المناضل عبد العزيز جاويش .. ووسام الشعب (2-3)

وهو العاشق لوطنه .. المناضل الجسور ضد الاستعمار :
الذى ترك المنصب الحكومى المرموق بوزارة المعارف المصرية وذلك للعمل كرئيس تحرير لجريدة ” اللواء ” ليسد الفراغ الذى تركه موت الزعيم الوطنى الكبير مصطفى كامل ؛ ملبيا نداء الزعيم محمد فريد ونداء الوطن .

وكان يقول دائما :
” آلينا على أنفسنا أن نخدم هذه الأمة خدمة صادقة , غير منتظرين من ورائها جزاءا , إننى لست نادما على ترك الحكومة وليست وظائف الحكومة عندى إلا فضالة زاد نبذتها وصبابة ماء عففت عنها وعفتها ”
والوطنية عند عبد العزيز جاويش رحمه الله ليست كلمات وخطب ولكنها :

” هي تلك الروح العالية التى تدفع صاحبها إلى اقتحام المهالك , والجود بالنفس والنفيس فى سبيل الحرية والاستقلال وإحياء مجموع الأمة ولو بتجرع كؤوس الفناء ” 1)

ويحدد دوره قائلا : ” إننى الجندى الذى يفنى ليبقى وطنه , والذى يذوب ليجتمع وطنه , ويصير ترابا وينام فى الأخاديد ولا يعرف لنفسه شيئا , يشقى لتسعد بلاده ويموت ليحيا وطنه ويحترق لتنبعث تلك النار المقدسة وتقوى نار الوطنيين , وما مثلنا إلا كمثل الشمع يحترق ويذوب ليشيع ضوءه ” 2)

وفى مقاله الأول كرئيس تحرير لجريدة اللواء دشن نفسه كزعيم وطنى يعرف دوره والتبعات الملقاه على عاتقه فى المرحلة القادمة قائلا :
” باسمك اللهم قد استدبرت حياة زادها الجبن وخور العزيمة ومطيتها الدهان والتلبيس وفى أسواقها النافقة تشترى نفسيات النفوس بزيوف الفلوس وتباع الذمم والسرائر بالابتسام وهز الروؤس .
وبيمنك اللهم استقبل فاتحة الحياة الجديدة , حياة الصراحة فى القول حياة الجهر بالرأى , حياة الإرشاد العام , حياة الاستماتة فى سبيل الدفاع عن البلاد العزيزة .

بعد أن قضيت فى سابقتها ثمانى حجج , بلغت بها ذلك المنصب الذى كنت فيه ما بين محسود عليه ومرجو فيه , استقبل هذه الحياة المحفوفة بالمخاطر منبريا فى ميدانها , فأما إلى الصدر وإما إلى القبر , موقنا بما أعده الله لعباده العاملين المخلصين من الظفر والفتح المبين عارفا أن الحى لا يموت إلا مرة , والموت أحلى من حياة مرة , وكيف لا نقدم أنفسنا قرابين بين أيدى أهرام هذا القطر ونيله , أم كيف لا نصرف كل مرتخص وغال فى سبيل تحريره وقطع اليد الغاصبة له جزاء بما كسبت , فلنتمسك بهذا المبدأ الشريف ما حيينا , ولنعتصم به ما بقينا , سيسير اللواء على ما كان عليه خادما للأمة المصرية , مدافعا عن الأريكة الخديوية ما حرصت على مصالح رعاياها , مجاهدا الانجليز ما بقوا فى بلادنا , حاثا على الفضيلة والأخلاق الكريمة , داعيا إلى توحيد عناصر الأمة على اختلاف مللها ونحلها وتباين مشاربها ولهجاتها , فاللهم اسألك لسانا ناطقا بالصواب ” 3)

وبسبب مواقفه الوطنية المناهضة للاستعمار والاستبداد سجن أكثر من مرة :
1-حوكم فى يوليو 1908م بسبب مقاله ” دنشواى أخرى فى السودان ” هاجم فيه الإنجليز لقيامهم بشنق 70 سودانيا وسجن 13 فى ” الكاملين ” بالسودان مثلما فعلوا فى دنشواى بمصر
ونشر المقال بجريدة اللواء فى 28-5-1908م وبناء عليه تم اتهامه بتكدير السلم العام والحكم عليه بالغرامة فى الابتدائى ثم استأنف الحكم وحصل على البراءة .

2-حوكم فى يونيه 1909م بسبب مقال ” ذكرى دنشواى ” وحكم عليه بالحبس 3 شهور .
وجاء في مقاله : ” سلام على أولئك الذين كانوا فى ديارهم آمنين مطمئنين , فنزل بهم جيش الشؤم والعدوان فأزعج نفوسهم وأحرق حصادهم , فلما هموا بصيانة أرزاقهم التى عملوا فى سبيلها بأجسامهم .. قيل أنهم مجرمون فسيقوا فى السلاسل والأغلال ثم صلبوا على مرأى ومسمع من زوجاتهم وبناتهم وعيالهم وأصدقائهم وجيرانهم ” 4)

3- حوكم فى يونيه 1910م بسبب تقديمه وتقريظه لديوان الشعر ” وطنيتى ” لعلى الغاياتى وحكم عليه بالحبس 3 شهور .
4- فى 1917م تم ترحيله مقبوضا عليه لمصر من تركيا بعد اتهامه فى قضية منشورات ضد الخديوى بتلفيق من عملاء الاحتلال حينذاك ووضع فى سجن الحضرة لما يقرب من شهرين ثم برئ وعاد لتركيا .

وفى 1910م هاجم مشروع مد امتياز قناة السويس 40 عاما جديدة من 1968م حتى 2008م مقابل مبلغ 4 ملايين جنيها وقاد حملة صحفية ضد المشروع بدأها بمقال نارى
بعنوان ” لا كرامة لمأجور .. فلتخرس المقطم ” جاء به :
” ظهر مشروع قناة السويس فتلقفته الصحافة الوطنية بالتسوئة والتخطئة .. ولم تأل جهدا فى بيان ما استتر فى ثنايا هذا الموضوع , ولكن ” المقطم ” الذى هو انجليزى أكثر من الانجليز قام نذيرا للأمة بالويل والثبور يهددها إن رفضت المشروع , فإنها تخسر خسارا ما منه عوض , قام بتصيد المزور المختلق من الأقوال يريد بها أن يلبس الأمر على الأمة .
ألا فليخرس المقطم فإنه أحقر عند الأمة من أن تلقى له بالا أو تقيم لحماقته وتضليله وزنا ” 5)

وفى 1911م قاد حملة صفحية لدعم المقاومة الليبية ضد الاحتلال الإيطالى بالمؤن والسلاح
وعندما نفى إجباريا إلى تركيا بعد التضييق عليه بكل السبل بواسطة قوى الاحتلال وأعوانه ,
واصل كفاحه بضراوة ضد المستعمر الإنجليزى داعيا لاستقلال مصر وذلك عبر الصحف التى أنشأها فى تركيا مثل ” الهلال العثمانى ” و ” الحق يعلو ” وغيرهما .
حتى أن سفير انجلترا كان كلما ظهر عدد من ” الهلال العثماني ” أرسل مستشاره إلى الباب العالى بتركيا وإلى دار المحافظة مرغيا مزبدا 6)

وعندما سافر إلى ألمانيا وسويسرا وفرنسا وغيرها ما فتئ يفضح المستعمر الإنجليزى كاشفا جرائمه ضد الإنسانية وحقوق الإنسان , مطالبا باستقلال مصر والدول العربية .
وعندما عاد لمصر فى 1923م كتب مقال ” تجديد العهد ” نشرته معظم الصحف حينذاك
جاء به : ” إننى ذلك الجندى الى تحيا بلاده بموته ويسعدها بشقائه ويديمها بفنائه , إننى لا أنفك قائما على العهد الذى قطعته على نفسى أمام الله وأمام وطنى : أن أجاهد فى سبيل بلادى إلى آخر الأنفاس ولا أطيع فى سلامتها والدفاع عن كامل حقوقها سوى حبها الذى ملأ قلبى ” 7)

حتى أن جريدة الإجيبشيان جازيت تصفه بأنه ” شديد العداوة والكراهية للإنجليز ومن ألد خصومهم ” 8)
فرد قائلا : ” نحن نقول للجازيت إنها أخطأت فيما قالته , فإن سفر المصريين إلى بلاد الإنجليز لا يجعلهم أعداء للإنجليز ولكن للاحتلال والمحتلين .. وقد كان على الإنجليز أن يفخروا على العالم بأن من ذهب إلى بلادهم من المصريين , لا يعودون إلا بعد أن تشرب قلوبهم حب العدل والانصاف وحب الحرية والاستقلال وحب العلم وفضائله .

ولكن أنى للاحتلال أن يرحب بتلك الفضائل فى بلاد لا يريد منها إلا أن تكون أمة مطواعا لأمره , صابرة على نوائبه يقول لها فتسمع ويأمرها بما يشاء فتصدع ” 9)
وهو المدافع عن الحرية والدستور والحكم النيابى :
فالدارس لمقالات وخطب وكتابات المناضل عبد العزيز جاويش رحمه الله يجده داعيا للحرية والحكم النيابى وللدستور معارضا للاستبداد وحكم الفرد .
فيقول : ” يستحيل عمليا أن يستقيم شأن ” الحكومات الفردية ” أو تطول أعمارها , أو يهدأ بال الأمم التى تخضع لحكمها .. ومن مضارها أن رعايا هذه الحكومات التى فى قبضة الأفراد إنما مثلها مثل قطعان الأغنام والسوائم فى البيداء , ليس لها أن تفكر أو تدبر .

إن الأمة أحوج ما تكون إلى الحكم النيابى .. فإنه هو الذى ينهض بها ويرفع من شأنها وهو الذى يقود النفوس على الإقدام والجرأة , ويطهر القلوب من أدران الأمراض النفسية ” 10)
و” لا منقذ سوى أن يرفع الاحتلال يده الثقيلة المفسدة عن البلاد المصرية , وأن يتولى أفراد الأمة نفسها إصلاح ما أفسدته 27 سنة رزئت فيها مصر بالاستبداد المطلق والاحتلال ” 11)
ويهاجم بعض علماء الدين فى إيران لرفضهم ” الدستور ” متهما إياهم بأنهم : ” لا يفهمون الإسلام وأن الدستور ضرورة لا بد منها وأنه لا يعارض الدين ” 12)

وهاجم قانون المطبوعات الصادر فى 26-11-1881م والتى أعادت الحكومة العمل به ثانية فى مارس 1909م والذى يعطى الحق لوزير الداخلية فى غلق أى جريدة بدون محاكمة بعد إنذارين .
فكتب مقاله الجرئ ” أيها القلم ” قائلا :

” أيها القلم :
لو كنت سيفا لأغمدتك فى صدور من يحاربونك أو سهما لأنفذتك إلى أعماق قلوبهم
ولو كنت جوادا لوجدت لك ميادين النزال محلا للكر والفر, ولكنك ذلك العدو الذى أيسر ما ينال منه عدوه أن يعالجه بالمبراة فيشققه أو الأصابع فيكسره أو يحطمه .
وأنت يا رب القلم : اصبر على ما سينزل به وأنت رابط الجأش قوى الفؤاد ثابت العزم ؛ فكم ابتلى قبلك المصلحون وكم أعنت فى سبيل بلادك العاملون , لا يصرفك عن تأييد مبادئك والدفاع عن عزيز وطنك ما يرجف به المرجفون , فيد الله فوق أيديهم والله لا يهدى كيد الخائنين ” 13)

وهو المصلح الاجتماعى الخبير بأمراض الأمة وعلاجها :
ففى كتابه ” آثار الخمر” الصادر فى 1923م
تناول الآثار الاقتصادية لتناول الخمر والمسكرات وكذلك تأثيرها على الحياة الجنسية وعلى الأجنة وعلى سائقى المركبات وعمال المصانع .
ثم تحدث على آثار تناول وإدمان الخمر على الحياة الزوجية : ” كدارة العيش المنزلى وفقدان الزوجين للمودة والرحمة والسلام والأسباب المفضية لا محالة إلى تعس الأولاد وشقائهم ونكد عيش الأمة التى تبتلى بهم .. وكيف أنها تصيب الأولاد بأقسى الأمراض والعلل البدنية والنفسية . 14)

ثم يقول : ” يتضح جليا مبلغ خطر الأشربة الكحولية وأنه لم ينج من آثارها الضارة وأذاها البالغ شعبة من شعب الحياة ” 15)
وفضح المحتل الإنجليزي وكيف أنه يقوم بجلب الحشيش فى صناديق في مراكبه الحربية باسم جناب قاضى القنصلية 16)
وكانت نظرته للإصلاح شاملة حيث يقول : ” وسائل الاستقلال هى إصلاح التعليم وإقامة المصارف المالية وتأسيس الشركات الاقتصادية وطلب الدستور” 17)
وأنشأ جمعية المواساة الإسلامية ونقابة المستخدمين الخارجيين عن هيئة العمال وشارك في إنشاء جمعية الشبان المسلمين وعمل وكيلا لها .

يقول : ” فى 1908م أسست أول جمعية فى القطر المصرى للعمال أنا والمرحوم إسماعيل شيمى المحامى ” .
ودعا لإنشاء بنك وطنى بروؤس أموال مصرية , والعناية بالمسجونين ؛ منتقدا حشر المساجين الجنائيين مع السياسيين قائلا : ” إن اختلاط الأفراد الفاسدين مفسد للأخلاق الطاهرين ولا سيما الأحداث البسطاء الأغرار ” 18)

وهو الصحفى الكبير:
الذى عمل رئيسا لتحرير جريدة ” اللواء” المعارضة للاحتلال والاستبداد .. وكان يكتب المقال الافتتاحى بها ثم عمل بجريدة العلم ثم أسس مجلة ” الهداية ” لتكون منبرا إصلاحيا .
وعندما ذهب لتركيا أنشأ مجلة ” الهلال العثمانى ” و” الحق يعلو ” و” العالم الإسلامى ”
وفى ألمانيا أصدر صحيفة ” العالم الإسلامى ” بالألمانية , وصحيفة ” مصر ” فى سويسرا .
وهو رائد من رواد الترجمة :
حيث قام بتأليف كتاب ” مرشد المترجم ” لخريجى مدرسة المعلمين , وله حادثة شهيرة مضحكة حول هذا الكتاب :
حيث دخل أحد الفصول بمدرسة ” أسوان الأميرية ” للتفتيش وكان يرتدى الجنة والقفطان كعادته حيث لم يبدل زيه حتى فى أوروبا ؛ فاعتقد مدرس الترجمة أنه مفتش لغة عربية ضل طريقه إلى هذه الحصة فاطمأن على جهل الشيخ بالإنجليزية ؛ ومضى فى درسه بغير اكتراث , ففوجئ باعتراض من الشيخ المعمم , فقال المدرس بغير تردد ” إن هذه القطعة منقولة من كتاب مقرر ” , فسأله المفتش : ما هو ؟
فقال : كتاب مرشد المترجم
وطلب منه المفتش أن يريه القطعة فى الكتاب , فقلب الصفحات كأنما يبحث عن واحدة معينة منها , ثم أشار إلى جملة فى الصفحة وقال للمفتش بكل ثقة واطمئنان : هى هذه القطعة !

وهنا كانت المفاجأة .. حيث أخذ الشيخ المعمم يقرأ القطعة الإنجليزية ويسأله عن العلاقة بينها وبين العبارة العربية .
وبعد ذلك أظهر شخصيته للمدرس وأنه مؤلف كتاب ” مرشد المترجم ” .. وضجت مدينة أسوان ليلتها من الضحك ” 19)
وكان رحمه الله يتقن الإنجليزية كتابة وخطابة وكذا التركية والألمانية .

الهوامش :
1- جريدة العلم ٦-١٢-١٩١٠م
2- من خطبة ألقاها بالإسكندرية خلال ترشحه فى الانتخابات البرلمانية فى يناير 1924م
3- جريدة اللواء 3-5-1908م
4- جريدة اللواء 28-6-1909م
5- جريدة العلم بتاريخ 19-2-1910م
6- الأهرام 28-12-1923م
7- نشر فى الصحف المصرية بتاريخ 9-12-1923م
8- جريدة الإجيبشيان جازيت عدد فى 6-12-1908م
9- أنظر ” عبدالعزيز جاويش من رواد التربية والصحافة والاجتماع ” أنور الجندى ص52 , 53
10- جريدة العلم 9-3-1910م

11- جريدة العلم 5-6-1910م
12- اللواء ٢٤-١١-١٩٠٨م
13- جريدة اللواء 26-3-1909م
14- انظر كتابه ” آثار الخمر” ص 27
15- المرجع السابق ص 45
16- العلم ٥-٦-١٩١٠م
17- العلم ٢٣-٤-١٩١١م
18- اللواء 30-11-1909م
19- انظر كتاب ” رجال عرفتهم ” عباس محمود العقاد ص 126

بواسطة
محمد حسينى الحلفاوى - مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق