الزهراوان البقرة وآل عمران

سُميت ‏السورة ‏الكريمة ‏‏” ‏سورة ‏البقرة ‏‏” ‏إحياءً ‏لذكرى ‏تلك ‏المعجزة ‏الباهرة ‏التي ‏ظهرت ‏في ‏زمن ‏موسى ‏الكليم ‏حيث قُتِلَ ‏شخص ‏من ‏بني ‏إسرائيل ‏ولم ‏يعرفوا ‏قاتله ‏فعرضوا ‏الأمر ‏على ‏موسى ‏لعله ‏يعرف ‏القاتل ‏فأوحى ‏الله ‏إليه ‏أن ‏يأمرهم ‏بذبح ‏بقرة ‏وأن ‏يضربوا ‏الميت ‏بجزء ‏منها ‏فيحيا ‏بإذن ‏الله ‏ويخبرهم ‏عن ‏القاتل ‏وتكون ‏برهانا ‏على طلاقة ‏قدرة ‏الله ‏جل ‏وعلا ‏في ‏إحياء ‏الخلق ‏بعد ‏الموت.
‎‏ سميت سورة البقرة بعدة أسماء، منها: السنام، والذروة، والزهراء، البكر والعوان، وفسطاط القرآن
وسبب تسميتها بالاسمين الأولين؛ فلقوله- صلى الله عليه وسلم- :”البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً
وأما تسميتها الزهراء؛ فلقوله -صلى الله عليه وسلم- :”اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران”.
وأما سبب تسميتها بفسطاط القرآن، فلأنّها تحتوي على ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر
والبكر والعوان؛ لأنهما صفتان من صفات البقرة التي أمر الله بني اسرائيل أن يذبحوها .قال تعالى:” قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ “(68)
التعريف بالسورة
سورة مدنية ،من السور الطوال، عدد آياتها 286،السورة الثانية من حيث تريب المصحف،أول سورة نزلت في المدينة، تبدأ بحروف مقطعة ” الم ” ، ذكر فيها لفظ الجلالة أكثر من 100 مرة ، بها أطول آية في القرآن وهي آية الدَّْين رقم 282
الجزء ” 1،2،3″ الحزب ” 1،2،3،4،5″ . الربع ” 1 : 19 ” .
محور مواضيع السورة
سورة البقرة من أطول سورة القرآن على الإطلاق وهي من السور المدنية التي تعني بجانب التشريع شأنها كشأن سائر السور المدنية التي تعالج النظم والقوانين التشريعية التي يحتاج إليها المسلمون في حياتهم الاجتماعية .
سبب نزول السورة
1) ” الم ذلك الكتاب ” . عن مجاهد قال : أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين .
2) ” إن الذين كفروا ” قال الضحاك :نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته وقال الكلبي: يعني اليهود .
3) “وإذا لقوا الذين آمنوا ” قال الكلبي :عن أبي صالح عن ابن عباس نزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبيّ وأصحابه وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله فقال :عبد الله بن أُبي فقال : مرحبا بالصدّيق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله ثم أخذ بيد عمر فقال :مرحبا بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله ثم أخذ بيد على فقال :مرحبا بابن عم رسول الله وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله ثم افترقوا فقال عبد الله :لأصحابه كيف رأيتموني فعلت فاذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت فأثنوا عليه خيرا فرجع المسلمون إلى رسول الله بذلك فأنزل الله هذه الآية .
تحفَل سورة البقرة بمضامين متعددة يتمحور معظمها حول مسألة الاستخلاف في الأرض وأهمية التمسك بمنهج الله لتحقيق الغايات السامية لهذا الإستخلاف. وفي السورة حديث عن أصناف الناس من متقين وكافرين ومنافقين، وإشارات متعددة لتجاربهم في الحياة. وفي هذا الصدد تتضمن السورة عرضا للأخطاء المتكررة لبني إسرائيل وتعدادا مستفيضا لنعم الله عليهم. وفي السورة دعوات متكررة للإنفاق في سبيل الله وحملة شديدة على المتعاملين بالربا. كما تتضمن السورة قصصا متنوعة حافلة بالدروس والعبر كقصة البشرية من خلال آدم وحواء، وقصة إحياء
الموتى من خلال ابراهيم عليه السلام مع الطير، إضافة إلى قصة البقرة، وقصة تحويل القبلة وغيرها.
مميزاتها
من خصائص سورة البقرة أنها أطول سورة في القرآن، وهي السورة التي تشتمل على ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر. ومن مميزاتها أن فيها أعظم آية في القرآن وهي آية الكرسي، وفيها أطول آية في القرآن وهي الآية 282 التي تسمى آية الدين. ومن عجائبها أن الآية التي في وسطها هي الآية 143 التي يقول فيها تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ “. وقد قيل إن الآية 281 التي يقول فيها تعالى: “واتقو يوما ترجعون فيه الى الله ثم توَفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون”هي آخر آية نزلت من القرآن الكريم.
فضلها
إنَّ قراءة سورة البقرة تطردُ الشّياطين؛ فالشّياطين تنفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله عليه الصّلاة والسّلام قال: (لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِى تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ).
إنَّ في قراءة سورة البقرة حفظٌ من الشّرور ووقايةٌ من السَّحرة وسحرهم كما أنّ في قراءتها بركةٌ تعمُّ من قرأها، ومِصداق ذلك ما رُوي في صحيح مسلم عن أبي أُمامة الباهليّ -رضي الله عنه-، أنَّ رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- قال: (اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْراوَيْنِ البَقَرَةَ، وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُما تَأْتِيانِ يَومَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ كَأنَّهُما غَيايَتانِ، أوْ كَأنَّهُما فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صَوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصْحابِهِما، اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ)، والمقصود بالغيايتين غيمتان تظلَّان قارئ البقرة، كناية عن حفظه وحمايته، وفرقان أي جماعتان، والبطلة هم السَّحرة.
إنَّ لحافظ القرآن بوجهٍ عامٍّ ولحافظ البقرة بوجهٍ خاصٍّ أفضليَّةً وميزةً عن غيره، وممَّا يدلِّل على ذلك ما حدث زمن رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- فقد رُوي أبو هريرة -رضي الله عنه- أنَّه قال: (بعث رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بعثًا، وهم ذو عَددٍ، فاستقرأهم، فاستقرأ كلُّ رجلٍ منهم ما معه من القرآنِ، فأتى على رجلٍ منهم – من أَحدثِهم سِنًّا – فقال: ما معك يا فلانُ؟! قال: معي كذا وكذا، وسورةُ البقرةِ، قال: أمعك سورةَ البقرةِ؟!، فقال: نعم، قال: فاذهبْ، فأنت أميرُهم، فقال رجلٌ من أشرافهم: واللهِ يا رسولَ اللهِ! ما منعني أن أتعلَّمَ سورةَ البقرةِ، إلا خشيةَ ألا أقومَ بها؟ فقال رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: تعلَّموا القرآنَ، واقرءُوه، فإنَّ مثلَ القرآنِ لمن تعلَّمه، فقرأه وقام به، كمثلِ جرابٍ مَحشُوٍّ مسكًا، يفوحُ ريحُه في كلِّ مكانٍ، ومثلُ من تعلَّمَه، فيرقدُ، وهو في جوفِه، كمثلِ جرابٍ وُكِئَ على مِسكٍ).
فقد اختار النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- من يحفظ سورة البقرة أميراً على الجماعة من الصّحابة الذين بعثهم رغم أنَّه أصغرهم سنَّاً، لكنَّه أفضلهم بحفظه لسورة البقرة.
فضل آياتٍ مخصوصةٍ من سورة البقرة
خُصَّت آيات محدَّدةٌ من سورة البقرة بالفضل عن غيرها من آيات، وقد ورد في شأن فضلها أحاديث، ومن ذلك: فضل آية الكرسي إنَّ لآية الكرسي فضلاً عظيماً بيَّنته بعض الأحاديث الشَّريفة، وهي الآية مئتان وخمسٌ وخمسون من سورة البقرة، في قول الله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)
وممَّا ورد في فضلها ما يأتي: إنَّها أعظم آيةٍ في كتاب الله تعالى، فقد أورد مسلم في صحيحه ما رواه أُبيّ بن كعب -رضي الله عنه- عن النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- أنَّه قال: (يَا أَبَا ال ْمُنْذِرِ أَتَدْرِى أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ).
إنَّ في قراءة آية الكرسي قبل النَّوم حفظٌ وعصمةٌ من الشّيطان، كما جاء في صحيح البخاريّ: (إذا أَوَيتَ إلى فراشِك، فاقرأ آيةَ الكرسيِّ: (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) حتى تختم الآيةَ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظٌ، ولا يقربُك شيطانٌ حتى تصبحَ )
فمن قرأ آية الكرسي قبل النَّوم كان في حفظ الله تعالى من الشّيطان حتى يستيقظ. إنَّ المداومة على قراءة آية الكرسي عَقِبَ كلِّ صلاة مفروضةٍ سببٌ في دخول الجنة، كما روى أبو أُمامة الباهليّ -رضي الله عنه- عن النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- أنَّه قال: (مَن قرَأ آيةَ الكُرسيِّ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ لَمْ يمنَعْه مِن دخولِ الجنَّةِ إلَّا أنْ يموتَ).
فضل آخر آيتين من سورة البقرة ثبت فضل الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة عن النّبي -عليه الصّلاة والسّلام-؛ فأورد البخاريّ في صحيحه ما رواه أبو مسعود -رضي الله عنه-، أنَّ رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- قال: (مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ)
والمقصود بأنَّ قراءة الآيتان تكفيان من يقرأهما؛ أي تكفياه من كلِّ سوء، وقيل تكفياه من شرّ الشّيطان، وقيل تكفياه من قيام اللّيل فكأنَّه قامه.
مقاصد سورة البقرة.
للسورة مقاصد الإسلام الرئيسة، وتتألف سورة البقرة من مقدمة وأربعة مقاصد وخاتمة وهي كما يأتي:
المقدمة: تضمنت التعريف بشأن القراَن الكريم، وبيان أن الهداية الموجودة فيه قد بلغت حدًا من الوضوح، لا يتردد فيه إنسان يمتلك قلب سليم، والمعرض عنه لا قلب له أو في قلبه مرض. المقصد الأول: يتجه القراَن الكريم إلى دعوة الناس كافة دون استثناء إلى اعتناق الإسلام ونبذ ما سِواه من الأديان المختلفة.
المقصد الثاني: تتضمن الحديث إلى أهل الكتاب ودعوتهم إلى الدخول في الإسلام وترك ما هم فيه من الباطل.
المقصد الثالث: تتضمن سورة البقرة عرض شرائع الدين بشكل مفصل.
المقصد الرابع: تتضمن سورة البقرة وازع ديني يبعث على ملازمة الشرائع الإسلامية ويعظم مخالفتها.
الخاتمة: اشتملت الخاتمة على التعريف للذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لهذه المقاصد، وبيان ما رجى لهم في اَجلهم وعاجلهم، بالإضافة إلى بيان تقرير أصول العلم، كما وضحت قواعد الدين العملية والنظرية، وعن أهمية سورة البقرة، حيث ذُكر أن الصحابي عبدالله بن عمر -رضي الله عنه- مكث ما يقارب ثماني سنوات يتعلم فرائض وأحكام السورة وهذا دليل قاطع على أهمية ومكانة سورة البقرة التي تحتوي على العديد من أحكام العقيدة والعبادات.

سورة آل عمران

سُميت ‏السورة ‏بـ ‏‏” ‏آل ‏عمران ‏‏” ‏لورود ‏ذكر ‏قصة ‏تلك ‏الأسرة ‏الفاضلة ‏‏” ‏آل ‏عمران ‏‏” ‏والد ‏مريم ‏آم ‏عيسى ‏وما ‏تجلى ‏فيها ‏من ‏مظاهر ‏القدرة ‏الإلهية ‏بولادة ‏مريم ‏البتول ‏وابنها ‏عيسى ‏عليهما ‏السلام ‏‏.
سورة مدنية من السور الطول آياتها 200 آية السورة الثالثة من حيث الترتيب في المصحف
نزلت بعد سورة ” الأنفال” تبدأ السورة بحروف مقطعة ” الم “، جزء ” 4″ الحزب “6،7،8 ” ، الربع ” 1،2،3،4،5،6
محور مواضيع السورة
سورة آل عمران من السور المدنية الطويلة وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على ركنين هامين من أركان الدين هما:
الأول : ركن العقيدة وإقامة الأدلة والبراهين على وحدانية الله جل وعلا.
الثاني : التشريع وبخاصة فيما يتعلق بالمغازي والجهاد في سبيل الله .
سبب نزول السورة
قال المفسرون : قَدِمَ وفد نجران وكانوا ستين راكبا على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم فالعاقب امير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد إمامهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم . وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم وكانت ملوك الروم قد شرفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده فقدموا على رسول الله ودخلوا مسجده حين العصر عليهم ثياب الحبرات جبابا وأردية في جمال رجال الحارث بن كعب فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله : دعوهم فصلوا إلى المشرق فكلم السيد والعاقب رسول الله :أسلما فقالا : قد أسلمنا قبلك قال : كذبتما منعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير قالا : إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه في عيسى فقال لهما النبي : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه قالوا : بلى قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شئ يحفظه ويرزقه قالوا : بلى قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا قالوا : لا قال : فإن ربنا صَوَّرَ عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث قالوا : بلى قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما
تضع المرأة ولدها ثم غذى كما يغذى الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث قالوا : بلى قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم فسكتوا فأنزل الله عز وجل فيهم سورة ال عمران إلى بضعة وثمانين آية منها .

ونَزَّل الله القرآن منجما مناسباً للأحداث، ليثبِّت فؤاد رسول الله؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يتعرض لأحداث شتى، كلما يأتي حدث يريد تثبيتا ينزل نجم من القرآن.قال تعالى:” وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) الفرقان
مقاصد سورة آل عمران
معالجتها قضايًا ضخمة، كان أولها قضية عيسى -عليه السلام- والتي تتصدر آيات السورة من مطلعها إلى الآية 120، قال تعالى:” الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) آل عمرا
الى قوله تعالى:” إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) آل عمران
لتشي بخطر الشرك العظيم ونسبة الولد إلى الله -سبحانه وتعالى- فهو كفر بتوحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، فابتدأت السورة بقوله تعالى: “اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ”
وبينت الآيات كيف يتكوّن الجنين في رحم أمه، وأن عيسى -كمثل بني البشر- صوره في بطن أمه وخلقه وشق سمعه وبصره، وعالجت قضية إبراهيم الخليل وكيف أنه ليس بيهودي ولا نصراني، وإنما هو إمام الحنفاء- عليه الصلاة والسلام-.
ومن مقاصد سورة آل عمران كان البحث في قضية معركة أحد، فعندما يتدبر الإنسان في هذه الآيات العظيمة تتبين له ضخامة القضية، وكيف أن الله -سبحانه وتعالى- يتابع المعركة مع السلف الصالح بقيادة سيد المجاهدين رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- فبيّن الله -عز وجل- مكامن الضعف وخوالج النفس بأدق تفاصيلها، ويُبيَّن -سبحانه وتعالى- حقيقة الموت، وأن محمد -صلى الله عليه وسلم- رسول كسائر الرسل، وأنه سيموت كما ماتوا، وأن الحياة في الشهادة، فالشهداء في قوله تعالى: “أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ” .
وأخيرًا وضّح الله أن الجهاد في سبيل الله ليس بالضرورة سببٌ للقتل أو الموت، أو أن تركه سبب للنجاة، فإذا جاء الأجل خرج المرء من مضجعه الى مصرعه، قال تعالى: “يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ”
دواء الأحزان في تدبر آل عمران من مقاصد سورة آل عمران تدبرها لإذهاب الحزن، فالمسلم لا ينفك في هذه الحياة من كدر يلازمه أوحزن يسقمه، وإذا استمر الحزن بالإنسان فقد يقتله أو يذهب ببصره، قال تعالى عن يعقوب: “وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ” .
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-:”إعلم أن الحزن من عوارض الطريق، وليس من مقامات الإيمان، ولا من منازل السائرين، ولهذا لم يأمر الله به في موضع قط ولا أثنى عليه، ولا رتب عليه جزاءً ولا ثوابًا، بل نهى عنه في غير موضع”، كقوله تعالى: “وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ” .
جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الحزن من الأمور المستعاذ منها، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن، قال تعالى: “إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا” .
وأعظم علاج للحزن هو: العودة إلى القرآن الكريم تلاوة وتدبراً، وإن المسلم ليحزن حينما يرى أن أعداء الإسلام يقتلون المسلمين، فيأتيه قوله تعالى:” إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) آل عمران

اللهم رُدّنا الى دينك ردّاً جميلا ،اللهم ارزقنا حبك وحبّ مَن أحبك وحبّ عملٍ يقرّبنا الى حبك!

 

 

بواسطة
د. خضر موسى محمد حمود - الاردن
المصدر
مقال الرأي يُنشر في الجريدة ويعكس في الأساس رأي الكاتب حول الموضوع الذي كتبه ولا يعبر بالضرورة عن صوت المواطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق