الهَوى المُتَّبَع
التهذيب: قال اللغويون الهَوَى محبةُ الإِنسان الشيء وغَلَبَتُه على قلبه؛ قال الله -عز وجل-:”وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)النازعات
معناه نَهاها عن شَهَواتِها وما تدعو إِليه من معاصي الله –عزوجلّ-.
زجرها عن المعاصي والمحارم. وقال سهل: ” ترك الهوى مفتاح الجنة”؛ لقوله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} قال عبدالله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق فنعوذ بالله من ذلك الزمان.
ولا شك أن مغالبة الهوى ومجاهدته أمر صعب على النفوس، كما قال ابو العتاهية:
َشَدُّ الجِهادِ جِهادُ الهَوى وَما كَرَّمَ المَرءَ إِلّا التُقى
وَلا شَيءَ إِلّا لَهُ آفَةٌ وَلا شَيءَ إِلّا لَهُ مُنتَهى
عن أنس بن مالك، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : “ثلاث منجيات : خشية الله في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر، وثلاث مهلكات : هوى مُتَّبَع، وشحٌ مُطاع، وإعجاب المرء بنفسه”.
وقال الطبراني في «الأوسط» : (5915) حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي قال : عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات . فأما المهلكات : فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه . وأما المنجيات : فالعدل في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية . وأما الكفارات : فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات . وأما الدرجات : فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، وصلاة بالليل والناس نيام” .
ذكر في الحديث ثلاثة أمراض مهلكة، وبإزائها ثلاث علاجات لهذه الأمراض، فخشية الله مقابلة لاتباع الهوى؛ لأنها تمنعها ، قال تعالى:” وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى “. النازعات 40-41 وذكر القصد في الغنى والفقر بإزاء الشح المطاع، وذكر كلمة الحق في الغضب والرضا بإزاء إعجاب المرء بنفسه.
الهوى المتبع خطير جداً، فالهوى ما تميل إليه النفس، الهوى يهوي بصاحبه في النار، الهوى يُتّبع، يجذب، ولكن يسحب إلى الدركات، صاحب الهوى لا يرى إلا الهوى، إذا تكلم بهواه، وإذا صمت بهواه، وإذا أعطى لهواه، وإذا منع لهوى، فيعيش لهواه، يُعميه ويصميه، -يعني: يصمه-، المأسور من أسره هواه، قال تعالى:” أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ” الفرقان 43 ، فأنت اليوم ترى أصحاب العلاقات على الشبكات وفي الاتصالات يتبعون الهوى، فهذا يصاحب امرأة، قال تعالى:” وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ “. النساء 25
غير مسافحين ولا متخذي أخدان، من هو الخدن؟ ما معنى الأخدان؟ هذا الذي يسميه الغرب بـ girl friend -boy friend، مذكور في القرآن غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ، دخل الهوى في العلاقات الشخصية، فصرت ترى المحادثات والمكالمات والعلاقات مبنية على الهوى، يستجريهم الهوى، يتقاذفهم الهوى . قال تعالى:” فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ “. القصص 50
فالهوى المتبع ميل النفس إلى شهواتها، واتباعها لنزواتها، وإيثارها جانب المعاصي والملذات والفجور، بحيث يكون الإنسان تابعا لهواه، وعبدا لشيطانه، وقد خاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أمته من اتباع الأهواء، وخشي عليها شهوات الغي والضلال، فقال عليه الصلاة ,والسلام :” إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى .”صحيح الترغيب
واتباع الهوى يورث ضعفا في الدين، ورقة في العقيدة، ووهنا في الخُلق، ونزوعا إلى الخطايا والآثام، وعدم التورع عن مقارفة الحرام. والهوى المتبع إله مزيف، عبده الناس منذ القدم، واتخذوه ربا يسمع قوله، ويطاع أمره، ويتبع وحيه واتباع الهوى، يصد عن الحق، ويبعد عن الهدى، وقديما كان الهوى مانعا للناس من الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودافعا لهم إلى السير في عماية الباطل والضلال.
ولذلك يجب على المسلم أن يتجرد من أهوائه، وأن يصدر في أقواله وأفعاله عن الله -عز وجل – ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، بأن يتقيد بآداب الشرع، وأحكام الدين، بحيث يكون جميع أهوائه ورغباته تابعة لسنن الحق وطرق الهدى والصواب، قال صلى الله عليه وسلم :” لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به “. حسنه ابن حجر وصححه النووي
واتباع الهوى المذموم قد يكون في أمور الدين وقد يكون في شهوات الدنيا أو بعبارة أخرى قد يكون في الشبهات وقد يكون في الشهوات، وقد يكون في أمر مشترك بينهما.
وهوى الشبهة قد يوصل صاحبه إلى حد الابتداع في الدين وهو المراد في عامة كلام السلف حينما يتحدثون عن أهل الأهواء، فإنما يريدون بذلك أهل البدع.
وأما هوى الشهوة فقد يكون في الأمور المباحة كالأكل والشرب والنكاح والملبس وقد يكون في الأمور المحرمة كالزنا والخمر ومرتكب هذه المحرمات يسمى فاجرًا وفاسقًا وعاصيًا”.
قال ابن رجب – رحمه الله – :” وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع ولهذا يسمى أهلها أهل الأهواء “.
وكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه.
وقال الشاطبي – رحمه الله – : “ولذلك سمي أهل البدع أهل الأهواء، لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها، حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهواءهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورًا فيها من وراء ذلك”.
ومما ينبغي أن يعلم أن أهواء الشبهات أعظم وأخطر من أهواء الشهوات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : «واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات فإن الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين.
قال تعالى:” فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” القصص 50
إن لكل عبد بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى، كانت نهايته الذل والصغار والحرمان، والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع من هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذابا يعذب به في قلبه.
فلو تأملت حال كل ذي حال سيئة زرية؛ لرأيت بدايته الذهاب مع هواه وإيثاره على عقله، ومن كانت بدايته مخالفة هواه وطاعة داعي رشده، كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس . قال أبو علي الدقاق: من ملك شهوته في حال شبيبته، أعزه الله تعالى في حال كهولته.
وقيل للمهلب بن أبي صفرة: بم نلت ما نلت؟ قال بطاعة الحزم، وعصيان الهوى.
فهذا في بداية الدنيا ونهايتها، وأما الآخرة فقد جعل الله سبحانه الجنة نهاية من خالف هواه، والنار نهاية من اتبع هواه .
فإذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله -عز وجل- في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وجدتهم إنما نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى، وعن أبي هريرة قالَ: قالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّه تَعالى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌفي المَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه: اجتَمَعا عَلَيهِ، وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ، وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاها، حتَّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ متفقٌ عَلَيْهِ.
فإن الإمام المسلط القادر، لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه، والشابَ المؤثر لعبادة الله على داعي شبابه، لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك، والرجلَالذي قلبه معلق بالمساجد، إنما حمله على ذلك مخالفة الهوى الداعي له إلى أماكن اللذات، والمتصدقَ المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه لم يقدر على ذلك،والذي دعته المرأة الجميلة الشريفة فخاف الله عز وجل وخالف هواه، والذي ذكر الله عز وجل خاليا ففاضت عيناه من خشيته إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيل عليهم يوم القيامة، وأصحاب الهوى قد بلغ منهم الحر والعرق كل مبلغ، وهم ينتظرون بعد هذا دخول سجن الهوى.
فالله سبحانه وتعالى المسؤول أن يعيذنا من أهواء نفوسنا الأمارة بالسوء، وأن يجعل هوانا تبعا لما يحبه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.