ظلال زرقاء
اِنْتَهت الاِنْتِخابات الأمريكيِّة بفتح الأبواب البيضاء على مصراعيها للأمواج الزرقاء والمتمثلة في القادم الجديد جو بايدن والذي فاز في كُلِّ شيء بداية من الاِسْتِطلاعات إلى الفوز بأرقام المجمع الاِنْتِخابي؛ لكن الجميع يكاد يجزم بل يعلم من التصريحات ومن شخصيته أَنَّ ترامب لن يتنازل بسهولة؛ لكن هل قد يؤول الأمر إلى حربٍ أهليِّة؟ لا؛ مطلقاً، بالرغم من الأنباء المتداولة عن تغيير ترامب وزير الدفاع بآخر مقرب له؛ فعلاقة الشعب الأمريكي مع الديمقراطية الداخلية مختلفة فهي أقرب إلى حالة من التقديس، كما أَنَّ المؤشرات ترسم سيناريو تخلِّي الحزب الجمهوري عن ترامب طمعاً في كسب موقف يريح الشعب كتجهيز مستقبلي للاِنْتِخابات القادمة، حتى قناته المفضلة (فوكس نيوز) اِصْطَفت للوقوف في صف جو بايدن وتويتر المنصة المفضلة للرئيس ترامب سوف تعيد التعامل معه كمغرد عادي بداية من 20 يناير أيَّ رفع حصانة الميديا الَّتي تُعْطى للرؤساء والملوك وأصحاب الفخامة، إذنْ من سوف يحارب معه والجميع تركه؛ ما سيؤول إليه الوضع هو أقرب للمناوشات البعيدة سواء بالتصريحات أو المقاومة القريبة في أروقة المحاكم لكن سوف ينتهي كُلَّ شيء بنهاية هذا العام ولن يأتي يوم 20 من يناير إِلَّا وتوقفت المقاومة وكُلَّ المناوشات بالتسليم.
ماذا بعد فوز جو بايدن؟
جميع الرؤساء الذين دخلوا أروقة البيت الأبيض باِخْتِلاف اِنْتِماءاتهم وتوجهاتهم الحزبية سواء جمهوري أو ديمقراطي، جميعهم على الأقل كان يجمعهم قاسم مشترك واحد وهو المحافظة على النظام العالمي المقام من بعدِ الحرب العالمية بمنظماته، تحالفاته واِتفاقياته؛ بتحالفات واضحة وعداوات واضحة وسعي لعولمة وحفاظ على الحلفاء واِحْتِواء الأعداء؛ ترامب كان هو الوحيد الاِسْتِثناء بينهم بمحاولاته الطويلة المستمرة في مغادرة وترك كُلَّ شيء لا يعجبه في العالم رافعاً شعار أمريكا أولاً لذا ليس من المستغرب بل من المتوقع والمألوف عودة جو بايدن بأمريكا لما كانت عليه قبل ترامب بعودة اِنْدِماجها في الاِتفاقيات وقيادتها للمؤسسات الدولية.
ظلال أوسطية
في المعتاد تأخذ أيَّ إدارة أمريكية جديدة ورئيس جديد فترة الشهور بل حتى العام الأول في تشكيل السياسات الداخلية وإعادة ترتيب البيت الداخلي الأمريكي ومن ثُمَّ الاِلْتِفات إلى السياسات الخارجية بتتابع الأولية مالم يحدث طارئ ولن تكون إدارة بايدن في اِسْتِثناء من ذلك؛ أمَّا عن الشرق الأوسط فالموضوع أعمق مما يبدوا عليه. لو سألت أيَّ أحد كيف يُصنع السلام فسوف يجيبك عندما تنهزم إحدى الأطراف المتصارعة فتستسلم وينتهي الصراع والحروب، ذلك فعلاً قد يخلق سلام مؤقت لكن لا يدوم فلا تزال الأحقاد تكتنز في قلب المهزوم وشعوره بالضعف، والبشر بطبيعتهم تكره الاِنْهِزام مما يعيد ولو بعد حين شبح الحرب من جديد؛ لذا فالحقيقة هي عكس ذلك تمامًا حيث يُصنع السلام عندما تتساوى قوَّة الأطراف المتصارعة فيحدث نوع من أنواع الاِتزان الذي يتحوَّل إلى سلامٍ شبه دائم فلا تعود الحرب أبدًا إِلَّا باِخْتِلال هذا الاِتزان؛ لنأخذ كمثال الهند، الصين، وباكستان، دول متلاصقة في إقليم وحدود مشتركة، مختلفة، متنازعة، لكن في حالة اِتزان بسبب اِمْتِلاك ثلاثتهم لسلاح نووي إلى حدٍ ما متقارب إذنْ لا فائز ولا مهزوم بينهم فمهما اِشْتَعلت المعارك الخفيفة الجانبية لن تتحوَّل في أيِّ حالٍ إلى حربٍ شاملةٍ؛ كذلك هو وضع الشرق الأوسط الحالي حالة مُصَّغَرة من شبه اِتْزَان بعيداً عن النزاعات الصغيرة المتقطعة والَّتي لا تكاد تشتعل حتى تهدأ هنا وهناك؛ فمن يراقب مثلاً الوضع في ليبيا بمجرد اِخْتِلال اِتزان القوى هناك لصالح جهة على الأخرى اِشْتَعلت حرب كانت سوف تنتهي بفوز أحدهم على الآخر لكن بمجرد ما أن تدخلت تركيا ورجحت كفة وكذلك مصر برسمها الخط الأحمر خلق ذلك نوع من أنواع الاتزان وعاد الهدوء إلى ليبيا؛ لذا بموجبه لن نرى مثلاً إيران تحارب المملكة العربية السعودية حرب مفتوحة مباشرة، لكن بقدوم بايدن قد يُخِلُّ بأركان الاِتزان.
إيران
سوف يعود بايدن إلى الاتفاق النووي بقاعدة وحيدة وهي (الالتزام مقابل الالتزام) والذي قد يستغربه الجميع هو أن لا تكون لإيران رغبة في العودة للاتفاق النووي في الوقتِ الراهن خصوصاً مع اِقْتِراب موعد الانتخابات القادمة في منتصف 2021. ولكن الذي قد يكون الأغرب على الإطلاق هو اِسْتِباق ترامب لهذه الخطوة بتوجيه هجوم مدمر للبنية التحتية العسكرية الإيرانية من مفاعلات نووية وقواعد عسكرية ومراكز أبحاث للصواريخ أو حتى هجمات قاصمة لأذرعها في المنطقة وذلك في الأشهر المتبقية له في البيت الأبيض وهذا ما يبدو عليه الغرض من تغيير وزير الدفاع؛ فبالتالي ينهي أي خطر إيراني مستقبلي على إسرائيل وحتى وإن عاد بايدن إلى الاتفاق النووي؛ يصنع الفوضى ويترك لبايدن عناء تنظيفها.
لبنان والعراق
قد يستغرب البعض ويعتقد أَنَّ لبنان هي الدولة الأبعد من ناحية تأثير سياسات بايدن عليها لكن في الحقيقة هي قد تكون الأقرب على الإطلاق والأسرع تأثراً بها، فبلد هش في حالة سعي حثيث لتشكيل حكومة توازن تعيد بها الاستقرار للبلد وترفعه من صفيح النار الذي يشتعل؛ وبقدوم بايدن سوف يعود للاتفاق النووي وبعودته للاتفاق يطلق لإيران العنان وأول ما سوف يعود هو الدعم المالي لحزب الله مما يقوي شوكته ويجعله يفرض كلمته أكثر ويكسب شعبية أكثر، وكذلك هو الوضع بالنسبة للميليشيات الموالية لإيران في العراق.
إسرائيل وفلسطين
التأثر التالي والأقرب هو ما يحدث في إسرائيل؛ لا يخفى على أحد أَنَّ ترامب كان الداعم الأكبر والمطلق لرئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي نتنياهو وبمجرد إعلان خسارة ترامب خرجت مظاهرات في إسرائيل تطالب نتنياهو بالمغادرة أيضاً بما يوحي وضوحًا بميلان الكفة ناحية اليسار وزعزعة آمال نتنياهو في البقاء. أمَّا عن فلسطين فلا أمل في العودة إلى ما قبل صفقة القرن فأكثر ما قد يقوم به بايدن هو إعادة فتح المكاتب الفلسطينية الَّتي أغلقها ترامب أو حتى إعادة التمويل الذي أوقفه الأخير لا أكثر من ذلك؛ ويظل الوضع الذي رسمه ترامب على الأرض كما هو بلا تغيير بالرغم من دعم بايدن لحلِّ الدولتين.
المملكة العربية السعودية، مصر، وتركيا
بالرغم من التباعد الذي يبدو بينهم في وجهات النظر والذي قد يصل إلى حدِّ الاختلاف والتنازع لكن ثلاثتهم يجتمعون في منظورهم أمام السياسات الخارجية لبايدن، فالمملكة العربية السعودية بسبب حرب اليمن ومقتل الصحفي جمال خاشقي، ومصر في ملفات حقوق الإنسان القديمة الجديدة، وتركيا في تغريدها خارج سرب الناتو وشرائها لمنظومة S-400 الروسية؛ فجميعهم قد تصبح علاقتهم مع أمريكا في أسوأ حالاتها مع عهد جو بايدن لكن لن تصل مطلقاً في جميع الأحوال إلى القطيعة أو التهميش لهذه الدول لما تمثله من ثقل، قوَّة، ومكانة.
فباختصار لفهم ومعرفة ما سوف يقوم به بايدن مع تغيرات بسيطة ولمسات خفيفة فعليك بالعودة إلى عهدِ باراك أوباما باِسْتِثناء الموجة الَّتي ضربت الشرق الأوسط حينها والَّتي تسمى بالربيع العربي الذي لن يتكرَّر مُجَدَّدًا في أيِّ حالٍ من الأحوال.