الإمام الرائد الزكي.. تصوفه سائد نقي

يمثل التصوف جانبًا من جوانب الفكر الإسلامية من ناحية, وبوصفه تحقيقًا للعقيدة الإسلامية الجامعة بين العقل والروح من ناحية أخرى، وإن هدف الإسلام هو أن يكون الإنسان مستقيمًا، وسبيل ذلك هو أن يحيا بدينه ظاهرًا وباطنًا فى إطار ينسجم العقل فيه مع القلب، ويتحد الجسد مع الروح, وليس التصوف إلا سعيًا ليرتقي بالإنسان إلى تهذيب السلوك, وكيفية السمو والارتقاء بالنفس البشرية بالتزكية والتصفية, عن طريق علاج أمراض القلب, وتقويم الجوارح وفق ضوابط الشريعة, والسمو الأخلاقي عن ملذات الدنيا، وشهواتها للفوز برضى الله تعالى, ونيل سعادة الدارين.

يعد القرن العشرين من القرون التي شهدت زخمًا فى مجال الطرق الصوفية؛ نظرًا لظروف المجتمع السياسية والاجتماعية حيث كان الاستعمار البريطاني جاثمًا على صدر الأمة, مما أدى إلى ظهور تكاتف شعبي من أجل مقاومة المحتل, ظهر فى المقاومة الشعبية، وكذلك الجهاد الفكري الذي تزعمته ثلة من خيرة شباب مصر ذوي الهمم العالية, ومن هؤلاء رجال الأزهر الشريف، والفكر، والتصوف, ويعد الإمام الرائد العارف بالله الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم من رجال الفكر الإسلامي الذين كان لهم دور في جميع جوانب الحياة العلمية والعملية, وهو من أقطاب التصوف الإسلامي الخالص، وأصحاب طريقة تجديدية, حيث جمع الرائد-رضوان الله عليه- في تصوفه علمي الشريعة، والحقيقة، مؤكدًا أنهما لا ينفصمان عن بعضهما, فالشريعة بغير حقيقة عاطلة, والحقيقة بغير شريعة باطلة, مما جعله مأمونًا على العقيدة والشريعة؛ لانتظامه في سلك المتصوفة المعتدل, دون جنوح إلى الزندقة, أو مناداة بنظريات وحدة الوجود بالمفهوم الفلسفي.

ويعتبر الإمام الرائد – وبحق- رجلًا ربط فكره الصوفي بفكرة الإصلاح من القمة, فقد وجه إرشاده إلى الصفوة كما يوجهه إلى العلماء والعامة.

لقد كان الشيخ -رضوان الله عليه- جادًا في تحصيل العلم منذ نعومة أظافره، فذاع صيته عالمًا, فقصده العلماء لينهلوا من علمه الغزير, وثقافته الواسعة, وقصده تلاميذه ومريدوه بالاسترشاد, وكان متصفًا بحصافة عقله، وصفاء ذهنه, وقدرته على التحصيل، والمقارنة، والاستنباط، والترجيح، والنقد الموضوعي المتزن.

فكان الشيخ يكافح كل المنكرات، والبدع بمختلف الطرق, داعيًا إلى الإصلاح والصلاح, والإعتصام وعدم الفرقة والحب والسلام, والعلم، وتوثيق الصلة بالله تعالى, وعمل أيضًا على مكافحة الجمود، والتخلف، والتعصب، والتطرف، والتخريف,ومؤلفاته خير دليل على ذلك لمن أراد أن يرجع ويستنير بهديها.

وأذكر لك أمثلة على سبيل المثال لا الحصر من تصوفه النقي ,نحن في أمس الحاجة إلى التحقق بها وتطبيقها في جميع نواحي حياتنا . يقول رضوان الله عليه: التصوف هو إعادة بناء الإنسان وربطه بمولاه في كل فكر وقول وعمل ونية وفي كل موقع من مواقع الإنسانية في الحياة العامة”.

وينصح العباد إلى العمل والتوكل على الله لأن اليأس يقطع بصاحبه ويجعله في سجن الذل,فيقول: الكسل واليأس من مفاتيح الذل والضياع ,عليك العمل وعلى الله النتيجة”.

وانظر إلى روعة بيانه في نصحه لمريده خاصة وللأمة جميعاً,إذ يقول:يـا ولـدي..إنَّ التَّصَوُّفَ خدمةٌ تتَكيَّفُ بحاجة كُل( عصرٍ.. وكلِّ إنسانٍ.. وكل وطنٍ) فهي تجسيدٌ شاملٌ لعمليةِ الاستخلافِ على الأرض, ثم إنَّ الهداية أيضًا : (جهدٌ.. ومعاناةٌ) والشيخ (دليل فقط).. فمن لم يسْعَ لمْ يصل ومن لم يلتمس المعالي ( لا يتسامىٰ ولا يرتقي) ومن لم يتحرك لم ينتقل،ومن اعتمد على ما عنده وحده..( اغْتَرَّ.. فتاهَ.. وضلَّ )

ومن جميل أدبه الذى أساسه الأخلاق المحمدية , أنه غرس في أتباعه الحب والأدب واحترام جميع الأنبياء والرسل الأولياء والدعاة

إذن يعد الإمام الرائد الزكي من رواد حركة الإصلاح في عصره رغم أنه صاحب طريقة ,إلا أنه أراد أن ينقى التصوف من البدع التي لحقت به وخاصة أن هناك كثير من الطرق التي انتشرت في عصره.فقاد حركة إصلاحية كان أساسها الاقتداء بفعل النبى , والاقتداء بمواقف الصحابة الكرام رضوان الله عليهم, اعتمادًا على مواقفهم النبيلة من الزهد والورع والعطاء … إلخ، فقدم هذه النماذج بصورة معاصرة من أجل الاقتداء بها.

ومن جهوده الإصلاحية وضع ضوابط للطريق الصوفي وأبرز مدى حاجتنا إلى الآداب الروحية في كل زمان ومكان، وقد وضع الإمام الرائد منهجًا لطريقته في خدمة الأفراد بصلاح أحوالهم وخدمة المجتمع برقيه.فالتصوف وجدان وقيم ومعارف وحقائق أراد منها إمامنا أن يتحول المجتمع من مرحلة الشقاء والمعاناة إلى مرحلة العطاء.

ولست أدل على ذلك من قوله رضوان الله عليه:”الفقير منا فى ذمة الغني.الجاهل منا فى ذمة العالم.الناجي منا يأخذ بيد أخيه”.

إذن فلا خلاصة للإنسانية إلا في تعليم روحى سليم يجدد الآمال ويثبت الإيمان ويحى النفوس ويوحى بوجود التآخى والصدق والعدل بين أفراد المجتمع .هذا على حد قول شيخنا أبو الفيض المنوفي رضوان الله عليه.

وإنني أؤكد على أن الجانب الروحي يكسب الإنسان توازنه الروحي عن طريق الروحانية الحقيقية التي يوفرها التصوف باعتباره مقام الإحسان إلى كل مريديه واتباعه سيما الشباب الذين يحملون في داخلهم منعطف دينى ، هذا المنحى يمكن توجيه إلى الروحية الحقة.

من أجل ذلك دعا الإمام الرائد وغيره من سادتنا الصوفية وخاصة فى عصره-العارف بالله الشيخ أبو الفيض المنوفي- إلى شدة الحرص على التمسك بالقيم الروحية والمثل الإنسانية ؛ لأنهما أمران ثابتان بثبات الأزل والأبـد بل ومهما أجهد الانسان نفسه في تناسيها أو إنكارها ينقلب لو تنبه فيراها حقائق مكتوبة بأحرف من نور أو نار ” تبعــًا لمسالكه ” في طوايا شعوره وفي مستقر وجدانه .

وبما أن التصوف يحقق الصالح المفيد من التمدين الصحيح ، فإن الأمة بحاجة إلى السعى لتحقيق هذا الصلاح.

ومن جميل عناية الله تعالي بدعوة إمامنا الرائد الزكي أن الله قيض لها رجالاً فى الداخل والخارج يحملون هم الدعوة والإصلاح امتداداً لهذه الدعوة المحمدية النورانية ,وانظر إلى فضيلة الدكتور العارف بالله الشيخ محمد مهنا الذي حمل على عاتقه تراث شيخه- الرائد الزكي فراح يدعو الناس إليه آناء الليل وأطراف النهار, وليس هذا فحسب بل أنشأ البيت المحمدي الذى هو منارة العلم والمعرفة والذي يضم فى داخله -أكاديمية أهل الصفة لدراسة التصوف وعلوم التراث – والتي هي مدرسة علمية عملية إصلاحية عظيمة متخصصة فى العلوم الشرعية والحقيقية بل وتصل الأصول والفقه بالطريقة مع كشف الأبعاد الغيبية والوقوف على النواميس الكونية للعلوم كافة طبيعية كانت أم إنسانية.فرسالتها- ياسادة- النهوض بالدعوى الروحية الصوفية كأساس لإصلاح الفرد والأسرة والمجتمع والأمة.

ونجح مولانا العارف بالله الدكتور محمد مهنا فى نشر أفكارها الصوفية الصالحة الصحيحة ، بين طلاب جامعة الأزهر خاصة وباقي الجامعات عامة فى الداخل والخارج.‏

وأذكر لك من أهداف أكاديمية أهل الصفة للدراسات الصوفية وعلوم التراث التي أنشأها شيخنا الدكتور محمد مهنا ,أنها تعمل علي:

1.كشف أسرار العلوم الدينية والدنيوية ، والنفوذ إلى حقائقها بما يسمح بإدراك العلاقة بين الدين والدنيا، والعقل والنقل ، والغيب والشهادة.

2.تخريج طائفة من العلماء القادرين على ترجمة هذه المفاهيم إلى واقع الناس.
3.إحياء التراث الصوفي في علوم الدين والدنيا معًا.
4.ترسيخ الجانب العلمي لدى قطاعات عريضة من المجتمعات الصوفية.

5.ترشيد التصوف ورد الممارسات الصوفية إلى صحيح الكتاب والسنة.
6.تمكين التصوف كمنهج رباني متأصل في الأمة من استعادة منظومة القيم الخلقية والروحية إلى الشارع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي باعتباره منهجاً معبراً عن روح الوسطية.

7.إيقاظ وإنقاذ الحضارة الإسلامية من مستنقع المادة التي طغت قوانينها بحكم الزمان على كل مناحي الحياة.
8.ضبط وإعادة التوازن بين مجال القيم الروحية ومجال القبم المادية ومن ثم إيجاد الشروط الضرورية لتحقيق تعاون جاد بين المشرق والمغرب بإعتبار أن الروح بطبيعتها وحدة وانسجام بقدر ما المادة بطبيعتها تفرق وانقسام.

9.توجيه الطاقات الإيمانية لدى جماهير الأمة إلى البناء والإصلاح على المنهج الرباني الروحي الأصيل بدلاً من الهدم والتفريق والتكفير الذي تنتهجه بعض الجماعات المتطرفة.

والله أعلم,كما أسأله أن يرزقنا الإخلاص فى كل كلمة كتبت هدفها الإصلاح والصلاح,ورضي الله عن إمامنا الرائد الزكي وكذا شيخنا المجدد العارف بالله الدكتور محمد مهنا.

بواسطة
محمد حسن معاذ القاضي - مصر
المصدر
مقال الرأي يُنشر في الجريدة ويعكس في الأساس رأي الكاتب حول الموضوع الذي كتبه ولا يعبر بالضرورة عن صوت المواطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق