هل نضب معين الفن بأكادير واقع الأغنية الأمازيغية؟
يثير تدني مستوى الإبداع في ما أضحت تنتجه العقول الأمازيغية الكثير من التساؤلات، وتستبد الحيرة بالمتلقي الغيور على ثقافة تليدة يمعن أبناؤها في حفر قبرها بأيديهم مقابل حفنة من القروش لا تسمن ولا تغني من جوع.
فبين ركام مما يسمى جورا دواوين شعر، وهي من الشعر بريئة براءة الذئب من دم يوسف، وإسهال في الأغنية والأعمال التلفزيونية والسينمائية الرديئة، يتراوح واقع الإبداع الأمازيغي اليوم، الواقع المؤلم الذي يجعل الغيورين حقيقة على هذه الثقافة يرمون الحصاة تلو الحصاة في هذه البركة الآسنة، ومن يتقوتون منها يردون بكون النقاد إنما ينتقدون لعدم نيلهم نصيبهم من الكعكة.
ترتفع منذ شهور بأكادير أصوات تنبه لما يحوم حول الفن الغنائي بالمدينة والمحيط من مخاطر، انضافت لتلك الأصوات الصيت السيء الذي أضحت تتمتع به عاصمة الفن بالجنوب لدى مؤسسات تعنى بحقوق الفنانين، الصيت الذي صنعته ممارسات بعض ممن يحسبون على الساحة الفنية بها التي لا صلة لها بأخلاق الفنانين.
فمنذ ثلاث سنوات شرع المكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة في صرف مستحقات الفنانين، شاع الخبر بين الصفوف، فظن البعض أن الأمر يتعلق براتب شهري وليس بحقوق مترتبة عن عمل دؤوب ومتواصل للفنانين الحقيقيين، فسال اللعاب، وفتح باب التطفل على مصراعيه أمام الجميع لينهلوا من معين النقود الجديد الذي يظن عدد منا أنه لا رقيب عليه ولا قواعد تحكم عمله، ذاك البعض الذي لا يكلف نفسه عناء السؤال عن مصدر ما يوزعه المكتب من مستحقات على الفنانين، فظن البعض كونه يكفيه أن يدس في جيبه مبلغا ماليا متواضعا، ويتوجه لأقرب أستوديو ليصبح فنانا في ستين دقيقة دون أن تتوافر له أدنى مواصفات الفنان، فضلا عن سيل المنازعات التي نجمت عن جشع من يستولون على إبداعات الآخرين وينسبونها لأنفسهم جورا.
إن بعض المتدخلين في الميدان الفني ومنهم الفنانون أنفسهم هم من يحفرون قبر ميدانهم بأيديهم وهم يقبلون ممارسات دنيئة لعل أحقرها تزويد أي كان بكلمات وألحان، وإن أرباب الأستوديوهات يسهمون في تعميق قبر الفن الأمازيغي الذي عاش قرونا من الرقي والازدهار بجعل إكانية التسجيل متاحة أمام أي كان مهما كان بعده عن الميدان.
لقد كانت الشركات رغم ما يمكن أن يقال عنها تلعب دور الرقيب على ما تنتجه من أعمال غنائية، وكان المتلقي يمارس رقابة من نوع آخر برفض المنتوج الرديء، وكان الفنان الأمازيغي قبل التفكير في التوجه إلى الأستوديو مطالبا بالتخرج أولا من مدرسة الفن التي لن تكون إلا اسايس أو الروايس، وقبل ولوج هذه المدرسة يمر المترشح من اختبارات صارمة تتحقق من توفره على الحد الأدنى من المؤهلات التي لا يمكن اكتسابها، وهي الحبال الصوتية الرائعة للسباحة عبر المقامات الأمازيغية الخماسية الشديدة الدقة والصعوبة، يلج التلميذ عالم الروايس مبتدئا، وقد مر من محطات تتلمد أخرى في مسقط رأسه وبين ذويه وخلف قطيع الأهل، فيمنح أبسط الآلات وأعقدها أي الناقوس، والتي يعتبر في النجاح فيها مفتاحا للبقاء بين فرقة الروايس التي استقبلته، ليشرع في اكتساب أصول الفن من مصادره، وما المصادر إلا جهابذة الروايس، فيسلم الجيل للجيل الذي بعده الصنعة، ويشترط في الرايس لدى الأمازيغ أن يكون له صوت شجي، وأن يعزف على إحدى الآلتين الرئيسيتين أي الرباب ولوطار واساسا الرباب، وأن يتعلم بناء نصوصه بنفسه، فضلا عن العتماد على النفس في كسب لقمة عيشه وتقنيات الملبس والرقص وأداء مختلف الأدوار وفي صلبها الخطابة وحسن القول والجيد من القيم.
وتتكون مدرسة الروايس من الجلسات ومن الحلقة ومن الجولات في مختلف المناطق، يجالسون بعضهم البعض فيتعلم المبتدؤون من الراسخين في العلم، يتنقلون من دوار لدوار ومن قبيلة لقبيلة مرحبا بهم، فيكتسبون اللسان الأمازيغي من مصادره ويتشربون كل فنون القول من عبارة مسكوكة ومثل ولغز وتقنيات بناء النص الشعري، وهي درجات التتلمذ التي مر منها كل كبار الروايس من الحاج بلعيد إلى أوتاجاجت.
سيتسلق الروايس سلم المجد والشهرة، وسيحققون أرقام مبيعات خيالية في مبيعات ما يبدعون، سيسيل لعاب الشركات بعد الألفين، مما جعلها تدشن مشروع خراب الأغنية الأمازيغية في المناطق الناطقة بتشلحيت.
لقد خرب الجشع أغنية الروايس، إذ لجأ أصحاب الشركات إلى حيلة استقدام أصوات، لا يرغب أصحابها في الظهور لسبب من الأسباب تسهم بحناجرها، بينما تعود الصورة التي تلصق بالشريط لشخص آخر، فصار لكل صوت، نسوي ورجالي، عشرات الوجوه والأسماء، لتجد بعض أصحاب الوجوه الذين حققوا الشهرة بحناجر غير حناجرهم أنفسهم أضحوكة أمام الناس حينما وضعوا أمام الأمر الواقع في المنصة، والأسماء والنماذج كثيرة.
إلى جانب ظاهرة الفنان الصورة أو الفنان الوهمي، برزت ظاهرة المحكن كما يسميها بيسموموين أي القمع الذي يتحدث منه الآخرون، ظاهرة الصوت المزور أو ما يعبر عنه الروايس بالفيكودور، والذي يقصد به ما وفرته التقنيات الحديثة من مؤثرات صوتية تتيح لأي كان أن يصبح فنانا ولكن فقط داخل الأستوديو، فتكاثر فنانون الأستوديو كالفطر.
ستأتي موجة القرصنة لتجهز على ما تبقى من مجد الأغنية الأمازيغية، وستدخل فترة كمون لسنوات أدت لإفلاس عدد من الشركات أو تغييرها المسار، وعجز عدد من الفنانين الكبار الذين لا يتقنون غير الفن.
مع اليوتيوب، سيتنفس عدد من المشاهير الصعداء، وسيضمنون من خلال ما تحققه أعمالهم من مشاهدات ولو بعض المداخيل التي تفي ببعض حاجياتهم الأساسية اليومية في ظل وبار سوق الكاسيط والأقراص المدمجة بمختلف أنواعها، ستستمر الأزمة وترتفع بعض الأصوات، لتكون الاستجابة من خلال شروع المكتب المغربي لحقوق المؤلفين في صرف مستحقات الفنانين، ولكن الرياح دائما في أكادير تجري عكس ما تشتهيه سفن الفنانين الحقيقيين.
لقد انتشر خبر المستحقات كالنار في الهشيم، وأغلق الحرفيون ورشاتهم، وحج الناس إلى الدشيرة وأكادير من كل فج عميق بحثا عن أموال المؤلفين والفنانين. ويحكي أحد الأصدقاء ضاحكا أن صاحب ورشة ظل يعيش منها منذ عقود أخبره أنه سيغلقها بعد أن صار بإمكانه أن يصبح فنانا سيتلقى أجرا ويستفيد من أموال المكتب المغربي لحقوق المؤلفين والحقوق المجاورة.
إن سوء الفهم الكبير لمهمة ووظيفة هذه المؤسسة جعل من لا صلة له بالفن يحلم بأن يصبح فنانا، لم لا فبمجرد إيداعه ألبوما سيشرع في تقاضي مرتب شهري حسب فهمه المغلوط وزعمه، وهو ما يساهم فيه الفنانون أنفسهم، وتسهم فيه جهات أخرى كثيرة ستجهز على ما تبقى من فن بأكادير عاصمة الفن بالجنوب الناطق بتشلحيت.
ومن الأمور الغريبة أن أشخاصا لا تتوافر لهم أي من مقومات الفن، إذ لم يسبق لهم أن نظموا نصا شعريا، أو أبدعوا لحنا، أو وقفوا أمام ميكروفون مؤدين أو أمام جمهور مغنين، ولا يعرفون حتى أسماء الآلات فما بالك بالعزف عليها…هؤلاء يحملون بطاقة الفنان، بينما فنانون قضوا في الميدان عقودا لا يتوفرون عليها، ومن الغرائب أيضا أن بإمكان أي كان ، رغم عدم وجود أي صلة له بالفن، ولا تتوافر له أي من مقوماته، بإمكانه أن يدس في جيبه مبلغا بسيطا من المال فيتوجه لأقرب استوديو فيقتني كلمات ولحنا ويجد العازفين، فيقف دقائق أمام الميكروفون ودقائق أخرى بجانب تقني التسجيل والميكساج، ليصبح في متناوله وبين يديه دليل كونه فنانا، فيحمل قطعته الغنائية التي لا يعلم عنها أي شيء، لا عن كلماتها، ولا عن لحنها، ولا عن المقام الذي عزفت عليه…فيشرع في نسج الأحلام حول الكسب من مضخة يتوهمها اسمها المكتب المغربي لحقوق المؤلفين والحقوق المجاورة، المؤسسة التي ما فتئت تدق ناقوس الخطر بشأن ما يجري من تجاوزات في الميدان الفني الغنائي بأكادير والنواحي.
إن الفنانين مدعوون اليوم قبل الغد لنبذ الفردانية المقيتة، وإن الغيرة على الميدان ومهنييه الحقيقيين أي الفن والفنانين تقتضي وقفة تأمل، وقفة مراجعة للذات والقطاع، فالقطاع يتألم ويصرخ ويلفت أنظار أصحابه إلى الخطورة التي تتهدده وإياهم، إن لم يشمر الجميع عن سواعدهم لتحقيق ما يلي:
1. رص الصفوف ونبذ الخلافات لإحداث أجهزة حقيقية تدود عن الفن والفنان الحقيقيين وتحارب التطفل
2. الوعي بخطورة تبخيس سلعة الفن وجعل كل من هب ودب بإمكانه أن يتلاعب بفن راقي ضحى من أجله الآباء والأجداد، وسهر من أجله كبار الفنانين الليالي، لنجعله سلعة رخيصة بين أيدي المتطفلين
3. الرقي بمستوى الأغنية الأمازيغية كلمات وألحانا وأداء والتفكير في فرض رقابة على سوق الممتلكات الفنية حماية لها من التدني الذي تشهده.
4. التوعية بالرسالة الحقيقية للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة بوصفه مؤسسة ترعى الفنانين وتوزع مستحقاتهم التي تراكمها أعمالهم، وليس مؤسسة ريعية توزع الهبات على كل من هب ودب كما يظن البعض.
5. الصرامة في منح بطائق الفنان وعضوية مختلف المؤسسات والدقة في ذلك حماية لها ممن لا صلة لهم بالميدان.
إن إسهال الأعمال الرديئة الذي تعرفه الساحة الفنية يثير الكثير من التساؤلات حول صحة نضوب العقل الإبداعي والخيال لدى الأقلام والعقول الأمازيغية، أقلام وعقول أنتجت روائع فنية خالدة بلغت العالمية، ليستعيض عنها المتلاعبون والسماسرة بضحالة غير مبررة مقابل حفنات من الدراهم.
✍️ الطيب أمكرود-أكادير