا ان هذا المبدأ القرآني كفيل بالسماح بإقامة جسور من الحوار المتكافئ بقصد التفاهم ومد جسور من السماحة والتسامح والتعايش بقصد التساكن ونبذ الفرقة والخلاف والعنف والكراهية والتعصب والصدام.
وشدد على ان القيم على اهميتهما تذبل وتتوارى في المجتمع إذا ضعف الوازع الديني والأخلاقي في النفوس وغاب الحرص على غرس هذه القيم في نفوس الشباب، وتربيتهم على معاني المروءة والفتوة والامانة والمسؤولية ومكارم الاخلاق، لان ازمة الامة اليوم ازمة قيم إيمانية واخلاقية لا قيم مادية.
وأوضح أن نهوض الامم يبدأ بنهوض افكار افرادها والطريق الى ذلك مسؤولية فردية تقع على عاتق كل فرد من ابناء الامة، وليست مسؤولية النخب وحدها، مبينا ان العمل على النهوض بواقعنا ضرورة حياتية من منطق المصلحة العامة، قبل أن يكون واجبا دينيا ، وأنه يجب علينا ان نحدد الخطوات اللازمة في خطة عمل واضحة الاهداف وممكنة الوسائل قابلة للتطبيق على المستوى الفردي وفي كل بيئة وفي كل محيط كي يتسنى لنا بعد ذلك المشي حثيثا في تطبيقها.
وأورد مقتطفا من الخطاب الملكي بمناسبة تخليد ذكرى ثورة الملك والشعب الجمعة الماضية ” أننا نؤمن بأن الدولة تكون قوية بمؤسساتها، وبوحدة وتلاحم مكوناتها الوطنية. وهذا هو سلاحنا للدفاع عن البلاد، في وقت الشدة والأزمات والتهديدات… ورب ضارة نافعة فمؤامرات أعداء وحدتنا الترابية، لا تزيد المغاربة إلا إيمانا وإصرارا، على مواصلة الدفاع عن وطنهم ومصالحه العليا.. وهنا نؤكد بأننا سنواصل مسارنا، أحب من أحب، وكره من كره، رغم انزعاج الأعداء، وحسد الحاقدين… إذا كانت ثورة الملك والشعب، قد شكلت منعطفا تاريخيا، في طريق حرية المغرب واستقلاله؛ فإننا اليوم، أمام مرحلة جديدة، تتطلب الالتزام بروح الوطنية الحقة، لرفع التحديات الداخلية والخارجية.”
وأكد القادري أن الخطاب الملكي يتسم بالحكمة، لان العبرة بتقديم رؤية متكاملة ومتظافرة لقيم صالحة للتنزيل على أرض الواقع ومساعدة الإنسان على التكيف مع متطلبات زمن غلب عليه توالي الازمات.
وفي ختام كلمته بين الدكتور منير القادري أن المقاصد الاحسانية العرفانية هي اساس بناء الانسان الراقي الذي يعرف ربه تعالى ويحبه ويساهم في بناء الحضارة الاخلاقية ويعمر الارض بإحسانه وعدله، مشيرا الى الدور الكبير الذي يلعبه التصوف “مقام الاحسان”، في هذا المجال موردا قول الله تعالى “يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين”، مبرزا اهمية صحبة الصادقين في التحقق بالقيم الروحية، وفي هذا الصدد اورد حكمة لابن عطاء الله السكندري “لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله “، واكد ان التصوف كان ولا يزال من اهم الثوابت المغربية وركائزها الروحية وعامل زيادة في ترسيخ الجانب الاخلاقي في وجدان المغاربة ونفوسهم ورسالة للخلف بضرورة الاهتمام بتعزيز برعاية الجانب السلوكي في نفوسهم لانه بهذه القيم والاخلاق ننال رضى الله ونفوز بسعادة الدنيا والاخرة.