عَبَدَةُ المال
ما ستقرؤوه جزء صغير مقتضب مستوحى من قصة واقعية. لست خبيرة في كتابة السير الذاتية، ولكنني لملمت بعض العبر مما سمعت من ثنايا هذه القصة. كتبت عما جال في خاطري ببعض الحذر وشيء من الأمانة وبإسم مستعار وبكثير من الاعتبار، ودون أي موعظة .لأنني أؤمن أن لِكُلٍّ تجربته-الحلوة والمرة- التي سيعيش أو عاش..كتبت..
كان Mozart مُحبا للمال-وهذا ليس عيبا- كلنا نحب المال يا أصدقاء. لكنّ Mozart..كيف أقولها..كان عديم المبادئ، فاقدا للوازع الأخلاقي. ولولا إيماننا أن الإنسان ليس شرًّا كله لقُلنا أن Mozart، شرٌّ كله. لعلنا لو اتخذناه عينة للدرس، لَلَفَتَتْ انتباهنا عوامل نفسية واجتماعية وعلمية تفسر الحالة التي بلغها. كلها تكتلت على هذا البنية “البشرية”.لتُحَوِّلَهُ إلى مخلوق تعيس، مُتَآكل الروح، مُتَدَاعي القيم والثوابت،و.. مُتَحَيِّل !
لِمَ الاستغراب عزيزي القارئ ؟ ماذا تنتظر من مخلوق عابد للمال؟مبادئه وقناعاته وقيمه وأخلاقه موؤودة، تَآكَلت حتى أصبحت رَمِيما. إذ لم يكن يدَّخر جهدا في الحصول عليه بأي شكل كان،بل إنه اختار الأيسر: الاستغلال وانتهاز الفرص وحياكة الحيل.
الغريب أن Mozartلم يكن في حاجة للحيلة ! كانت له كل الإمكانات التي تُخَوِّلُهُ ليكون صاحب حياة كريمة. فقط لو تحلى بالصبر والأخلاق. فهو رب عمل ناجح وقار وكان طَمُوحا حَالِما وهذا مشروع. لكن طموحه جشِع،سرعان ما انهزم أمامه. طموح جشع لا يعرف التوقف. مسعور هو، كالنيران المشتعلة تلتهم في طريقها الأخضر واليابس. التهمت هذه النيران أحلام الكثير والكثيرات.أحرقت نقاءهم/ن ،لطخت بياض صفحات حياتهم/ن بألوان سواد الظلم ،وأحمر الطمع، وأصفر الخيبة المقيت ،وبنفسج الغدر و..رماد قلة الحيلة.
هكذا هو Mozart كان لِيكون كل شيء عدا أن يكون إنسانا.
بالنظر إلى العامل النفسي والاجتماعي- الذي ذكرناه في طليعة حديثنا، والذي لن نطيل فيه لوعينا بأنه يستحق مساحة علمية واسعة ومستقلة للإدلاء فيه- نعتقد أن Mozart وأمثاله من المستغلين والمتحيلين، كان قد عاش طفولة محرومة ربما،مليئة بالتنمر والعنف. مما أثر على قدرته التواصلية التي كانت مختلة(كان عصبيا وقحا ولئيما في تعاملاته). هذه الاحتياجات المكبوتة التي عاشها بطلنا المتحيل، لم تر النور بأي شكل كان.إلا حين عَزَمَ على الأخذ بثأره من كل شيء وكل شخص. من خلال الاستغلال العاطفي لملء الفراغ وإكمال القصور والفشل الذي يعيشه. والاستغلال المادي من خلال أخذ المال دون وجه حق.
ويا سلام لو حقق هذين النقصين من خلال ضحية واحدة. فتلك ذروة النصر..
Mozart كان ذكيا وكاذبا وحَسَنَ التصرف. ومن حسن حظه أن مكانته المهنية منحته الكثير من الثقة وساعدته على إيهام الكثيرين بأنه صالح. وهذا كاف ليتحيل بشكل مرن وهش لا يلفت الانتباه ولا الشكوك. فيستدرج الضحية(رجلا كان أو إمرأة) ممن يَشْتَمّ- أقول “يشتم” لأنه في الحقيقة كان يملك حاسة شم قوية تفوق كلاب الصيد- منها رَوْحَ الطيبة والسذاجة. ويبدأ بطلنا في نسج حكاياه السحرية بوقائع وظروف منطقية جدا ومحتملة لا تدع مجالا لشك الضحية فيه.وحين يشعر أن نور سحره قد شارف على الانطفاء، يبدأ بتنفيذ المرحلة الموالية.وهي إعادة روْنق الصلة بالضحية وتأجيج دفئها. من خلال التلاعب النفسي: التَّظَلّم:وكأنه عومل بشكل لا يستحقه، وأنه وقع ضحية سوء فهم.وأنه محاط بعديمي الرحمة الذين لا يراعون ظروفه. وهو بذلك يَتَّبِعُ سياسة تهييج مشاعر الضحية فيكسب ثقتها من جديد ويجني مزيدا من الوقت لمتابعة خطته.وينجح الأمر ،إذ أن ذنب الضحية الوحيد أنها إنسان.
لن نتحدث عن مدى الضرر النفسي والمادي للضحية-بعد المرور بتجربة التحيل هذه-لأننا نؤمن أن لها من المسؤولية القدر الكبير. ولأنها تخلت عن عقلها وذكائها وهي في أمس الحاجة إليهما.ولأنها لم تحب نفسها بالشكل الكافي حتى تحميها من الضرر.
أما بالنسبة ل Mozart، بطلنا الطفيلي التعيس الذي يتغذى على جِراح الآخرين.فقد علَّمنا أن التحيل فرصة مجانية تمنحها الضحية-دون وعي منها-ويلتقطها المتحيل محركا بِذَنَبِهِ منتصرا.
ومن خلاله أيضا ندرك أن المال فكرة. مجرد فكرة ينتجها عقل الإنسان لأنه احتاجها حتى يسهل تعامله مع الآخر أفرادا كانوا أو جماعات أو مؤسسات. دون حاجة إلى روابط شخصية بينهم. يعني النقود مجرد وسيلة نحن من خلقها. لنؤسس علاقات مادية،اقتصادية،تجارية بيننا. هذا ما يليق بالإنسان ! خَلْقُ الفكرة وتطويرها وصقلها لتكون لائقة به، بخالقها.
لكن ما حدث كان بشعا جدا، لقد ثار المخلوق على خالقه،كَفَرَ به.وعليه، مارس البشر ما دأبوا عليه منذ الظهورالأول ،منذ آدم والشجرة الممنوعة : العصيان والعبثية وخرق النواميس وهدم الثوابت، والأبشع طمس كل دليل على ذلك.المال الفاسد هو الوجه الآخر لِجُبْنِ الإنسان وضعفه وغرقه في نهر الجريمة العَكِر. فَيُمْعِنُ في استباحة حُرُمَاتِ بني جنسه وإعدام كل فضيلة وبث كل رذيلة،وهدم حُلْم،ونسف أمل،وخنق ثقة،وقتل إرادة.
كيف لبضع مليمات أن تلغي الجوهري فينا، إنسانيتنا ؟ كيف يكون المال هِرَاوَةً يهوي بها البشر على بعضهم فيقْصِم الواحد فيهم ظهر الآخر؟ ليصبح هو السيد بعد أن كانوا أسيادا. بعد أن خلقوه وأَحْسَنوا خَلْقَه.اتخذوه إلاها، عَبَدُوهُ. لقد تَحَكَّمَ المخلوق في خالقه ! لتنقلب الموازين و تُهْتَكَ الثوابت. ويُفْتَتَحُ عهد عبودية جديد،لسيد جديد بشيء من الوضاعة والأنانية والغرور وكثير من اللاإيمان واللامبدأ واللاأخلاق وبجوع شديد..للإنسانية المفقودة.
Mozart الْمُتَحَيِّلُ
انا من المتبعين الاوفياء لمقالاتك واسلوبك الراقي في توصيل الفكرة شكرا لهذا القلم المبدع الذي ياخذنا كل مرة الى عالم وشكرا الى هذه القضايا الدقيقة باسلوب ادبي الذي يستهوينا الى اكمال المقال الى الآخر