ولا تَزرُ وازرةٌ وِزرَ أُخرى

قال تعالى:”أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ” (42) النجم

الوَزَرُ: المَلْجَأُ، وأَصل الوَزَرِ الجبل المنيع، وكلُّ مَعْقِلٍ وَزَرٌ. وفي التنزيل العزيز: كَلاَّ لا وَزَرَ؛ قال أَبو إِسحق:الوَزَرُ في كلام العرب الجبل الذي يُلْتَجَأُ إِليه، هذا أَصله. وكل ما الْتَجَأْتَ إِليه وتحصنت به، فهو وَزَرٌ. ومعنى الآية لا شيء يعتصم فيه من أَمر الله.

والوِزْرُ: الحِمْلُ الثقيل. والوِزْرُ: الذَّنْبُ لِثِقَلهِ، وجمعهما أَوْزارٌ. وأَوْزارُ الحرب وغيرها: الأَثْقالُ والآلات، واحدها وِزرٌ؛ عن أَبي عبيد، وقيل: لا واحد لها.

وفي التنزيل العزيز: ” ولا تَزِرُ وازرَةٌ وِزْرَ أُخرى” ؛ أَي لا يؤخذ أَحد بذنب غيره ولا تحملُ نفسٌ آثمةٌ وِزْرَ نَفْسٍ أُخرى، ولكن كلٌّ مَجْزِيٌّ بعلمه. والآثام تسمى أَوْزاراً لأَنها أَحمال تُثْقِلُه، واحدها وِزْرٌ، وقال الأَخفش: لا تأْثَمُ آثِمَةٌ بإِثم أُخرى. وفي الحديث: قد وضعت الحرب أَوزارها أَي انقى أَمرها وخفت أَثقالها فلم يبق قتال. ووَزَرَ وَزْراً ووِزْراً وَوِزْرَةً: أَثم؛ عن الزجاج. وَوُزِرَ الرجلُ: رُمِيَ بِوِزْرٍ. وفي الحديث: ارْجِعْنَ مأْزُورات غير مأْجورات.
الليث: رجل مَوْزُورٌ غير مأْجور، وقد وُزِرَ يُوزَرُ، وقد قيل: مأْزور غير مأْجور، لما قابلوا الموزور بالمأْجور قلبوا الواو همزة ليأْتلف اللفظان ويَزْدَوِجا، وقال غيره: كأَن مأْزوراً في الأَصل
مَوْزُورٌ فَبَنَوْه على لفظ مأْجور. واتَّزَرَ الرجلُ: رَكِبَ الوِزْرَ، وهو افْتَعَلَ منه، تقول منه: وَزِرَ يَوْزرُ ووَزَرَ يَزِرُ ووُزِرَ يُوزَرُ، فهو موزورٌ.

والمعنى: أن المكلفين إنما يجازون بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وأنه لا يحمل أحدٌ خطيئةَ أحد ولا جريرتَه، ما لم يكن له يدٌ فيها، وهذا من كمال عدل الله تبارك وتعالى وحكمت
ولعل الحكمة من التعبير عن الإثم بالوزر؛ لأن الوزر هو الحمل ـ وهو ما يحمله المرء على ظهره ـ فعبَّر عن الإثم بالوزر لأنه يُتَخّيَلُ ثقيلاً على نفس المؤمن.

وهذه القاعدة القرآنية تكرر تقريرها في كتاب الله تعالى خمس مرات، وهذا ـ بلا شك ـ له دلالته ومغزاه.

وإن هذا المعنى الذي دلت عليه القاعدة ليس من خصائص هذه الأمة المحمدية، بل هو عام في جميع الشرائع، تأمل قوله تعالى: “أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى . وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى . أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى . أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى . وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى . ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى” النجم 33 – 41

وهذا المعنى الذي قررته القاعدة لا يعارض ما دلّ عليه قوله تعالى: “وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ” العنكبوت 13، وقولُه: “وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ” النحل 25؛لأن هذه النصوص تدلُّ على أن الإنسان يتحمل إثم ما ارتكب من ذنوب، وإثم الذين أضلَّهم بقوله وفعله، كما أن الدعاة إلى الهدى يثيبهم الله على عملهم وعمل من اهتدى بهديهم، واستفاد من علمهم ولهذا لما اجتهد جماعة من صناديد الكفر في إبقاء بعض الناس على ما هم عليه من الكفر، أو حث من كان مؤمناً لينتقل من الإيمان إلى الكفر، أغروهم بخلاف هذه القاعدة تماماً، فقالوا ـ كما حكى الله عنهم :” وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ” العنكبوت 12، 13
وإنك أخي المتوسم إذا تأملت في كلام العلماء في كتب التفسير والحديث والعقائد، والفقه، وغيرها رأيت عجباً من كثرة الاستدلال بهذه القاعدة في مواطن كثيرة.

وإذا أردنا أن نبحث عن أمثلة تطبيقية لهذه القاعدة في كتاب الله، فإن من أشهر الأمثلة وأظهرها تطبيق نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم لها، وذلك أنه حينما احتال على أخذ أخيه بنيامين، بوضع السقاية في رحل أخيه ـ في القصة المعروفة ـ جاء إخوته يقولون: “أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ” يوسف 78
فأجابهم يوسف قائلاً: “مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ” يوسف 79

قارن هذا ـ بارك الله فيك ـ بقول فرعون حينما قال له كَهَنته: إنه سيولد من بني إسرائيل غلامٌ ستكون نهاية ملكك على يده! لقد أصدر مرسومه الظالم الآثم بقتل جميع من يولد من بني إسرائيل ـ وهم آلاف وربما أضعاف ذلك بعشرات ـ من أجل طفلٍ واحد فقط! ولكن الذي كان يقول للناس: أنا ربكم الأعلى لا يستغرب منه هذا الأمر الخُسْر،وفي الواقع ثمة أناس ساروا على هدي يوسف؛،فتراهم لا يؤاخذون إلا من أخطأ أو تسبب في الخطأ، ولا يوسعون دائرة اللوم على من ليس له صلة بالخطأ، بحجة القرابة أو الصداقة أو الزمالة ما لم يتبين خلاف ذلك!
وفي المقابل فمن الناس من يأخذ المحسنين أو الأبرياء بذنب المسيئين.

وإليك هذه الصورة التي قد تكرر كثيراً في واقع بيوتنا ، يعود الرجل من عمله متعباً، فيدخل البيت فيجد ما لا يعجبه من بعض أطفاله: إما من إتلاف تحفة، أو تحطيم زجاجة، أو يرى ما لا يعجبه من قِبَلِ زوجته: كتأخرها في إعداد الطعام، أو زيادة ملوحة أو نقصها، أو غير ذلك من الأمور التي قد تستثير بعض الناس، فإذا افترضنا أن هذه المواقف مما تستثير الغضب، أو أن هناك خطأً يستحق التنبيه، أو التوبيخ، فما ذنب بقية الأولاد الذين لم يشاركوا في كسر تلك التحفة ـ مثلاً ـ؟! وما ذنب الأولاد أن يَصُبَّ عليهم جام غضبه إذا قصرت الزوجة في شيء من أمر الطعام؟! وما ذنب الزوجة ـ مثلاً ـ حينما يكون المخطئ هم الأولاد؟! ومثله يقال في علاقة المعلم والمعلمة مع طلابهم، أو المسؤول في عمله، بحيث لا ينقلوا مشاكلهم إلى أماكن عملهم، فيكون من تحت أيديهم من الطلاب والطالبات أو الموظفين ضحية لمشاكل ليس لهم فيها ناقة ولا جمل.
هنا يستحضر المؤمن أموراً، من أهمها: أن يتذكر هذه القاعدة القرآنية العظيمة: “وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى”. فإن هذا خيرٌ مآلاً وأحسن تأويلاً، وأقرب إلى العدل والقسط الذي قامت عليه السماوات والأرض.

وثمة فهمٌ خاطئ لهذه القاعدة القرآنية، وهو أن بعض الناس يظن أن هذه القاعدة مخالفة لما يراه من العقوبات الإلهية التي تعم مجتمعاً من المجتمعات، أو بلداً من البلاد، حينما تفشو المنكرات والفواحش والمعاصي، وسَبَبُ خطأ هذا الفهم، أن المنكر إذا استعلن به الناس، ولم يوجد من ينكره، فإن هذا ذنب عظيمٌ اشترك فيه كلُّ من كان قادراً على الإنكار ولم ينكر، سواءٌ كان الإنكار باليد أو باللسان أو بالقلب وذلك أضعف الإيمان، ولا عذر لأحد بترك إنكار القلب، فإذا خلا المجتمع من هذه الأصناف الثلاثة ـ عياذاً بالله ـ مع قدرة أهلها عليها استحقوا العقوبة، وإن وجد فيهم بعض الصالحين.

تأمل معي قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العقاب” الأنفال 25يقول العلامة السعدي في تفسير هذه الآية: “واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، بل تصيب فاعل الظلم وغيره،وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره،وتقوى هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن.

ويوضح معنى هذه الآية الكريمة ما رواه الإمام أحمد: بسند حسن ـ كما يقول الحافظ ابن حجرـ من حديث عدي بن عميرة سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: “إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ـ وهم قادرون على أن ينكروه ـ فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة”.

وروى الإمام أحمد: في مسنده بسند جيد عن أبي بكر الصديق أنه خطب فقال: “يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير ما وضعها الله : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَّ إذا اهتديتم” سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه”

وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فقالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: “نعم إذا كثر الخبث”.
اللهم أصلح أحوالنا!

بواسطة
د. خضر موسى محمد حمود - الأردن
المصدر
مقال الرأي يُنشر في الجريدة ويعكس في الأساس رأي الكاتب حول الموضوع الذي كتبه ولا يعبر بالضرورة عن صوت المواطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق