المناضل عبد العزيز جاويش .. ووسام الشعب ( 3-3)
وهو الفقيه المجدد والمفكر المستنير:
ولا غرابة فى ذلك فهو ابن الأزهر ودار العلوم وتتلمذ مباشرة على يد الأستاذ الإمام محمد عبده مفتى الديار المصرية , حيث اتصل به وحضر مجالسه العلمية فى عين شمس وتأثر بمنهجه الإصلاحى فى فهم الإسلام , وكان يجله ويستشهد بآرائه وكان يطلق عليه فى كتاباته :
” حكيم الإسلام وإمام هذا العصر ” .
ففى كتابه الإسلام دين الفطرة والذى كتبه أثناء تواجده فى أكسفورد 1905م:
نجد الفقيه المجدد فى فهم وعرض الإسلام للعالم مؤكدا أنه دين الفطرة السليمة .
وكان دافعه لكتابته هو الدفاع عن الدين الإسلامى ضد تخرصات أهل الجمود ومتعصبى المستشرقين .
وهذه بعض الأفكار الهامة الواردة بالكتاب :
قام بنقد لاذع لما ورد ببعض كتب التفسير من خرافات فى شرح أرم ذات العماد , وثمود الذين جابوا الصخر بالواد , وفرعون ذى الأوتاد , وإلى ما قالوه فى أمر الزلازل والثور الحامل للأرض , ووصف يأجوج ومأجوج وما سيقيمون من الحرب العوان حينما يرمون السماء بالنبال لمحاربة الحق تعالى فيأمر اللله السماء أن تمطر عليهم دما إلى آخر ما قالوا , وما قالوه من تعليل ما يشعر به الإنسان من سخونية مياه الآبار فى الشتاء وبرودتها فى الصيف ؛ إذ عللوا ذلك بأن ليالى الشتاء طويلة , ولما كانت الشمس تغرب فتدخل فى جوف الأرض كان تأثيرها فى المياه التى فى جوف الأرض أثناء الشتاء أكبر من تأثيرها فى أثناء الصيف ” .
ثم يعلن حزنه الشديد لأن هذه الخرافات حملت غير المسلمين على الاستهزاء بالدين والسخرية بالقرآن الحكيم , وكيف أنه رأى للقرآن الكريم ترجمة بالإنجليزية يأتى واضعها بما سطر أولئك الجهلة المتعالمون ؛ ثم يعقب المترجم بما شاء من الانتقاد والتشهير بدين ذلك الكتاب وأولئك أئمته , فيا الله من الصديق الجاهل 1)
موضحا أصول الإسلام وهى : ” الدعوة للاجتهاد , يسر لا عسر , لا ضرر ولا ضرار , إعطاء الوسائل أحكام المقاصد والغايات , إعطاء الظن الغالب حكم اليقين المجزوم به , تقديم العقل على ظاهر النقل عند التعارض , أنتم أعلم بشئون دنياكم , المساواة بين الناس , لا تزر وازرة وزر أخرى , الأخذ بالعرف ” .
ثم رد على فرية أن الإسلام انتشر بحد السيف قائلا : ” إنهم لو قرأوا القرآن وشيئا من التاريخ وسيرة النبى صلى الله عليه وسلم وعرفوا شيئا من أخلاق العرب وعاداتهم فى ذلك الوقت , لما تطرق ذلك الخطأ إلى عقولهم , ولا استحوذت عليهم وساوس صدورهم ” .
معترفا أن وجد من أمراء الإسلام من شوهوا وجه الإسلام ودنسوه بما جنت أيديهم عليه , ولكن هؤلاء شئ والإسلام شئ آخر .
واستعرض أسباب الحروب التى خاضها النبى صلى الله عليه وسلم مؤكدا أنه صلى الله عليه وسلم ما بدأ أحدا بعدوان فى جميع ما أقامه من الحروب 2)
ثم يقول : ” وخلاصة القول أن البصير بالتاريخ , يشهد معنا أن المصطفى عليه الصلاة والسلام لم يسل فى حياته سيفا لإرغام أحد من الناس على الدخول فى دينه .. ما كان للنبى والمؤمنين أن يدعوا إلى الله ودينه , سالكين طرق العسف والإرهاب ؛ وهذا كتاب الله يأمرهم بالحسنى فى الدعوة ” 3)
وبخصوص موقف الإسلام من الرق يقول : ” إن أسرى الحروب التى أقامها كثير من أمراء المسلمين وخلفائهم , لا لغرض سوى النهب والسلب والبطش مع العدوان على الغير, لا يجوز استرقاقهم بحال سواء أكانوا مسلمين أم غيرهم كتابيين أو وثنيين أو مجوسا .
أما استرقاق غير المحاربين ممن لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب , كعبدة الأوثان فقال مالك والشافعى وأحمد فى إحدى روايتيه أن ذلك لا يجوز مطلقا .
فماذا ترى فيمن يذهبون إلى الصحارى ويختطفون من وصلت إليه أيديهم .. ثم يجلبونهم كما يجلبون المتاع , فيعرضونهم فى الأسواق عرض الحيوانات العجم وكثير منهم مسلمون ؟
وماذا ترى فى كثير من الأمراء وشيوخ المسلمين , يجيئون إليهم ويسومونهم كما يسوم المتاع , ثم يسوقونهم إلى بيوتهم إما للخدمة وإما للافتراش ؟
وماذا ترى فى الذرية التى ينتجها افتراش بنى على هذا الاسترقاق الفاسد ؟
إن الدين لبرئ مما جنى عليه أولئك الطغاة الجهلة , وطاهر مما ألصقوه به من ذلك الدنس والرجس , قد سولت لهم نفوسهم الخبيثة ما شاءت أن تسول , فافتاتوا على الله ونسبوا إليه ما نسبوا , متقولين عليه , وهذا قرآنه الكريم قائم ناطق بتكذيبهم وتأنيبهم 4)
ودافع عن حقوق المرأة فى تعلم العلم موضحا أن الشرع جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة – داعيا لدخول المرأة الأزهر الشريف – وأن للمرأة أن تتزوج بنفسها وأن توكل غيرها فى زواجها … وجعل الشارع للمراة أن تشترط فى صلب عقدها أن يكون أمرها بيدها تطلق نفسها من الرجل متى شاءت ” 5)
ويقول فى موضع آخر : ” المرأة لم تخلق لتكون متاعا فى يد الرجل يتناوله متى أراد وينبذه كيفما شاء ” 6)
وعن تعدد الزوجات أوضح أن : ” اعتبار كون تعدد الزوجات مصدرا لكثير من المفاسد , إنما هو أمر أضافى , ولا يمكن اتخاذه حكما عاما , فإن ذلك يختلف باختلاف الأمم والأزمنة والأمكنة والأحوال ” 7)
وفى 1905م شارك فى مؤتمر المستشرقين بالجزائر , ورد على المستشرق الألمانى فولرس الذى قدم بحثا يدعى أن القرآن الكريم ليس فصيحا وأنه أول كتاب كتب باللغة العامية .
فطلب الرد فى جلسة 22-4-1905م مؤكدا فصاحة القرآن الكريم باعتراف العرب ” الذين اعترفوا بعجزهم عن أن يأتوا بسورة من مثله مع أنهم كانوا أعلم بلغتهم من المسيو فولرس ؛ ولو رأوا فيه شيئا مخالفا لقواعد لغتهم لما تأخروا عن إظهاره حتى لا يؤمن به أحد” 8)
ونال استحسان جميع الحضور وعلى رأسهم الزعيم الوطنى محمد فريد .
مما جعل فولرس يطلب رسميا سحب بحثه بشرط أن لا تنشر كلمة الشيخ عبد العزيز جاويش
ورد على المستشرق الشهير مرجيلوث عندما نشر كتابه “محمد وظهور الإسلام ” مفندا ما جاء به من أخطاء علمية وذلك أثناء إقامته فى أكسفورد .
ورغم اعترافه بدور المستشرقين فى خدمة اللغة العربية ولكنه كان يحذر أن مجموعة منهم
للأسف ” أصبحوا دعاة للاستعمار ” .
ولقد قام رحمه الله فى 1910م بـتأسيس مجلة ” الهداية ” من أجل إبراز جوهر الإسلام وأسرار القرآن الكريم والرد على أهل الجمود وغلاة المستشرقين والدعوة لتجديد فهم الإسلام وتطهيره مما علق به عبر التاريخ من إضافات تعارض روح الإسلام .
وفى ذلك يقول : ” إن من الواجب تطهير الشرع من بعض الأحكام الاستناطية التى قررها نفر من أهل العلم دون رعاية للمصلحة العامة التى هى أصل من أصول الشارع الشريف .
فقد سنت لنا شريعتنا أن نأخذ بالأصلح الملائم للأزمنة والأمكنة ؛ حتى لا يكون على الناس حرج ولا ضرار , بل رخصت أن يعدل عن النص إذا ثبت ثبوتا قاطعا أن الضرورة توجب العدول إلى ما هو أصلح وأعود على الأمة بالخير متى تحقق ذلك تحققا كافيا ” 9)
وله حوار هام مع الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك جاء فيه :
” ليس فى دين الإسلام فوق الشرائع والأحكام أمير ولا خليفة ولا سلطان , ولكن تركيا التى قلدت أوروبا اقتبست من القوانين الرومانية قاعدة أن الخلفاء فوق القانون والشرائع ؛ فأصبح الخلفاء بهذا خلفاء رومانيين لا خلفاء إسلاميين , ولو عقل رجال النهضة الدستورية لأدركوا ذلك الفرق بيننا وبين شرائع قامت فى أقوام كانت تعبد الملوك والأباطرة وتعدهم مصدر الاشتراع والحكم ” 10)
وفى كتابه الهام ” أثر القرآن فى تحرير الفكر البشرى ” وهو فى الأصل أربع محاضرات ألقيت بدار العلوم 1928م :
بدأ باستعراض تاريخى يوضح ما كان عليه العقل البشرى فى الغرب من الأزمات وكيف احتمل ما لا يوصف من آلام وشرور دهورا طويلة فى سبيل حريته واستقلاله الآن .
وبعد ذلك يوضح موقف القرآن الكريم من حرية الفكر قائلا :
” جاء القرآن لتحرير العقول البشرية من رق التقليد , وإخراج الوجدان الإنسانى من نطاق الحجر الذى ضربه حوله رجال الدين , جاء لإنهاض العقل الآدمى واستحثاثه فى سبيل التفكير والنظر , جاء يخفر النفس البشرية ويسوقها لتقرأ صحف الطبيعة وتتدبر آيات صنعتها البديعة ” 11)
مؤكدا أن القرآن الكريم يخاطب العقل .. غير متنكر لما فطرت عليه طبيعته ولا متجاهل مبلغ سلطانه وآثاره فى الحياة الاجتماعية بجميع شعبها .. وما أنفك يقرع الجامدين على المنقولات , المحصورين فى مضايق التقليد , فلا يكاد يخلو له مقام من دعوة إلى تدبر وتفكير , ولا تنفرد له مجادلة عن حجة يقيمها على الخصم أو برهان يحاكمه به إليه .. ولم يذر وسيلة إلى إنعاش العقل وتحرير الفكر إلا تذرع بها , فهو إذا تحاكم فإلى العقل , وإذا حاج فبحكم العقل , وإذا سخط فعلى معطلى العقل وإذا رضى فعن أولى العقل ” 12)
وعن موقف القرآن من النظريات العلمية الحديثة أكد أنه ” ليست مهمة القرآن كسائر الكتب السماوية البحث فى الشئون الكونية والمسائل العلمية والفنية على النحو المألوف فى الكتب الخاصة الموضوعة فيها ” 13)
ودافع عن حرية العقيدة مؤكدا : ” أن آيات القرآن الكريم جميعها ناطقة صراحة بأنه لا إكراه فى الدين , وأن الرسول غير مكلف بشئ سوى التبليغ المبين والتذكير بآيات الذكر الحكيم ” فذكر إنما أن مذكر , لست عليهم بمسيطر .. فالإسلام الذى هو دين الفطرة , ومجموع الكمالات القدسية والآداب الإلهية , ليس بذلك الذى يتذرع إليه بالقسوة والغلظة , ويروج فى العالم بالسيوف والنيران ومن الأوليات المسلمة أن العقائد لا تتكون فى نفوس العقلاء بالقوة والقهر ” 14)
وبخصوص مسألة الردة عن الإسلام فقد أوضح الآتى :
أولا : أن القرآن ليس فيه نص قاطع على أن المرتد عن دين الإسلام إلى دين آخر يقتل
ثانيا : أن لبدء ظهور الإسلام من الأحكام ما ليس لغيره ؛ ذلك أن المرتدين عن الإسلام فى بداية الدعوة كانوا يلحقون بأقوامهم ويحاربون المسلمين ، فارتداد من كانوا يرتدون إذ ذاك عن الإسلام لم يكن مجرد الخروج من الإسلام ولكن كان دائما مشفوعا بمظاهرة من يلحقون بهم من أقوامهم ومحاربة المسلمين … إننا لنرى اليوم أن الفار من الحرب أو الملتحق بجيوش العدو المحارب لحكومته يعتبر خائنا ويقتل من فوره ولو لم يرتد عن دينه , فلماذا نستغرب قتل المرتد المحارب إذن ؟!
ثالثا : أن الردة التى جاءت فى آيات البقرة وغيرها كانت ارتداد عن نصرة المسلمين والاشتراك معهم فى محاربة العدو .
رابعا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا كيف نتصرف فى الحوادث ونقف عند حدود مقتضيات الأحوال .. ولكننا ابتلينا بالجمود وضعفنا عن إدراك أسرار سيرته ودينه الفطرى ووقفنا عند حدود الألفاظ وأخذنا نتقيد ببعض الروايات .
مؤكدا أن جميع ما ورد من الأحاديث فى قتل الرسول لبعض النساء المرتدات أسانيدها ضعيفة بل قال ابن الطلاع فى الأحكام أنه لم ينقل عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قتل مرتدة .
وبين اختلاف القائلين بقتل المرتد فى أمر الاستتابة قبل القتل .. ثم قال إن الإمام إبراهيم النخعى يرى أن المرتد يستتاب أبدا ” أى لا يقتل ” 15)
ثم يقول : ” لو كان حديث ” من بدل دينه فاقتلوه ” على نصه غير مختص بزمان ولا معقود بمقتضيات غير مطردة , ما وسع النخعى ولا غيره مخالفته .
موضحا أن المرتد الذى ينضم لمعسكر المحاربين بالسلاح محاربا المسلمين بالسلاح فهذا لا جرم يقتل 16)
وكذلك تفعل الممالك جميعها فى الوقت الحاضر مع أمثال هؤلاء من أفراد شعوبهم ورعاياهم 17)
وتقديرا من الشعب المصرى العريق للمناضل الكبير عبد العزيز جاويش رحمه الله
وفى لحظة تاريخية نادرة تبرز معدن هذا الشعب ومعرفته الحقيقية بالرجال الذين يضحون من أجله ؛ تم تكريمه ” شعبيا ” من كل طوائف الشعب وطلابه فى حفل تاريخى .
وتم تقليده ” وسام الشعب ” المؤلف من قطعة حرير ثمين مزينة ب 3 قطع من الذهب مرصعة بالأحجار الكريمة صنعه محمد على الجواهرجى بالصاغة وعلقه على صدره أحمد لطفى وكيل الحزب الوطنى فى بفندق ” شبرد ” بحضور طوائف الشعب فى مساء 22-2-1908م .
كما أهدى إليه طبق من فضة عليه محابر من خالص اللجين ومعها أدواتها وقد احتشدت الجماهير من جميع طوائف الشعب فى الطرقات المتصلة بالفندق مزدحمة بعشرات الألوف من المتحمسين 18)
وفى كلمته أمام ممثلى الشعب المصرى قال :
” إن خدمة الوطن فريضة ولا جزاء على الفريضة … إن الدنيا بمالها وجمالها وكبريائها ووزائها , لا تعدل عندى كونى معافى فى وطنيتى معافى فى إخلاصى لأمتى وخدمتى لدولتى ”
وتقديرا لوسام الشعب رفض طوال حياته أى وسام آخر قائلا :
” إن الصدر الذى يتجمل بوسام الشعب ليس فيه متسع لأوسمة أخرى ” 19)
الهوامش :
1- انظر كتابه ” الإسلام دين الفطرة ” طبعة دار الهلال بمصر 1952م العدد 18 ص 31 , 32
2- المرجع السابق ص 33 , 34
3- المرجع السابق ص 44
4- المرجع السابق ص 73 , 74
5- المرجع السابق ص 81
6- مجلة الهداية 1911م
7- انظر كتابه ” الإسلام دين الفطرة ” طبعة دار الهلال بمصر 1952م العدد 18 ص 85
8- انظر ” عبدالعزيز جاويش من رواد التربية والصحافة والاجتماع ” أنور الجندى ص 56
9- مجلة الهداية مايو 1911م
10- حوار بتاريخ 17-12-1922م بدار المجلس الوطني بأنقرة المرجع السابق ص 141
11- انظر كتابه ” أثر القرآن فى تحرير الفكر البشرى ” مطبعة النهضة بشارع عبد العزيز بمصر ص 51
12- المرجع السابق ص 21
13- المرجع السابق ص 58
14- المرجع السابق ص 30
15- المرجع السابق ص 37 , 38
16- المرجع السابق ص 38 , 42
17- المرجع السابق ص 42
18- المرجع السابق ص 97
19- الأخبار 23-12-1923م