القناعة.. كنز لايفنى

دع الحرص على الدنيا
وفي العيش لا تطمع
ولا تجمع من المال
فلا تدري لمَن تجمع
ولا تدري أفي أرضك
أم في غيرها تُصرع
فإنّ الرزق مقسوم
وسوء الظن لا ينفع
فقير كل من يطمع
وغني كل من يقنع
القَناعةُ، بالفتح: الرِّضا بالقِسْمِ؛ قال لبيد بن ربيعة العامري:
فمنْهُمْ سَعِيدٌ آخِذٌ بنَصِيبِه ومنهمْ شَقِيٌّ بالمَعِيشةِ قانِعُ
وقد قَنِعَ، بالكسر، يَقْنَعُ قَناعةً، فهو قَنِعٌ وقَنُوعٌ؛ قال ابن بري: يقال قَنِعَ، فهو قانِعٌ وقَنِعٌ وقَنِيعٌ وقَنُوعٌ أَي رَضِيَ، قال: ويقال من القَناعةِ أَيضاً: تَقَنَّعَ الرجلُ؛ قال هُدْبةُ:
إِذا القوْمُ هَشُّوا للفَعالِ تَقَنَّعا
وقال بعض أَهل العلم: إِن القُنُوعَ يكون بمعنى الرِّضا، والقانِعُ بمعنى الراضي، قال: وهو من الأَضداد؛ قال ابن بري: بعض أَهل العلم هنا هو أَبو الفتح عثمان بن جني. وفي الحديث: فأَكَلَ وأَطْعَمَ القانِعَ والمُعْتَرَّ؛ هو من القُنُوعِ الرضا باليسير من العَطاء. وقد قَنِعَ، بالكسر، يَقْنَعُ قُنُوعاً وقَناعةً إذا رَضِيَ، وقَنَعَ، بالفتح، يَقْنَعُ قُنُوعاً إذا سأَل. وفي الحديث: القَناعةُ كَنْزٌ لا يَنْفَدُ لأَنّ الإِنْفاقَ منها لا يَنْقَطِع، كلَّما تعذر عليه شيء من أُمورِ الدنيا قَنِعَ بما دُونَه ورَضِيَ. وفي الحديث: عَزَّ مَن قَنِعَ وذَلَّ مَن طَمِعَ، لأَنَّ القانِعَ لا يُذِلُّه الطَّلَبُ فلا يزال عزيزاً. ابن الأَعرابي: قَنِعْتُ بما رُزِقْتُ، مكسورة، وقَنَعْتُ إِلى فلان يريد خَضَعْتُ له والتَزَقْتُ به وانْقَطَعْتُ إِليه. وفي المثل: خَيرُ الغِنَى القُنُوعُ وشَرُّ الفَقْرِ الخُضُوعُ. ويجوز أَن يكون السائل سمي قانعاً لأَنه يَرْضَى بما يُعْطَى، قلَّ أَو كَثُرَ، ويَقْبَلُه فلا يردّه فيكون معنى الكلمتين راجعاً إِلى الرِّضا. وأَقْنَعَني كذا أَي أَرْضاني. والقانِعُ: خادِمُ القومِ وأَجِيرُهم.
القناعة: هي الرضا بما أعطاه الله، وكتبه وقسمه. القناعة: استغناء بالموجود، وترك للتشوف إلى المفقود . القناعة: استغناء بالحلال الطيب عن الحرام الخبيث. القناعة: أن يكتفي المرء بما يملك، ولا يطمع فيما لا يملك. القناعة: امتلاء القلب بالرضا، والبعد عن التسخّط والشكوى.
فليس القانع ذلك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق، ولا الذي يتطلع إلى ما ليس له، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رُتَب الدنيا؛ لأن الخير له قد يكون عكس ما تمنى.
كما أن القناعة لا تعني بالضرورة أن يكون العبد فقيرا، فالغني أيضا في حاجة إلى قناعة، كما أن الفقير في حاجة إلى قناعة؛ وقناعة الغني أن يكون راضيا شاكرا، لا جاحدا ظالما، قناعته أن لا تَلجَ أمواله إلى قلبه، حتى يصبح عبدا لها. قناعته أن لا يستعلي بماله على الفقراء، وأن لا يوظف ماله في الاستيلاء على ممتلكات الآخرين والاعتداء على حقوقهم.
فكم من صاحب مال وفير، وخير عظيم، رُزق القناعة! فلا يغشّ في تجارته، ولا يمنَع أُجَراءَهُ حقوقَهم، ولا يذلّ نفسه من أجل مال أو جاه، ولا يمنع زكاة ماله؛ إن ربح شكر، وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون.
وقناعة الفقير أن يكون راضيا بقسمة الله، مستسلما لأمر الله، لا ساخطا ولا شاكيا، ولا جزعا من حالِه، ولا غاضبا على رازقه. قناعته أن لا يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، قناعته أن يكون عفيفا متعففا، وأن لا يرتكب الحرام من أجل الحصول على لقمة العيش .
فكم من مستور يجد كفافًا؛ قد ملأ الطمع قلبه، ولم يُرْضِه ما قُسِم له! فجزع من رزقه، وغضِب على رازقه، وبثّ شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم ليُغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا يملك درهمًا ولا فلسًا .
فضل القناعة ومكانتها
شفاء ودواء؛ شفاء من داء الجشع والطمع، شفاء من الهموم والأحزان، شفاء من الكراهية والحسد، شفاء من نهب الأموال والاعتداء على الممتلكات.
فمَن عُدِم القناعة ازداد تسخّطه وقلقه، وحُرِمَ من الرضا بما رزقه الله وآتاه. وحينئذ لا يُرضيه طعام يُشبعه، ولا لباس يواريه، ولا مركب يحمله، ولا مسكن يؤويه؛ “ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب”. يبحث عن المال في كل مكان، يخلط بين الحلال والحرام، بل ربما كان ماله كله من الحرام لأنه لا يقتنع بما هو حلال .
ولقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على القناعة، وبيّن أنها طريق إلى السعادة والفلاح، فقال عليه الصلاة والسلام: “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ”.(1)
وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ – وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا”. أخرجه الترمذي وابن ماجة وحسنه الألباني فلماذا التسخط؟ ولماذا التذمر؟ ولماذا التشكي؟
وأنت آمِن في نفسك ومالك وأهلك، معافى في بدنك، عندك قوتُ يومك، بل قوتُ عامٍ أو يزيد
لكنه الطمع الذي استولى على القلوب، فلم تعد تقنع لا بالقليل ولا بالكثير. وهذا ما حذرنا منه نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب .
قال أبو حاتم رحمه الله: (مِنْ أكثر مواهب الله لعباده وأعظمها خطراً؛ القناعة. وليس شيءٌ أروحَ للبدن من الرضا بالقضاء والثقة بالقَسْم، ولو لم يكن في القناعة خصلة تحمد إلا الراحة وعدم الدخول في مواضع السوء لِطلب الفَضلِ، لكان الواجبُ على العاقل ألا يفارق القناعة على حالة من الأحوال).
وقال ايضاً: القناعة تكون بالقلب؛ فمن غني قلبه غنيت يداه، ومن افتقر قلبه لم ينفعه غناه، ومن قنع لم يتسخطْ وعاش آمنا مطمئنا، ومن لم يقنع لم يكن له في الفوائت نهاية لرغبته.
الأسباب المعينة على اكتساب القناعة
1- الإيمان الجازم بأن الله تعالى هو الرزاق
كتب الأرزاق قبل أن يخلقَ العِباد، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها. فهل مِن أحد يرزق العبادَ غيرُه سبحانه؟ وهو القائل:” نَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ” الذاريات:58
روى ابن ماجة في سننه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس؛ اتقوا الله وأجْمِلوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم”. فلماذا الطمع؟ ولماذا الجشع؟
2-تذكّرُ العبدِ أن الدنيا إلى زوال وأن متاعها إلى فناء
ليعلمِ العاقل أنّ كل حال إلى زوال، فلا يفرح غنيّ حتى يطغى ويَبطر، ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم، ولا غنى يدوم! وكم من رجال نشؤوا على فرش من حرير، وشربوا بكؤوس من ذهب، وورثوا كنوزا من المال، وأذلوا أعناق الرجال، واستعبدوا الأحرار من الرجال والنساء! فما ماتوا حتى اشتهَوْا فراشًا خَشِنا يقي الجنب عَضّ الأرض، ورغيفًا من خبز يحمي البطن من قَرْص الجوع! وآخرون قاسوا المحن والبلايا، وذاقوا الألم والحرمان، وطووا الليالي بلا طعام! فما ماتوا حتى ازدحمت عليهم النعم، وتكاثرت لهم الخيرات، وصاروا من سراة الناس!! وسيسوي الموت بين الأحياء جميعا: الغني والفقير؛ فدُود الأرض لا يفرق بين المالك والأجير، ولا بين الصعلوك والأمير، ولا بين الكبير والصغير، فلا يجزع فقير بفقره، ولا يبطر غني بغناه.
3- أن ينظر المرء إلى من هو أقل منه في المال والمنصب والجاه، ولا ينظر إلى من هو أعلى منه في ذلك.
فقد علمنا ذلك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فيما رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ”.(1) قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ “عَلَيْكُمْ”. وفي لفظ لابن حبان في صحيحه: “إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَنْ فَوْقَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ.
وليس في الدنيا أحد لا يجد مَن هو أفضل منه في شيء، ولا مَن هو أقل منه في أشياء؛ فإن كنت فقيرا ففي الناس من هو أفقر منك! وإن كنت مريضًا ففي الناس من هو أشد منك مرضا. وإن كنت ضعيفا ففي الناس من هو أشد منك ضعفا.. فلماذا تَرفعُ رأسَك لتنظرَ إلى مَن هو فوقك، ولا تخفِضُه لتُبصِرَ من هو تحتك؟
4-تربية النفس على الاقتصاد في الإنفاق، وعدم الإسراف والتبذير
فقد قال سبحانه:” يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين” وقال عز وجل في صفات عباد الرحمن:” وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا” (الفرقان 67). وقال الشاعر أبو ذؤيب الهذلي:
وَالنَفسُ راغِبِةٌ إِذا رَغَّبتَها فَإِذا تُرَدُّ إِلى قَليلٍ تَقنَعُ
5-الاعتقاد بأن الله سبحانه جعل التفاوت في الأرزاق بين الناس لحكمة يعلمها
فلله سبحانه وتعالى حكمة في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد؛ حتى تحصل عمارة الأرض، ويتبادل الناس المنافع والمصالح، ويخدم بعضهم بعضًا. قال الله تعالى: ﴿
:”أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ”.
وقال ايضاً:” وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ
“. ﴿ فِي مَا آتَاكُم
قال ابو العلاء المعري:
وَالناسُ بِالناسِ مِن حَضرٍ وَبادِيَةٍ بَعضٌ لِبَعضٍ وَإِن لَم يَشعُروا خَدَمُ
فالذي يعترض على قسمة الله معترض على علمه وحكمته، وهذا جهل وضلال، فإن الذي خلق
الخلائق هو أعلم بمصالحهم ومنافعهم. وقد قال سبحانه:”وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”.(البقرة 216)
6- العلم بأن الفقر والغنى ابتلاء وامتحان
فالفقير ممتحن بفقره وحاجته، والغني ممتحن بغناه وثروته، وكل منهما مسؤول وموقوف بين يدي الله عز وجل قال سبحانه:” وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) البقرة وروى الترمذي وابن ماجة عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السُّخط”.
7-الاقتداء بأصحاب القناعة والرضا، والاطلاع على أحوالهم
كالرسول الكريم وأهل بيته الكرام والصحابة.
فأعظم نموذج في القناعة والرضا؛ هو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة والأسوة في كل خلق جميل. فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قنوعاً زاهداً راضيا صابرا محتسبا، كان أبعدَ الناس عن ملذات الدنيا، وأشدهم رغبة في الآخرة. وكيف لا يكون كذلك وربالعالمين سبحانه يخاطبه بقوله: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى “. طه131
وقد كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى من نفس طمّاعة لا تشبع، فكان يقول في دعائه: “اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع”. أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة وأبو داود
ولقد ربى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أهله على القناعة بعد أن اختار أزواجه البقاء معه، والصبر على القلة، والزهد في الدنيا، حينما خيّرهن بين الإمساك على ذلك، أو الفراق والتمتع بالدنيا، كما قال الله تعالى :” يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) الأحزاب وعلى القناعة أيضا ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فكانوا أصحاب قناعة ورضا، فما كانوا يتنافسون على الدنيا، ولا يتنازعون حولها، وإنما كانوا يتنافسون في الخيرات والطاعات. تركوا ديارهم وأموالهم وأراضيهم. في مكة وما حولها، ليهاجروا إلى الله ورسوله، إلى المدينة النبوية حيث لا مال لهم هناك ولا أهل ولا متاع، فكان منهم من يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، وقد كان في مكة يأكل أشهى الطعام وألذ الطعام. وكان منهم من لا يجد من اللباس إلا ما يستر عورته، وقد كان في مكة يلبس أفخر الثياب وأجملها… فأي قناعة أعظم من هذه؟
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على خلق القناعة لما لها من آثار إيجابية على حياة الفرد أولا، ففي كتاب “كتاب مكاشفة القلوب المقرب من علام الغيوب” جاء أن أبا هريرة قال: قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “كُن ورعاً تكن أعبد الناس و كن قنعاً تكن أشكر الناس واحبّ للناس ما تحبّ لنفسك تكن مؤمناً”. و قال صلى الله عليه و سلم:”ليس الغنى عن كثرة العَرَض إنما الغنى غنى النفس”. وقيل لبعض الحكماء:ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك. وقال أحد الحكماء: من أراد أن يعيش حرًّا أيام حياته؛ فلا يسكن قلبَه الطمعُ. وقيل: عز من قنع، وذل من طمع. وقال الحسن البصري: “علمت أن رزقي لن يأخذه غيري فاطمأنت نفسي.
ومن الأسباب المؤدية للقناعة: تقوية الإيمان بالله تعالى ، وترويض القلب على القناعة والغنى. والاستعانة بالله والتوكل عليه والتسليم لقضائه وقدره. وتدبر آيات القرآن العظيم لا سيما ما تتحدث عن الرزق والاكتساب. واليقين بأن الرزق مكتوب والإنسان في رحم أمه. ومعرفة نعم الله تعالى والتفكر فيها. أما عن آثار القناعة فمنها أن القَنوع يحبه الله ويحبه الناس، وأن القَناعة تشَيع الألفة والمحبة بين الناس، وتحقيق شكر المنعم سبحانه وتعالى، والفَلاح والبشرى لمن قنع.
قصص في القناعة
يحكى أن ثلاثة رجال ساروا في طريق فعثروا على كنز، واتفقوا على تقسيمه بينهم بالتساوي، وقبل أن يقوموا بذلك أحسوا بالجوع الشديد، فأرسلوا أحدهم إلى المدينة ليحضر لهم طعامًا، وتواصوا بالكتمان، حتى لا يطمع فيه غيرهم، وفي أثناء ذهاب الرجل لإحضار الطعام حدثته نفسه بالتخلص من صاحبيه، وينفرد هو بالكنز وحده، فاشترى سمًّا ووضعه في الطعام، وفي الوقت نفسه، اتفق صاحباه على قتله عند عودته؛ ليقتسما الكنز فيما بينهما فقط، ولما عاد الرجل بالطعام المسموم قتله صاحباه، ثم جلسا يأكلان الطعام؛ فماتا من أثر السم.. وهكذا تكون نهاية الطامعين وعاقبة الطمع.
وجاء في حكم وقصص الصين القديمة أن ملكا أراد أن يكافئ أحد مواطنيه فقال له: امتلك من الأرض كل المساحات التي تستطيع أن تقطعها سيرا على قدميك.
فرح الرجل وشرع يزرع الأرض مسرعا ومهرولا في جنون. سار مسافة طويلة فتعب وفكر أن يعود للملك ليمنحه المساحة التي قطعها.. ولكنه غير رأيه وقرر مواصلة السير ليحصل علي المزيد. سار مسافات أطول وأطول وفكر في أن يعود للملك مكتفيا بما وصل إليه.. لكنه تردد مرة أخرى وقرر مواصلة السير ليحصل علي المزيد والمزيد.. ظل الرجل يسير ويسير ولم يعد أبداً. فقد ضل طريقه وضاع في الحياة. ويقال إنه وقع صريعا من جراء الإنهاك الشديد.. لم يمتلك شيئا ولم يشعر بالاكتفاء والسعادة، لأنه لم يعرف حد الكفاية أو (القناعة).
العز في القناعة، والذل في الطمع
فصاحب القناعة عزيز بين الناس، لاستغنائه عنهم، لعدم طمعه فيما في أيديهم، بينما الطمّاع يُذِل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا جاء في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئتَ فإنكَ ميّت، وأحبِب مَن أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزّهُ استغناؤه عن الناس”. رواه الحاكم وصححه، والطبراني والبيهقي. وصححه الألباني
صاحب القناعة لا يذل نفسه إلا لله ، ولا يعلق قلبه إلا بالله، ولا يطمع إلا فيما عند الله .