ركائز الإصلاح عند الدكتور محمد داود “2”
توقفنا فى المقال السابق عند موقف سيدنا الحسن البصرى مع الرجل الواعظ ,وسوف نعيد ذكر هذا الموقف مرة ثانية ,لنقف عند فلسفة مفكرنا الإسلامى الإصلاحية ولنرى سويا أهم ركائز الإصلاح عنده والتى نحن فى أمس الحاجة إليها فى عصرنا الحاضر.
“ذات يوم استمع الحسن البصرى رضى الله عنه إلى رجل يعظ الناس, وبعدما انتهى من موعظته وانصرف الناس, أقبل الحسن البصرى إلى الرجل الواعظ, وقال له في السر: أراني لم يرق قلبي, ولم تصل موعظتك إليّ فإما بقلبي شيء أو بقلبك, فانصرف الرجل باكيا”.
وقف إمامنا عند هذا الموقف موقفا عظيما حيث فقه ما فيه من دلالات روحية وخلقية لها أثرها العظيم على الفرد والمجتمع ,فمن أهم هذه الدلالات ضرورة إصلاح أمرا ض القلوب,مشيرا إلى أن مرض القلب أخطر من مرض الجسد وما ذلك إلا لأن القلوب محل نظر الله تعالى,مستدلا على ذلك بقول النبى صلى الله عليه وسلم:”إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”.
وتظهر فلسفته الإصلاحية فى هذا الموقف واضحة وضوح الشمس,حيث ضرب مثالا واقعيا نعيشه,ليقرب الفهم الصحيح ويبسطه للعامة والخاصة ,وهذه سمة الداعية والمفكر المصلح الحصيف الذى يعالج الموقف بموقف اّخر فى سورة مبسطة تأخذنا إلى حلول إصلاحية يسهل تطبيقها فى واقعنا المعاصر.
يقول مجددنا ومصلحنا: إن أحدنا إذا أصابه تعب أو إعياء ,فأحس معه بأعراض أى مرض فى جسمه ,أسرع إلى الطبيب على الفور,حفاظا على صحته ,وهذا أمر طبيعى ,ولكن من غير المعقول أن يرى أحدنا الأعراض الواضحة لمرض القلب من القسوة وعدم الخشية والوجل ولا يهتم.
إذن فهذا الموقف على حد قوله ينبهنا إلى وجوب الإهتمام بصحة القلوب ,أى بأحوال الإيمان فيه.
وكعادة مفكرنا يقف عند كلام الله تعالى متدبرا ما فيه من مؤشرات صحة القلب فيه ,مستدلا بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾( سورة الأنفال:3(
وهذه إشارة تؤكد على أن صلاح القلوب يبدأ أولا بدوام ذكر الله تعالى وليس هذا فحسب بل ودوام النظر فى أمره ونهيه.فحينما ينصلح القلب تنصلح سائر جوارح الإنسان معه ,فالإنسان الساعى على إصلاح قلبه هو دائما بطل قوى شجاع المكسب معه.
من هنا نفهم أن أستاذنا كان حريصا على تقديم العلاج الأفضل من أمراض الشبهات والشهوات التى قد يغرق فيها الإنسان بسبب ضعف إيمانه,بالتلاوة كتاب الله والتدبر والتفهم لمعانية.فالسلامة هنا أيتها النفس فلا تبتعدى عن طريق النور!
قال تعالى:”يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ”) سورة يونس :57) وقال سبحانه: “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ”(سورة الإسراء :82) وقد سمى الله سبحانه وتعالى القراّن الكريم روحا فى قوله تعالى:” وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا”(سورة الشورى 52)
ويطالعنا إمامنا على نوع اّخر من أمراض القلوب موضحا السبب فى تمكن هذا المرض من القلوب ثم يوضح بعد ذلك العلاج الأمثل لهذا المرض ,وهذه سمة طيبة فى منهجه الدعوى حينما يناقش أهم القضايا التى تمس كيان الأمة, ساعيا إلى تقديم العلاج من الهدى الربانى والهدى النبوى الذى فيهما خلاص الأمة من كل فتنة.
يقول أستاذنا: أن الله تعالى وصف فى القراّن الكريم القلوب المريضة بالعمى ,والعمى هنا ليس عمى البصر ولكن عمى القلوب عن إداراك النور والإنتفاع بالهدى,حيث رأى أن حال القلب المريض أخطر من حال العين التى أصابها العمى,مستدلا على ذلك بقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(سورة الحج :46)
وأضح أن السبب فى هذا العمى هو الذنب ,ومعلوم أن أثر الذنوب على القلب خطيرة تجعل قلب العبد مظلما ويظهر ذلك أيضا على وجهه بل وحالته النفسية وما يعقبها من أضرار أخرى بسبب الذنوب ,نسأل الله أن يعفو عنا جميعا ويغفر لنا ما نعلم وما لا نعلم.
مستدلا على ذلك بقول النبى صلى الله عليه وسلم:إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت فى قلبه نكتة سوداء,فإذا هو نزع واستغفر وتاب,صقل قلبه ,وإن عاد زيد فيها ,حتى تعلو قلبه,وهو الران الذى ذكره الله( كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ(سورة المطففين:14)
من هنا نفهم أن الذنوب والمعاصي سبب لهوان العبد على ربه،وليس هذا فحسب بل وسقوطه من عينه، قال الحسن البصري رحمه الله: “هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم”. ومن آثارها أنها تورث الذل والعياذ بالله ,فإذا أراد الإنسان أن يبحث عن العز فالعز كل العز في طاعة الله، وقد كان من دعاء بعض السلف: “اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك”. وقال الحسن البصري رحمه الله فى هذا الشأن أيضا: “إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين؛ فإنَّ ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه”.
والسؤال هنا هل تؤثر المعاصى على المتحدث وتحدث حجابا بينه وبين المتلقى؟هذا ما سنعرفه فى المقال القادم إن شاء الله .