الغفلة…
قال تعالى:” وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا “” الكهف 28
وقال:” وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ” ابراهيم 42
وقال:” أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ” (109) النحل
وقال:” سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ” الاعراف 146
وقال:” وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ” مريم 39
وقال:” وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” الحشر 19
مَن كان قريبا من ربّه ذاكراً له على الدوام، كانت قدرته دائما مكتملة وحاضرة وجاهزة لا ينسى شيئا ولا يغيب عن باله شيء لأنه في دائرة النور، أمّا البعدعن الله فيدخل صاحبه في دائرة الظلمة فيجعله في دائرة الغفلة.
غَفَلَ عنه يَغْفُلُ غُفولاً وغَفْلةً وأَغْفَلَه عنه غيرُه وأَغْفَلَه: تركَه وسها عنه؛ وأَنشد ابن بري في
الغُفول:
فابك هلاًّ واللَّيالي بِغِرَّةٍ تَدُورُ، وفي الأَيام عنك غُفولُ
وأَغْفَلْتُ الرجل: أَصبْتُه غافلاً. واسْتَغْفَلْته أَي تحيَّنْتُ غَفْلَته. قال الليث: أَغْفَلْت الشيء تركته غَفَلاً وأَنت له ذاكر.
الغفلة سهو يصيب الانسان من قلة اليقظة والتحفظ ،وهي غيبة الشيء عن بال الانسان وعدم تذكّره اياه،والغفلة عن الشيء تعني نسيانه واهماله والاعراض عنه ،وأمّا الغفلة المقصودة فهي الغفلة عن عبادة الله ولقائه سبحانه ،فالغفلة داء وذكر الله هو الدواء.
قال الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز للحسن البصري:” اجمع لي بايجاز بين امري الدنيا والآخرة.فقال:انّما الدنيا حلم،والآخرة يقظة،والموت متوسط ونحن في أضعاث أحلام،مَن حاسب نفسه ربح،ومَن غفل عنها خسر،ومَن نظر في العواقب نجا،ومَن أطاع هواه ضلّ،ومن حلم غنم،ومَن خاف سلم، ومَن اعتبر أبصر ،ومَن أبصر علم،ومَن علم فهم،ومَن فهم عمل ،فاذا زللت فارجع،واذا ندمت فاقلع،واذا جهلت فاسأل ،واذا غضبت فأمسك”.
أين الأتقياء الذين هم في وجل من الله في كل همسة أو لمسة يراعون الحق ويبتعدون من الباطل ؟
صور الغفلة
– الغفلة عن آيات الله تعالى
كثير من الناس غافلون عن آيات الله المنظورة والمتلوّة ،قال تعالى:” فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ” يونس 92
وكثير لا يتفكّر في آيات الله الكونية الدّالة على عظمته وقدرته ووحدانيته وابداعه ،قال تعالى:” وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ” يوسف 105
وكثير لا يُقبل على آيات الكتاب ليتلوه أو يتدبّره
قال تعالى:” وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” لقمان 7
– الغفلة عن عبادة الله سبحانه وتعالى
أن يتيه الإنسان في دروب الحياة الشائكة، ويُسَخرَ كل طاقاته في العمل لهذه الدنيا الفانية، وينسى ما خلق من أجله وهو عبادة ربه سبحانه. لا همّ له إلا أن يستمتع بملذات هذه الدنيا الفانية، ولا هدف له إلا أن يركض وراء شهوات هذه الدنيا الزائلة. غافل عن طاعة ربه، معرض عن عبادة خالقه، مضيع للفرائض، مسرف في المعاصي، مفرّط في القربات، مكثر من السيئات.
وقد توعّد الله تعالى من يستكبر عن عبادته ويفرط في طاعته بأشد الوعيد قال تعالى:” وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ” غافر 60 -الغفلة عن الدار الآخرة
فالغفلة تُنسي العبدَ ربّه وآخِرَته، وتجعله متعلقا بدنياه، مُعرضا عن آخِرَته، لا يتذكر الموت، ولا يستعد ليوم الحشر، تائه غافل، حتى إذا نزل به الموت تمنى العودة، قال تعالى:” حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) المؤمنون
مخاطر الغفلة وأضرارها
الغفلة من أمراض القلوب ذات مخاطر جمّة وعواقب وخيمة ،لذا بعث الله تعالى أنبياءه لينذروا الناس ويحذّروهم من هذا الداء العُضال وما يترتب عليه من سيّء الأعمال ،قال تعالى:” لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ” يس 6
الغفلة طريق هلاك ودمار –
غفلة الانسان عن مصيره تؤدّي الى الظلم والطغيان ،ومآله الى عذاب الله وعقابه كما حصل لفرعون وقومه قال تعالى:” فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ(136) الاعراف
– الغفلة سبب في الحرمان والخسران
؛ فمن استولت الغفلة على قلبه ضل وتاه وضاع وفقد كل خير، فتراه يعيش في الدنيا كما تعيش
الأنعام؛ لا همّ له إلا في طعامه وشرابه وشهوته، وذلك هو الخسران المبين ،قال تعالى:” وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ” الأعراف 179
كما أنّ غفلنهم منعنهم من الانتفاع بجوارحهم التى وهبها الله لهم قال تعالى:” وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ” الأحقاف 26
من استولت الغفلة على قلبه وعقله لا ينتفع بآية، ولا تؤثر فيه موعظة؛ لأنه لم يؤهلْ نفسَه ويُعدّها
للانتفاع بآيات الله، كما قال تعالى:”
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ” الأعراف 146
الغفلة سبب في الحسرة والندامة
سيتجرّع مرارة الحسرة كلّ مَن غفل عن طاعة الله وعبادته وآياته، يوم لا ينفع ندم ولا تغني
حسرة ،حينها يلوم المرء نفسه ويعاتبها على غفلتها وضلالها يوم لا ينفع لوم ولا عتاب،قال تعالى:” وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ” مريم 39
وقال :” وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ” الأنبياء 97
– الغفلة سبب في تسلط الشيطان على الإنسان وإغوائه
– أمر الله تعالى عباده بذكره عند نزعات الشيطان ،قال تعالى:” وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) الأعراف
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: “إذا دخل الرّجل بيته، فذكرَ اللهَ عند دخوله وعند طعامه، قال الشّيطان: لا مَبيتَ لكم ولا عَشاء. وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشّيطان: أدركتم المَبيت. وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيتَ والعَشاء”
سبل الوقاية من داء الغفلة
– ذكرُ الله تعالى؛
فهل يليق بعاقل أن يكون غافلاً عن ذكر خالقه ومولاه؟ يَذكرُ المشاهير من البشر، ولا يذكرُ خالقَ
البشر. وقد حذر الله تعالى من الغفلة عن ذِكره
قال تعالى:” وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ” الأعراف 205
– قراءة القرآن
فبالقرآن تزكو النفوس، وتزول الغفلة والغشاوة عن القلوب، وتكون الذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. فيه هدى ونور، وموعظة وشفاء لما في الصدور
قال تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ” يونس 57
– مجالس العلم والذكر
؛ فبحضور مجالس العلم والذكر تزول الغفلة عن القلوب، أن تجالس من يذكّرك بالله، ويَحُثك على ذِكر الله، ويُسْمِعك كلام الله، ويُحدثك عن رسول الله
مجالسُ العلم التي قال عنها حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: «…وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرَهم الله فيمن عنده». رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
يقول ابن القيّم رحمه الله: إنّ مجالسَ الذّكر مجالسُ الملائكة، ومجالسَ اللّغو والغفلة مجالسُ الشّياطين، فليتخيّر العبد أعجبَهما إليه وأولاهما به، فهو مع أهله في الدّنيا والآخرة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا, قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال حِلَق الذكر”
والله تعالى يقول: “وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ “الزخرف36 , إن مجالس الذكر تؤمن العبد من الحسرة والندامة يوم القيامة بخلاف مجالس اللهو والغفلة فإنه تكون على صاحبها حسرة وندامة
الدعاء والتضرع إلى الله تعالى-
فما أحوجنا إلى أن ندعوَ الله أن يذكّرنا إذا نسينا، وأن ينبهنا إذا غفلنا، وأن يرزقنا قلوبا طاهرة وألسُنا ذاكرة، وقد علمنا حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن ندعو الله بعد كل صلاة فنقول:”اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك” قال تعالى:” وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ” البقرة 186
– المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة
فبالغفلة يكون تركُ الصلاة وتضييعُها، وبالمحافظة على الصلوات تكون البراءة من الغفلة ومن سبيل الغافلين. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من حافظ على هؤلاء الصلوات المكتوبات لم يُكتبْ من الغافلين، ومن قرأ في ليلة مائة آية كتبَ من القانتين”. رواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم واللفظ له وقال: “صحيح على شرط الشيخين”، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة
– الحرص على قيام الليل
“:قال الله تعالى مثنياً على عباده القائمين بالليل
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(66) الفرقان
-الإكثار من ذكر الموت
فكفى بالموت واعظا، وكفى به منبّها ومذكرا.. فكيف لمن يتذكر الموت ويحضر الجنائز ويزور المقابر، أن يكون غافلا عن طاعة ربه وعبادته ولقائه؟
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أكثروا ذكرَ هاذم اللذات”يعني الموت. أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وصححه الألباني في صحيح الجامع. فالموت يهدم اللذات التي هي سبب في الغفلة والإعراض والطغيان
قال تعالى:” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” آل عمران 185
آفة الغفلة
قال تعالى:” وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ” الأعراف 179
وقال:” إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ” يونس 7
الغفلة أشد ما يفسد القلوب، فالقلب الغافل قلب معطل عن وظيفته، معطل عن الالتقاط والتأثر والاستجابة، تمر به دلائل الإيمان والهدى أو يمر بها دون أن يحسها أو يدركها، ومن ثم كان الإنذار هو أليق شيء بالغفلة، وتذكير الغافلين بما ينفعهم ليفعلوه، ونهيهم عما يضرهم ليجتنبوه.
والإنذار قد ينفع ويوقظ الغافلين المستغرقين في الغفلة كما قال سبحانه:” لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(7) يس
والإنذار لا ينفع قلباً غير مهيأ للإيمان، مشدود عنه، محال بينه وبينه بالسدود والأغلال والأغشية، فالإنذار لا يخلق القلوب، إنما يوقظ القلوب الحية المستعدة للتلقيُ ،قال تعالى:” إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ” يس 11
فهذا الصنف من الناس هو الذي يستحق التبشير بعد انتفاعه بالإنذار، فبشره بمغفرة وأجر كريم، المغفرة عما يقع فيه من الخطايا غير مصر، والأجر الكريم على خشية الرحمن بالغيب، واتباعه لما أنزل الرحمن من الذكر، وهما متلازمان في القلب، فما تحل خشية الله في قلب، إلا ويتبعها العمل بما أنزل الله، والاستقامة على النهج الذي أراد.
فعلينا أن نعيش في بيئة الذاكرين لربهم، المستقيمين على منهجه، ونصبر على ذلك؛ لننال الأجر والثواب من الله، ونحذر من أهل الأهواء والغفلة كما قال سبحانه:” وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا” الكهف 28
فهؤلاء إنما يتبعون أهواءهم، ويحكمون بها بين العباد، فهم وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله وتقواه. فلا تطع أيها المسلم من أغفلنا قلبه عن ذكرنا حين أعرض عن ربه ودينه واتجه إلى ذاته، إلى ماله، إلى أبنائه، إلى متاعه، إلى لذائذه وشهواته، فلم يعد قلبه متسعاً للإيمان بالله، وذكر الله، والعمل بطاعة الله
والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله، فيزيده الله غفلة، ويملي له فيما هو فيه، حتى تفلت الأيام من بين يديه، ويلقى ما أعده الله لأمثاله الغافلين، الذين يظلمون أنفسهم وغيرهم.
والإنسان كلما غفل قلبه عن ذكر الله، وجد الشيطان طريقه إليه، فيلزمه ويصبح له قرين سوء يوسوس له ويزين له السوءٌ
ووظيفة قرناء السوء من الشياطين أن يصدوا قرناءهم عن سبيل الله، بينما هؤلاء يحسبون أنهم مهتدون، وهذا أسوأ ما يصنعه قرين السوء بقرينه.قال تعالى:” وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) الزخرف
إن حياة المسلم ثمينة كبيرة؛ لأنها منوطة بوظيفة ضخمة، ذات ارتباط بهذا الوجود، وذات أثر في حياة هذا الوجود الكبير، وهي أعز وأنفس من أن يقضيها في عبث ولهو، وخوض ولعب، في غفلة عن ربه، وعن وظيفته.
وكثير من اهتمامات الناس في هذه الأرض تبدو عبثاً ولهواً ولعباً حين تقاس إلى اهتمامات المسلم الناشئة من تصوره لتلك الوظيفة الضخمة، ومن ثم تبدو اهتمامات الآخرين صغيرة هزيلة
في حس المسلم المشغول بتحقيق وظيفته الكبرى التي كلفه بها من خلقه واستخلفه.
فما أبعد هذه النفوس عن ربها، وهي تعرض عن الدعوة إلى الله في طغيان عات، وفي إعراض نافر، وتنسى أنها من صنع الله، وأنها تعيش على فضله، وأنها لا تملك من أمر وجودها وحياتها ورزقها شيئاً على الإطلاق
وبعد هذه الغفلة والشرود والاستكبار
وإذا استكبر هؤلاء عن الحق، واعتقدوا فوق ذلك أنهم أهدى سبيلاً، وأن ما سواهم ضال، فهي الطامة الكبرى، تلك التي ترى الحق باطلاً، والباطل حقاً، والرشد ضلالاً، والضلال رشداً .
قال تعالى:” أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) المُلك
إن الذي يمشي مكباً على وجهه حاله بائسة تعاني المشقة والعسر والتعثر، ولا تنتهي إلى هدى ولا خير ولا فلاح، إنها حال الشقي المنكود الضال عن طريق الله المحروم من هداه، الذي يصطدم مع المخلوقات؛ لأنه شذ عنها في طاعة الله، فهي مطيعة لربها وهو مخالف لها، يعترضها في سيره، ويتخذ له مساراً غير مسارها.
فهو أبداً في تعثر . وأبداً في عناء. وأبداً في ضلال . فأنى يهتدي؟
وفي المقابل حال السعيد المهتدي إلى الله، المتمتع بهداه، الذي يسير في موكب الإيمان والتوحيد، والحمد والتمجيد، وهو موكب الوجود كله بما فيه من أحياء وأشياء
فالله بلا ريب هو الذي خلق هذا الكون، بل خلق كل شيء، وخلق الإنسان، هذه حقيقة تلح على العقل البشري، وتثبت ذاتها بتوكيد يصعب رده
فالإنسان قد وُجِد، وهو أرفع وأعلم وأقدر ما يعلم من الخلائق، وهو لم يُوجِد نفسه، فلا بدَّ أن يكون هناك ما هو أرفع وأعلم وأقدر منه أوجده
والإنسان إنما يقع في المعاصي بسبب الغفلة عن الله . والغفلة عن أوامره. والغفلة عن عقوبة المعصية في الدنيا والآخرة، وعلاج الغفلة بذكر الله .
وعلى قدر ذكر العبد لربه يكون قربه منه، وخوفه منه، وحياؤه منه، ومحبته له، وأنسه به، وعلى قدر غفلة العبد عن الذكر يكون بعده عن الله ووحشته منه، وبين الغافل وبين الله عزَّ وجلَّ وحشة لا تزول إلا بالذكر.