هل الانسان مخير أم مسير ؟
لقد تم طرح هذا السؤال الشائك في المراتب الأولى ضمن القائمة الفلسفية، باعتباره مثار الشك والنقد، والمعارض والمؤيد، والموفق من جهة أخرى، لكونه يهم الذات الإنسانية، ذات رغم بصمتها الوجودية على امتداد زمني، إلا أنها صعبة الفهم والتحليل، من هو هذا الانسان ؟ وهل هو مخير أم مسير ؟
عندما نتحدث عن الانسان، فنحن نتحدث عن كائن فريد، كائن يعد الأقوى من بين الكائنات الموجودة الحية، نظرا لامتلاكه العقل، هذه الملكة العظيمة، التي سمحت له بالتحكم في الطبيعة وتسييرها بطريقة تحمل في طياتها العديد من العوامل، بغض النظر عن بعض الظواهر الخارقة بتعبير أدق، لا يستطيع التحكم فيها، ولا صدها، ولا مجاراتها، لكن هذا يطرح نقطة أخرى، متعلقة بمكان وجوده، هذه الأرض الكبيرة وسط كون فسيح، مداد هائل مسير وفق نظام، وقوانين ثابتة، لا وجود للإخفاق فيها، وليس باستطاعة الانسان رغم امتلاكه العقل التحكم فيها أو فهمها بشكل مطلق، لكن اعتمادا على مهاراته، والمعرفة المتراكمة منذ بداية وجوده، وأيضا رغبته في معرفة المزيد، وخصوصا ما هو مجهول، استطاع التحكم في الطبيعة، وتسخيرها كعامل أساسي يمده بالطاقة والقوة للاستمرار في العمل والبحث، والاكتشاف، والمعرفة.
لكن هل هذه المعرفة مطلقة أم لا ؟ بالطبع لا، لا وجود لمعرفة مطلقة، كما الحقيقة، وخصوصا ما هو جوهري، إن معرفتنا محدودة شيئا ما، فنحن نستخلصها من خلال اعتمادنا على حواسنا، وعلى التفكير، ومنهما ينمو فعل الصنع، أو التطوير، وبالخصوص صنع الآلات الفائقة، التي بإمكانها المساعدة أكثر في البحث، لكن معارفنا كثيرة وبعضها ثابت والآخر مشكوك فيه، والآخر لا نعرفه، وهذا ملازم للحقيقة أيضا، فثبوت المعرفة الحقة يعني الحقيقة، وعدم ثبوتها يعني بدوره، انعدام الحقيقة.
وبالنظر لماهية الانسان، لا يمكن الحسم إن كان مسيرا أو مخيرا، وبالرجوع إلى لحظة انجابه، فهنا ليس مسؤولا عن وجوده، فذلك مسؤولية جنسين، ذكر وانثى، أب وأم، لديهم غرائز فطرية، وأيضا يمتلكان عقل، وكان بإمكانهم الاختيار، ما بين الانجاب أو لا، لكن أنجبوا في الأخير، وبالتالي ذلك من حقهم، لكن الجنين غير مسؤول عن وجوده، ولم يسأله أحد إن كان يريد الحياة على هذه الأرض أو لا، لم يأخذ أحد رأيه في مصيره الذي سيخوضه فيما بعد بمسؤولية هو الآخر، ولن نعود بهذه المسألة لبداية الأصل، وإنما الاكتفاء بجزء له رؤيا منطقية.
أما ذلك الجنين الذي سيكبر، وقبل ذلك سيمر عبر مراحل من عمره، لا يمكنه أخذ أي قرار، وبتعبير أدق، ليس مسؤولا فيها، لكونه بعد لم يصل سن الرشد، وهي مدة زمنية ليست بالقصيرة، كلها قرارات، وتوجيهات مباشرة وغير مباشرة من قبل الوالدين، إذا هذه نقطة محورية يجوز القول أنه مسير فيها وليس مخير.
ومثل ولادته الغير المسؤول عليها، هنالك أيضا الموت، غير مسؤول أيضا عن موته، توجد الأسباب، لكنها غير محددة للوقت بدقة، وبالتالي فموت هذا الانسان بيد قوة أكبر منه، بمعنى أنه مسير فيها. والعديد من المسائل الأخرى مثل الأمراض الخطيرة المولودة معه منذ البداية، فهذه ليست من اختياره، وهنالك وسطه ووالديه نفسهم. أشياء عديدة، لكن منطقيا، الانجاب مسألة طبيعية والموت كذلك، رغم كون الانسان غير مخير فيهما، إلا أن الأسوأ، والذي قد يؤثر عليه تأثيرا كبيرا، هو الفترة الممتدة من لحظة ولادته حتى بلوغه سن الرشد، تلك القرارات التي اتخذها بدله آباؤه، هل هي مناسبة له، لأنها المحدد الرئيسي لمستقبله، لحياة سيعيشها، إما بشكل جيد أو سيء، لهذا فالآباء مسؤوليتهم لا تتوقف عند الانجاب فقط، بل في قضية مصير انسان.
وليس الآباء وحدهم، بل حتى المؤسسات التعليمية، وكل الأفراد المحيطين بذلك الانسان ولهم صلة به، لأنه سيكبر مع الوقت، وربما يسعد لما توصل إليه، دون العودة من نقطة الصفر، وربما يكره وجوده، وما قد وجد نفسه عليه، لأن المسؤولية لا يجب أن يتحملها الشخص لوحده. أما عند بلوغه سن الرشد تصبح في يديه المسؤولية، وبالتالي تنسب إليه نتائج أفعاله، سواء كان مخيرا فيها أو مسيرا.
وهنالك أشياء كثيرة مخير فيها، وكلها متعلقة بمسائل حياته اليومية، بكل ما تحمله نفسه من مشاعر، له الحق في اختيار شريك حياته، أن يختار الأشياء التي يحب بشكل عام، حتى في بعض الأحيان اختياره قد يكون له تأثير على أشخاص آخرين، لكنه مناسب له ويريحه، ولا بأس في ذلك مادام لا يتعدى حرية الآخرين.
وما هو واجب استخلاصه، أن الانسان مخير ومسير في الوقت ذاته، نظرا لكونه محكوم عليه العيش مع الغير، وليس لوحده، وقراراته دائما سيكون لها تأثير، سواء داخلي أو خارجي، وبالتالي من واجبه أن يتعايش، ويتقبل الوضع الذي هو عليه، هذا إن لم يستطع تغييره، وإن كانت له القدرة على تغييره، فلا أحد سيمنعه إن كانت إرادته قوية، ولا شك في إرادة الانسان القوية بالنظر لما نحن عليه اليوم.