من الغابة!
نشرتُ ذات يوم بالفيس بوك هذه الكلمات:
“لو أن الرسول محمد(ص)عاد، وراء اكتظاظ الناس في كل هذه الميادين واخضرار الدنيا..لقال مخاطباً تلك الجماهير: اذهبوا أيها الناس إلى أعمالكم.ثم للتفتَّ إليكم وقد بدا على وجهه عدم الرضى،مضيفاً: إن هناك فقراء هم بحاجة لهذه الأموال المهدرة في الشوارع وعلى الجدران.احتفلوا بي في أعمالكم وتغنوا بحبي في بطون الفقراء.”
نسخ هذا المنشور القصير أحد الزملاء الذين انصهروا كالكيروسين وسط طلاء أخضر فور سطو القادمين من جبال صعدة على كل شيء. ثم قام بالصاقه في مجموعتنا(الإدارة العامة لمطابع الكتاب المدرسي) بالواتس آب ، حيث كان ذلك الوقت قد أصبح متنفس الجروب هاشمياً.في اليوم التالي من شتاء 2015م ، أُخِذتُ من مكتبي إلى المعتقل.!
للعلم أنني أنشئت حسابي/ الفيس بوك ، بغرض المتابعة والقراءة .أنا لا اكتب ولا أهوى الكتابة ، في صفحتي المنشأة حديثاً أي في آواخر عام 2011م.لم اكتب عن أي شيء سوى مرة تهنئة لولدي بمناسبة تخرجه من الثانوية العامة بمعدل دفعني للكتابة عنه.وكل مافيها عبارة عن صور ومقالات علمية ،وكتابات مشاركة لأخرين ،لا يمت أين منها بصلة للسياسة وأحداث الحرب.في كل وقتي إلتزمت الصمت على مضض، لم اتواصل مع أحد بشأن الحرب ، وكنت أكتفي بالرد على من يسألني عن طبيعة الوضع بصنعاء، بهذه الجملة ،في المهاتفة أو الرسائل النصية: الحمدلله ماشي الحال.
خلال أربع سنوات في معتقل الحوثي ، وأنا استرجع كل تفاصيل حياتي التي قمت بها منذو أصبح الحوثي سيد كل شيء في صنعاء.وكنت بعد كل عملية استرجاع، أتوقف عند منشور الفيس بوك الذي كتبته في يوم احتفالهم بالمولد النبوي.وحده هذه المنشور الذي كانت تحوم حوله شكوكي في أنه تهمة [اعتقالي].
وفعلاً لم أجد -على مدى أربع سنوات تقصي وبحث عميق- عملاً قمت به ؛ أخطر من كتابة تلك الكلمات القليلة.كنت من بيتي إلى عملي والعكس.حتى اقتصرتُ من تجمعات الأصدقاء وأحاديث السياسة في المقائل والتجمعات العامة.كنت اذهبها ولكن لا ألبث فيها سوى ساعة إلى نصف ساعة بالأكثر.وكنت حريصا على كل كلمة تخرج من لساني..لم يكتفوا باعتقالي وحسب ، بل أوقفوا راتبي وصادروا حقوقي ، وتشردت أسرتي من بعدي وتاهت في غياهب ليالي الذل المظلمة والإهانات المرة.
لقد هانت اليوم عذابات تلك السنوات المظلمة ، أمام فظاعة الظلم الذي ساوموه من أجلنا ، فساووا الجلاد بالضحية.ساووا بي مع معتقل أسرته الشرعية كمخبر داخل صفوفها ، أو كمقاتل في معركة ، أو كمهرب أسلحة أو غاسل أموال ،أو زارع عبوات ناسفة.البائع بقاتل ، الصحفي بجاسوس ،المدرس بقائد جبهة.
نعم ياصديقي، عقبتُ على حديثه: إن أغلب الذين اعتقلهم الحوثي لم تثبت عليهم إدانات ، وآخرين كانت إداناتهم تافة ، تافة جداً ، لا تساوي شيء أمام ما لاقوا من جزاء إجرامي فاحش ، من سجن وتشريد ومصادرة للحقوق.
في كل مرة تبدو “الأمم المتحدة” شديدُ الانحياز للحوثي.هكذا بدون أدنى خجل تمارس الظلم والإجحاف واللا منطق! يقول كثير من اليمنيين :لم يتبقى لمارتن غريفيث(المبعوث الأممي إلى اليمن) سوى أن يرفع يده ويصرخ بشعار جماعة الحوثي:
الله أكبر ،الموت لأمريكا…الخ.
ومع ذلك تقبل الشرعية برغم كل هذا الضيم البشع، لأسباب كثيرة قد أحاطت بها كـ: الضعف ، الخذلان ، المسؤولية ، الإنسانية.منذو بداية الحديث عن مسألة “تبادل الأسرى” زادة شراهة الحوثي ، في الاعتقال ، ليزج في سجونه أكبر قدر من اليمنيين الأبرياء أو بتهم ملفقة وتافة، وهكذا سيفعل بعد هذه الصفقة.
إن هذه المساومة البشعة ، تعطينا تعريفاً كاملا عن حال الحرب في اليمن وعن وضع كل محارب وحليفه.غرقت السعوديه، الحليف الرئيسي للشرعية في نفسها، تاركة وراءها حليفها”هادي” وحيداً يواجه ،بقدراته المتواضعة أكثر من عدو(حوثي وآخرين صُنعوا على عينها). وغرقت إيران في بحر وكِيلها/الحوثي.راح بحر الشرعية يجفُ ،
وبحر الحوثي يمتد على شواطئه.
وفي تغطية الطرفين الإعلامية ، للحظات وصول أسرى كل طرف إلى مناطقهما.سأل مذيع حوثي أسير حوثي:ما شعورك بهذا اليوم وقد أصبحت حراً ؟ أجابه الأسير بكل نزق وإنتشاء:
“سأتعشى في صنعاء وافطر في مأرب( حيث جبهة القتال).”وسأل مذيع تابع للشرعية أحد الأسرى ، نفس السؤال، فأجابه ودموعه تتدفق بغير إرادة:”لا يوصف”.ليَهرع لتوه بكل جموحه نحو أمه التي رأها ويخر مغشياً عليه أمام أقدامها.