الفقر و تشريعات مابعد الثورة في تونس
عقد من الزمن مضى على اندلاع الشرارة الأولى لثورة الياسمين، ثورة لا تمحى من ذاكرة التونسيّين علت فيها الحناجر مطالبة بالحرّية والكرامة و التنمية ورُفعت فيها اللافتات مناهضة للبطالة والتهميش والفقر.
رفض التونسيون و بشدّة فساد النظام الحاكم و سياسته المبنيّة على القمع والتعذيب واللاعدالة إجتماعيّة، شيب و شباب، نساء و رجال ومختلف طائفات المجتمع المدنيّ اتحدوا يدا واحدة ضدّ الدّيكتاتوريّة المقيتة الّتي حكمتهم عقودا من الزّمن.
تتالت الشّهادات في سبيل الحريّة (حوالي 338 شهيد و حوالي 2147 جريح) و كانت ثمرة تلك التضحيات والنضالات سقوط الدّكتاتور وبناء تونس جديدة قوامها الدّيمقراطيّة ومتشبّعة بالتعدّدية، تنفس فيها التونسيون الحريّة ومارسوا حقهم في الإختيار والتعبير وازدانت أصابعهم بحبر خلنا أنّه خلاصنا و نجاتنا.
وعلى الرغم من الإشادة بالتعدّدية السّياسيّة، إلاّ أنّ تلك التعدّدية لم تسعف حكومات مابعد الثورة في بناء نهضة اقتصاديّة واجتماعيّة حقيقيّة تلبّي مطالب التونسيين الملحة، ووقفت عاجزة عن انتشالهم من براثن الفقر الّذي يعدّ القادح الأساسيّ للثورة والمغذّي لنقمة الشباب وغضبهم.
نجح السّاسة في اصدار دستور زُركشت فصوله بأبهى العهود كضمان الحقوق والحرّيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والبيئيّة وغيرها، لكنهم فشلوا في تجسيد تلك العهود على أرض الواقع، وباءت محاولات الحكومات المتعاقبة لتحسين ظروف عيش التونسيين والحدّ من الفقر ومكافحة أسبابه العميقة بالفشل، وعلى عكس ما تأمّلنا أخذت رقعة الفقر في البلاد التونسيّة تتسع بشكل مريب وسريع في السنوات الأخيرة إلى درجة أنّ أسرا بحالها تعيش تحت وطأة الفقر المدقع بحوالي 3.5% و تعجز حتى عن شراء الخبز لإسكات بطونهم الخاوية، ناهيك عن تجاوز نسبة الانقطاع المبكر عن التعليم المائة ألف سنويا حسب إحصائيات وزارة التربية سنة 2015 ، علاوة على تفاقم معدّل البطالة الحالي ليبلغ حوالي 15% و من المتوقع أن يفوق 21% في السنوات القادمة.
أمّا شبابنا – عماد بلادنا و ثروتها- فإمّا يستلقفهم الإرهاب و إمّا يلجؤون إلى الهجرة الغير نظاميّة الّتي يخيل لهم أنّها خلاصهم وحبل نجاتهم الوحيد بعد خيبة أملهم في وطنهم العليل وفقدانهم الثقة في الأنظمة الحاكمة ، وقد ارتفع أعداد المهاجرين الغير نظاميّن ليقارب 7890 مهاجر غير نظامي سنة 2020 حسب احصائيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، هذا العجز واليأس الّذي يعيشه التونسيون نتاج غياب المشاريع الإصّلاحيّة الواضحة وعدم التخطيط لسياسة اجتماعيّة ناجعة تواجه الاستفحال المقلق للفقر وفشل ارساء سياسة تنموية متوازنة.
هذا العجز فضح عورات النظام السياسي وأماط اللثام عن نوايه المصلحيّة اللاإصلاحيّة وكشف التهاء الساسة بالمعارك الإيديولوجية واهمالهم مشاغل الشعب ومحاولتهم الضحك على الذقون بحلول وقتيّة ترقعية مهترئة لاتغني ولاتشبع من جوع، حلول هزيلة وهشة موجّهة لمجابهة آفة خبيثة (الفقر) غرست جذورها في ربوع البلاد بقوة وآبت الاقتلاع حلول لا ترتقي لإصلاح منظومة اجتماعيّة واقتصاديّة أنتجت التهميش والتفقير لعقود عديدة وحضنت -على مرّ تلك العقود- معضلتي الفساد والاقتصاد الموازي، لذلك فإنّ المنوال التنموي المعتمد في نظام الحكم التونسي ساقط بلا شك وفاشل لامحالة فإثقال كاهل المواطن التونسي بالترفيع في الأسعار بتوازي مع ضعف الأجور سيؤدي إلى مزيد استشراء الفقر الذي أنتهك حرمة أكثر من مليون وتسع مائة ألف تونسي بحسب الإحصائيات الرسميّة، و ذلك ما يفسر قلق التونسيين واعتقادهم أن الدولة تخلّت عنهم بعد أن أضحى وضعهم الاجتماعي لا يحتمل وازداد حدّة يوما بعد يوم وبصفة خاصة في المناطق الداخليّة المحرومة من نصيبها في التنمية وحقّها في توفر مواطن الشغل للعاطلين، الأمرالّذي ينبؤ بإمكانية اضرام ثورة جديدة لاسيما أنّ السنوات الأخيرة لم تخلُ من التحركات الإحتجاجية الّتي احتدّت لتصل حدّ محاولات الإنتحار الّذي يعكس حالة الإحتقان والغضب واليأس الّتي بلغها المواطن التونسي الّذي لايبغي من الدولة شيئا إلاّ ضمان حقوقه الشرعيّة كالحق في الشغل وفي الصحة وفي التعليم وفي الكرامة وفي التنمية الاجتماعية …
و تبعا لذلك يتوجب على الطبقة الحاكمة إيلاء المسألة الاجتماعية أهمية بالغة والحرص عليها كحرصهم على البقاء في مقاليد الحكم ، الأمر الّذي يفرض خروج السياسين من برجهم العاجي والتحرك السريع لإقرار برامج اقتصادية واجتماعية قادرة على مواجهة التحدّيات المستقبليّة والصمود أمام التراكمات الّتي ضاق بها الشعب ذرعا والقطع مع المنوال التنموي المجتر والمهترئ الّذي عمّق الفجوة بين المنظومة السياسيّة والشعب التونسي وأدّى إلى ضعف أغلب القطاعات وهشاشتها، كما ينبغي العمل على تنزيل الحقوق الأساسيّة الشرعيّة للمواطنين على أرض الواقع عوضا أن تبقى حبرا على ورق وفي مقدمتها الحق في التشغيل وفي العدالة الاجتماعية وضمان تكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع والتسريع في العمل بمبدأ التمييز الايجابي الّذي من شأنه أن يحقق التوازن بين الجهات ويمتص الغضب الّذي ينذر باندلاع ثورة جديدة خاصة مع تسارع نسق الاحتجاج حيث سجل المرصد الوطني خلال السداسية الأولى من سنة 2020 عدد 4566 تحركا إحتجاجيا.
ختاما،لايسعنا إلاّ أنّ نقول :
المجد لتونس والعزة لشعبها الكريم أما الخزي والعار فلكل خائن لئيم بلادي ستظل شامخة وأبية على الدوام وستقطع يوما مع التخلف والعجز وتلحق بركب التقدم والازدهار وشعبها سينعم بجميع حقوقه وثرواته المنهوبة.