الأمن في مواجهة “الإرهاب”.. بأي معنى(؟)

يطرح خطاب التطرف الديني على الساحة العربية خصوصًا، وساحة الواقع الدولي بوجه عام، أهمية، بل ضرورة، وضع مسألة الأمن وإشكالياته، على بساط البحث؛ رغم ذلك، فإن كثيرين ممن تناولوا المسألة الأمنية، دفعوا بالمفهوم “الشُرَطي” كآلية في مواجهة الحركات المتطرفة. وفي نظرنا، فإن هذا المفهوم أحادي الجانب لا يرقى إلى معالجة ظاهرة التطرف و”الإرهاب”، التي هي مجتمعية بالأساس؛ وإن كان يمكن – في أحسن الأحوال – أن يحد منها.

لذلك، فإن ثمة ضرورة لتوسيع مفهوم الأمن، ليشمل ما يمكن تسميته بـ”الأمن المجتمعي”، الذي يتسع ليشمل جوانب متعددة، سياسية واقتصادية وثقافية، واجتماعية أيضًا. إلا أن هذه الضرورة تصطدم، مبدئيًا، بمدى الغموض الذي يحيط بمفهوم الأمن نفسه؛ بسبب دخول المفهوم ضمن قاموس المصطلحات المتداولة على الساحة الإعلامية والسياسية، دونما تحديد واضح.

مفهوم الأمن المجتمعي
من هنا، تأتي هذه “المحاولة” لوضع اليد على التحديد الدقيق لعناصر المفهوم ومحدداته, وبالتالي لمستوياته وأبعاده. ومن ثم، لنا أن نلامس نقاطًا ثلاثة تمثل، في اعتقادنا، أهم المداخل للتعرف على جوهر الأمن كـ”مفهوم مجتمعي”.

من جهة، فإن الأمن ليس مفهومًا مرادفًا للطمأنينة، فالخوف شعور يبعث عليه الخطر، أما الطمأنينة فهي شعور يبعث عليه الأمن. وكون الأمن ليس شعورًا، وإنما “باعث على الشعور”، يعني أنه لا يمكن أن يكون مفهومًا يرتبط بغريزة التكوين (مجرد فعل غريزي)، بل هو مفهوم يرتبط بوعي التكوين؛ وإلا فإنه يصبح مفهومًا ضد التاريخ الإنساني وضد التطور الاجتماعي. ففي مواجهة الفيضانات، كمثال، قد يهرع البعض إلى الهرب، وقد يعمد البعض إلى تشييد السدود، والهرب “غريزة” أمنية، أما تشييد السدود فهو “وعي” أمني.

من جهة أخرى، فإن الأمن ليس هو الإجراءات أو القواعد الحركية، أي: إنه ليس التدابير ذاتها، ولكن حالة أو ظرف عيني أو أثر يتحقق في الواقع بناءً على تلك التدابير. وكون الأمن ليس التدابير، وإنما الأثر المتحقق من مجمل التدابير، يعني أن العلاقة بين الأمن والظروف “المجتمعية” علاقة موضوعية؛ فمن أي ناحية يُنظر إلي الأمن وتدابيره في مواجهة ظرف ما يتضح أن ماهيتها موضوعية بحتة. وهو ما يستوجب اختيار التدابير طبقًا للاحتياجات التي تفرضها وتحددها الظروف الموضوعية، وليس طبقًا لأفكار مجردة أو احتمالات غير واقعية أو الأوهام التي يثيرها الخوف أو الغرور، أو أي تقدير ذاتي.

من جهة أخيرة، فإن الأمن ليس حقيقة مطلقة يمكن أن تتحقق مرة واحدة، أو دفعة واحدة، وإنما مسألة نسبية تتجاوز ـ مجرد ـ الحفاظ على التكوين الاجتماعي، ومن ثم حمايته. وبالتالي، يتجاوز الأمن معنى “القوة” التي تنصرف – بشكل رئيس – إلى المجال العسكري والشُرطي وما يتصل بهما، إلى معنى “القدرة” التي تعبرعن نسيج متشابك تتداخل فيه كل قوى المجتمع، السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، وغيرها.

في سياق الدائرة المعرفية التي تكونها تلك النقاط الثلاث، نستطيع التعبير عن الأمن بأنه: “الأثر المتحقق من مجمل التدابير اللازمة لحماية مجتمع ما ضد الفشل أثناء حركته لتحقيق أهدافه”.

الأمن والتنمية المجتمعية
من هنا، يتبدى بوضوح أن الأمن مفهوم مجتمعي شامل، تدخل في تكوينه اعتبارات متعددة منها الداخلي ومنها الخارجي، إضافة إلى ارتباطه ارتباطًا وثيقًا بقدرات المجتمع، وهو ما يثير قضية التنمية؛ وبحسب تعبير روبرت ماكنمارا فإنه “بدون تنمية – كعملية مجتمعية شاملة – لا يمكن أن يوجد أمن”. وبالتالي، فإن التعبير عن الأمن بهذه الكيفية، يتقدم بنا خطوة على طريق محاولة التحديد الدقيق لجهة عناصر المفهوم ومحدداته، ومستويات العملية الأمنية وأبعادها.

بالنسبة إلى عناصر مفهوم الأمن ومحدداته، فهي تتمثل في عناصر ثلاثة: الوعي (المعرفة الصحيحة)، والمقدرة (امتلاك إرادة التنفيذ وإمكاناته)، والعمل (الفعل، أو تنفيذ التدابير الأمنية في الواقع). وهى عناصر ثلاث متفاعلة ومتكاملة إذا انتقص أي منها لا يتحقق الأمن.

أما عن محددات المفهوم، فتتمثل في محددين اثنين: الأول “ذاتي” ويتعلق، ليس فقط في امتلاك المجتمع القدرات، الكمية والنوعية، التي تمكنه من تحقيق الأمن، بل أيضًا في امتلاك هذا المجتمع المعرفة الصحيحة لكيفية تنمية هذه القدرات لتحقيق أهدافه. والثاني “موضوعي” ويتعلق بالمناخ العام الذي يتواجد فيه المجتمع، وما يتضمنه من عوامل فشل يمكن أن تؤثر- سلبًا – على حركة المجتمع لتحقيق أهدافه، وهي،منطقيًا، عوامل داخلية وخارجية.

وبالنسبة إلى أبعاد العملية الأمنية، فهي تتضمن بعدين أساسيين: أحدهما “المكان” ويتعلق بالموقع الجغرافي للمجتمع والمتطلبات التي تفرضها وضعيته “الجغراستراتيجية”. والثاني “الزمان” ويختص بطبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع، سواء بالنسبة إلى تطوره الاجتماعي أو بالنسبة إلى بقية المجتمعات.

فالتدابير الأمنية اللازمة لحماية مجتمع “الشعب” (من حيث استقراره على الأرض واختصاصه بها)، لابد أن تختلف اختلافًا جوهريًا عن تلك اللازمة لحماية مجتمع القبيلة (الدرجة الأدنى في عملية التطور الاجتماعي، عن الشعب)؛ كما أن التدابير اللازمة لحماية مجتمع ما في القرن الحادي والعشرين، لابد أن تختلف عن تلك التي كانت لازمة لحمايته منذ مائة عام.
أما مستويات الأمن، فمنها المستوى الخاص بالأمن الدفاعي، وهو “تجنب عوامل الفشل” التي يتعرض لها المجتمع أثناء حركة تحقيق أهدافه. ومنها المستوى المتعلق بالأمن الهجومي، وهو “إحباط عوامل الفشل”. والفارق بين المستويين، كما هو واضح، يبدو فارقًا دقيقًا ولكن ذو دلالة. فتجنب عوامل الفشل يختلف عن إحباطها، من حيث إن الأولى “رد فعل سلبي”؛ في حين أن إحباطها فعل إيجابي تخطيطي. وثانيهما، يتعلق بالقدرات الحقيقية للمجتمع ودرجة نموها، وكذا مدى “قوة” عوامل الفشل، ودرجة تأثيرها.

بهذا المعنى، فإن درجة النمو، والتخطيط، هما مفتاحا العملية الأمنية، التي يتمكن بها المجتمع من مواجهة التطرف و”الإرهاب”.

بواسطة
حسين معلوم - مصر
المصدر
مقال الرأي يُنشر في الجريدة ويعكس في الأساس رأي الكاتب حول الموضوع الذي كتبه ولا يعبر بالضرورة عن صوت المواطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق