دراسة نقدية.. لديوان (فم الزمان) للشاعر ضمد كاظم الوسمي

ربما لم نكن ندرك من قبل أن للزمان فماً ذا أضراس تهثم الأحياء ، حتى أطل الوسمي علينا بجسده الكليل فكان خير شاهدٍ لزمان عاتٍ، فمن صروفهِ عرف الرحيل ومعناه ، وبه اصاب علو اللسان ومغناه ، وفيه أجاد قوة الأداء بحديث عن الأسلاف الأحبة وماالتذّ منهم من خصيصاتهم ، ومااستطعمه فيهم من حكاياتهم ، ومااستمرأ من خلة لهم طويلة ، وصحبة معهم جميلة .

ولعل الأيام وسبلها المتشعبة هي ماجعلت شاعرنا يشكو ما ألمّت به يد القدر العابثة في ركن مهشم ، وما رسمته الغمائم في صفحة سمائه ذات الستين حولاً ، إذ ليس في كل مفاتن الطبيعة وروائع الحياة مايحرك باطنه إلا لعنة الدهر ودواهي الأيام التي أرَته في نفسه وهناً من بلوى ، فلاينقذه مما منَته ُ صنوف البلاء بغدرٍ حاضر وأمانيّ مسلوبة سوى العودة الى الرب الذي يرفع عنه الخمول والحسرة أينما وجدهما فيه ، وهو يرى في ذلك الرب نوراً يعصمه من غرقٍ بطوفان الأوحال النفسية مدفوناً بقبرٍ في بُكمهِ العجيب ، وأي بُكمٍ أعظم مما أصيب به شاعرنا المنكود الذي لايكفيه النطق ما بين غواية وهداية ، ومابين طلولٍ وذكرى ، وأكذوبةٍ كبرى .

فهو على الرغم من معرفته بأن الشعراء يتبعهم الغاوون إلا أنه اعتزم أن يكون شاعراً ، وهو عليمٌ بأن من أراد ان يدين بدين الشعر فعليه أن يجول في ميدانِ ذهنٍ مشبوب ، وعواطفَ سخية .

لقد جال شاعرنا في شوارع الأدب حاملاً على كتفه الخائرة قيثارة ً لطالما أطربتنا بها أنامله المحنّاة بالآه ، وأوجعتنا بما يلُوح في قسمات محيّاه ، من أسى وشكوى ، وهو يتنقل مابين ليلٍ أحكم اوقاته عليه ، ونهارٍ غادره ُ كخاطرة مرت عليه بسرعة البرق الخاطف ، وقد أحاط بصروف الدهر ، واطلع على قدرٍ بما تواري له ايامه بعض جروحه من شظاياها التي استقرت في جسده الخامل ، وطعناتها العديدة التي انتثرت في وجهه وقفاه كما لو كان فلاح ٌ ينثر بذوره في أرضه .

ولشاعرنا الوسمي طرس بأصداء متقطعة ، وقلم بأصوات مبحوحة ، فقد ألمّت به فاجعة ، وهاج به الوجد حتى لَيُخيَّل إلينا لكثرة شكواه أنه هو المنعيّ لا الناعي .

ويعدو الوسمي في غياهب فم زمانه الذي لاينصفه ، حتى اذا تظاهر له بالإطمئنان كان له حِمام البين بالمرصاد ، فيفطن إلى أن ارتياحه له كان رهناً لأوهام دانية راودته فعرف أنها العلة التي نخرت حياته سنة بعد سنة ، هذه العلة التي كانت تسقمه بألف حجة دون ذنب اقترفه سوى أنه هجر الكأس والشادي ، لاسيما أنه لم يكن محتاطاً لذلك الدهر الذي روّع فيه جليلاً ، وقبّح في فمهِ لذيذاً ، وأحجمَ عنه متعةً سلوى ، وأعافه عن مستظرِف يلهى ، وقطع عنه ساعات بهجتهِ ، فجعله للديدان هزواً تقتتل للثأر منه ، وسخرية للنوى الذي تجرّعَه ، فأسقاه كأس لوعةٍ ليصرعَه ، وربّاه ُ كسير َ قلبِ دون أن يرضعَه ، واغتال دمعته في ظلمةِ جُبّ ، وقيّده ُ بسرابيل من قطران بحجةِ ذنب .

وفم ُ الزمان نفسه ُ قد نفح على (الوسمي ) بما جعله يحتسي الألم والمضض بديلاً عن الخمرة والدِعة ، وان كان في ما مضى غرّيداً لعينَي حسنائه وقد اشرأب لها فؤاده في محرابها ، وبات يرتقب أجفانه في أجفانها ، فكان غاية مايرجو في حياته أن يفوز بلحاظها ، تنسيه الليل إذا سجى ، يخلد الى السكوت ليصدح شعراً ، ويحبس الدمع في عينيه ، وينأى بآماله به عن دائرة القدر الضيقة .

إن الوسمي قد ورد شرعةَ غرامٍ تحدّر فيه ، مابين حلمٍ حلمَه ُ ،
وعتاب ِ عاذلٍ لامَه ُ ، دون أن يتحرج من أن يبلَّ طرف لسانهِ من معينهِ الفيّاض ، فاتسعت ْعنده مذاهب الشوق حين هم ّ أن يبتدئ الحكاية ، وتعلّق في فضاء وجه معشوقته المشرق في ليل من تحت العباية .

وخلافاً لما قيل أن أعذب الشعر أكذبه … فقد كان شاعرنا أنموذجاً لشاعر امتهن وظيفته بصدق ، فأصبح بين فكّي الزمان بحق ، حتى لم يعد له حمل إلا أعياه ، ولا قصيدة الا روت بؤسه ، بين كلمٍ حلو ، ومعنى صادق ، أذاقه جمراً ودرباً موحشاً دون نجمٍ يهديه ، ولا حادٍ يحتديه .

بواسطة
الناقد عبدالباري المالكي - العراق
المصدر
مقال الرأي يُنشر في الجريدة ويعكس في الأساس رأي الكاتب حول الموضوع الذي كتبه ولا يعبر بالضرورة عن صوت المواطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق