التونسي بين حرب تفشي الوباء ونقص الغذاء
“لا خير في أمة تأكل من وراء البحار ” أو “من لايملك قوته لا يملك قراره” أو “ويل لأمة تلبس مما لاتنسج، وتأكل مما لاتزرع، وتشرب مما لا تعصر”، مقولات تختلف شكلا و تتفق مضمونا، تترجم بوضوح أهميّة الاتكال على النفس وضرورة تفادِ اللجوء إلى الغير، وتأكد أن خير أمة: أمة عاملة منتجة مستقلة، تعتمد في توفير حاجياتها على نفسها لا على أمم آخرى.
أمّا مايؤرقني صدقا ويحز في نفسي أن وطني الّذي يتباهى بالإستقلال منذ سنة 1956 مازال يجثو تحت وطأة التبعيّة الغذائيّة الّتي لم تبرحه منذ الحقبة الاستعمارية. الأمر الّذي يغذّي داخلنا القلق حول واقع الأمن الغذائي في تونس ويدفعنا للتساؤل: هل سيجوع التونسيون في وطنهم الأخضر؟
لا يمكننا الاجابة عن هذا السؤال دون التطرق لمفهوم الأمن الغذائي:
يُشير مُصطلح الأمن الغذائي إلى توفّر الغذاء للأفراد دون أي نقص، ويعتبر بأنّ الأمن الغذائي قد تحققّ فعلاً عندما يكون الفرد لا يخشى الجوع أو أنه لا يتعرض له، ويستخدم كمعيار لمنع حدوث نقص في الغذاء مستقبلاً أو انقطاعه إثر عدّة عوامل تعتبر خطيرة ومنها الجفاف والحروب، وغيرها من المشاكل التي تقف عائقاً في وجه توفّر الأمن الغذائي. ينشطر الأمن الغذائي إلى مستويين رئيسيّين وهما المطلق والنسبي، فيعرف الأمن الغذائي المطلق بأنه قيام الدولة الواحدة بإنتاج الغذاء داخلها بمستوى يتساوى مع الطلب المحلي ومعدلاته أو قد يفوقها أحياناً، ويمكن اعتباره غالباً بأنّه يحقق مفهوم الاكتفاء الذاتي الكامل، أما الأمن الغذائي النسبي فإنه يُشير إلى مدى قدرة الدولة على إنتاج وإيجاد ما يحتاجه الشعب أو الأفراد من سلع وغذاء بشكل كلي أو جزئي.
تبعا لذلك يعدّ الأمن الغذائي شرطا من شروط السلم الاجتماعي حتى أنّه لايقلُ أهميّة عن الأمن القومي وقد أصبح ضمان الأمن الغذائي أمرا ملحا خاصة مع استمرار أزمة كورونا وقد حذرت منظمة التجارة العالمية من مخاطر أزمة غذائية مرتقبة بسب هذه الجائحة، وهذه الأزمة لم ولن تستثني تونس التي تعاني عجزا صارخا على مستوى أمنها الغذائي حيث تحتل المرتبة 51 عالميا في مؤشرالأمن الغذائي سنة 2018 مع قدرة لاتتجاوز 48% على توفير الغذاء للتونسيّين، وقد عانت تونس طيلة السنوات الماضية نقصا فادحا في العديد من المنتوجات الفلاحية كالألبان والبيض واللحوم والخضروات والغلال، هذا الشحّ في الانتاج يقابله غلاء في الأسعار أثقل كاهل المواطن التونسي وتسبب في انهيار القدرة الشرائية إذ أصبحت بعض المواد العذائية صعبة المنال لعدد من المواطنين فيعج الشارع التونسي بعبارات من قبيل “الزوالي معادش خالط” أو “شوف بعينك مُت بقلبك” عبارات كثيرة تكشف حالة قفة التونسي التي تلتهب بنارالأسعار.
لعل ذلك يعود إلى الفشل الذريع للتجارب الاصلاحية الزراعية المعتمدة في تونس والّتي زجّت بالبلاد في متاهة التبعيّة حتى اليوم. فرغم اكتناز البلاد التونسية بمساحات شاسعة من الأراضي المعطاء الصالحة للزراعة لدرجة توسم فيها بالخضرة (تونس الخضراء)، فإنّها تشكو من تفاقم تبعيتها في مجال الحبوب الّتي تقدربحوالي 60% وهي نسبة تعتبرمرتفعة جدا قياسا مع امكانيات تونس في المجال الفلاحي المهدورة بسب عزوف الفلاحين عن الزراعة تبعا لغلاء تكلفة الانتاج من أسمدة وبذور ومياه ري بالتوازي مع تدني أسعار البيع على غرار ضعف قدرات التخزين وعُسر طرق التوزيع الأمر الّذي جعل تونس في تبعيّة مستمرة للخارج وقد “ورّدت تونس، منذ مطلع 2020 والى غاية اوت 2020، زهاء 2210 الف طن من الحبوب بقيمة 1494،5 مليون دينار اي بزيادة بنسبة 21،21 بالمائة مقارنة بسنة 2019” وفق المرصد الوطني للفلاحة الّذي توقع أن ترتفع واردات البلاد خلال الأشهر القادمة ب 418,520 مليون دينار على أقل تقدير.
على غرار أزمة الحبوب تشكو الاسواق التونسيّة في السنوات الأخيرة من أزمة تطال مادّة الحليب وهي أزمة متجددة في البلاد تعود بالأساس إلى ارتفاع كلفة الانتاج ونقص الارشاد الفلاحي وعدم دعم الدولة للفلاحين بالاضافة الى عدم تأقلم الأبقار المستوردة من الخارج مع مناخ البلاد، هذه الاسباب وغيرها أدّت إلى تضرر منظومة الحليب في تونس منذ سنة 2017. ومن يدفع الثمن دون شك؟ هو المواطن التونسي إمّا عن طريق صعوبة النفاذ للمنتوج الّذي يمثل عنصرأساسي لا غناء عنه في وجبة التونسي وإمّا عن طريق الترفيع في سعرالبيع: فقد تمّ الزيادة في سعربيع لتر الحليب نصف الدسم عند الاستهلاك من 1120 مليم إلى 1250 مليم في موفى أوت 2020 .
ناهيك عن ارتفاع أسعار اللحوم والأسماك في الأسواق التونسيّة الّذي أدّى إلى تذمر المواطن التونسي ويرجع ذلك بالأساس إلى ارتفاع أسعار الدواب وتنامي معضلة التهريب الّتي تهدد الثروة الحيوانية في تونس (تهريب الأغنام والأبقار خاصة).
ختاما، حقيقة أن تونس دولة موردة تضع مستقبل الأمن الغذائي للتونسيّين على المحك، خاصة في ظل تنامي أزمة كورونا وانهيار اقتصاد عديد الدّول فامكانية غلق بعض الدّول لحدودها وايقافها حركة التوريد تستوجب على الدّولة أن تنظر لمسألة الأمن الغذائي نظرة جدّية وحازمة وأن توليها ما تستحق من الاهتمام والدّعم وأن تصرف كل الجهود صوب القطع مع التبعيّة الّتي قد تدمر البلاد والعباد.