لطالما اقترن مفهوم العطاء في أذهاننا بالمرأة حتى أنها شُبِّهت بالأرض التي هي مصدر الحياة والخير والخصب والنماء والعطاء الذي لاينتهي، فالمرأة هي المدرسة الأولى التي تتكون فيها شخصية الإنسان وهي مربية الأجيال ومن رحمها تولد الحياة، فإن كانت أمّا فالجنة تحت أقدامها، وإن كانت زوجة فهي الحب والسكَنُ والعش السعيد، وإن كانت أخت فسند وكتف لايمَلُّ ولايمِل، وإن كانت ابنة فهي المؤنسة الغالية كما في قول نبينا الكريم:”لا تكرهوا البنات فإنّهنّ المؤنسات الغاليات”، فالمرأة إذن لاتقدر بثمن وقد كفل ديننا الحنيف لها مكانة مرموقة واستوصى بها الرسول صلّى الله عليه وسلم خيرا .
فقال:”استوصوا بالنساء خيرا” وفي حسن معملتها قال رسول الله:”خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”.
إنّ قدر المرأة ودورها في الحياة والمجتمع عظيم بقدرعظمتها فهي نصف المجتمع وهي التي تلد وتربي النصف الآخر و”المرأة هي مصدر كل شيء” (سقراط).
والمرأة التونسية اثبات لذلك فقد أضاءت التاريخ، ولم تتوانى عن كتابة أمجاد خالدة في شتى مجالات الحياة منذ القدم على غرار عليسة مؤسسة قرطاج، والكاهنة التي قادة الجيوش لحماية بلادها، وعزيزة عثمانة التي موّلت بناء مستشفى في القرن 17م، وتوحيدة بشيخ أول طبيبة تونسية.
لم يتوقف عطاء المرأة التونسية على ذلك فقط فقد شاركت أيضا في الثورة ووقفت ضد الظلم والقهروالاستبداد وساهمت في اسقاط النظام الديكتاتوري مثلما ساهمت من قبل في طرد المستعمر.
لكن رغم أن المرأة التونسية تعطي الكثير فهي لا تأخذ إلا القليل، ولاتزال تعيش تحت منطق الوصاية ويعتبرها الكثيرون ناقصة عقل مستغلين في ذلك نصوص دينية مغلوطة الفهم كأدلة وبراهين تعيق مسارالمرأة التونسية وتسجن آمالها، كما أننا إلى اليوم نعيش في مجتمع لايؤمن كثيرا بالدور الإنمائي للمرأة، بل يحصرها في الدور الانجابي والتربوي داخل الأسرة التونسية ولا تتخطى صورة المرأة في عقول هؤلاء كونها وعاء جنسي وسبيل للمتعة والتكاثر لاغير متجاهلين بذلك أدوار المرأة المتعاضمة في المجالات العلمية والثقافية والاجتماعية وغيرها…
وضمن ثنائية الأخذ والعطاء هذه، مايضاعف حزني ويجدده أن واقع المرأة في تونس لازال رهين عديد التحديات فاللّتي تُعطِي من وقتها وجهدها وصحتها تُعطَى عنفا، ورغم جهود تونس الحثيثة للقضاء على ظاهرة العنف إلا أن نسق هذه الجرائم مازال في أكثر من اثرها أن دراسة أجرها على أوضاع النساء التونسيات تأكد فقد نشر الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري نتائج ارتفاعفي المتمثل النفسي العنف عديدة منها عأنواضد المرأة وللعنف في الأسرة أو في الفضاء العام.%) تعرضن للعنف 54.5( نصفهنالنظرة الدونية للمرأة كاعتبارها كائن ضعيف عاجزعن حماية نفسه وغير قادر على ادارة أموره وهذه النزعة التسلّطية الذّكورية متمثلة في الضغط والاكراه مثال ذلك اجبار المرأة على زوج لاتريده أو في حرمانها من منصب تستحقه أوفي التمييز في المعاملة في الوظيفة وعدم المساواة في الأجور حيث تشكو المرأة العاملة من انخفاض أجرها مقابل أجرالرجل في القطاع الخاص بحوالي 14% .
علاوة على التّمييز في الانتداب في الوظيفة إذ يستئثرالرجال بنسبة 63% في التشغيل في الوظيفة العمومية في حين لاتتخطى نسبة تشغيل النساء 37% … أضف إلى ذلك العنف اللفظي المتمثل في السب والشتم والتهديد والإهانة أمّا العنف الجسدي فيتمثل في الدفع والضرب والجرح والقتل والاغتصاب وقد بلغت نسبة العنف الجنسي 15.7% .
وكشفت آخر الإحصائيات الصادرة عن وحدة الطب الشرعي التابعة لمستشفى شارل نيكول بالعاصمة تونس عن وقوع مايقارب 800 حالة اغتصاب سنويا في تونس أي بمعدّل 3 حالات اغتصاب يوميا، اضافة إلى تفاقم نسب التحرش التي شارفت 74% حسب مركزالبحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة التابع لوزارة المرأة التونسية، وبشكل عام تضاعفت نسب العنف المسلط على المرأة في الفترة الأخيرة حوالي 7 مرات.
وقد حققت النيابة العمومية في فترة الحجر الصحي في مايقارب 4 آلاف و 263 قضية تتعلق بالعنف ضد المرأة ناهيك عن العنف المسكوت عنه -إن صح التعبير- والّذي يبقى بين الجدران ولايبلغ عنه السلطات وهو العنف الأكثر بشاعة وانتشارا، وأبعد من ذلك أصبح صبر المرأة وسكوتها على العنف مقياسا للحب وسبيلا للهناء وأضحى ذلك ثقافة سائدة في مجتمعنا التونسي وهوما نستشفه في الأمثلة الشعبيّة من قبيل:
“البنت إما راجلها وإما قبرها” (أي مكان البنت إما عند زوجها أوفي القبر) أو “بنت العم اضرب وردّ للتركينة” (بمعنى اضرب زوجتك واحشرها في الزاوية) وذلك تعسف قبيح في حق المرأة الّتي لاخيار لها -حسب هذه الأمثال- إلا أن تكون مطيعة مسلوبة الارادة .
نخلص إلى أنه رغم ثقل مسؤوليات المرأة التونسية داخل المنزل وخارجه إلا أنّ مكاسبها محدودة جدا وضيقة، وعلى عكس ما تعطيه من محبة وتضحية ونضالات فهي تأخذ في مجتمعنا أضعافا من الاهانات والاحتقار والتمييز والقتل والاغتصاب وتحظى بنسب محتشمة من الاحترام والمساواة والعدل والأمن، فعطاؤها العظيم الذي لا حدود له يقابله كما من الجحود والجشع والنكران واللاانصاف، وما نأمله حقا أن يتغير وضع المرأة مستقبلا فهي أهل لذلك.