ليلى .. حكاية الألف ليلة ..الجزء الثالث

جلست ليلى ذات يوم في غرفتها الخاصة واتكأت على أريكتها كالأميرة ، حيث النافذة مفتوحة على مصراعيها والستائر مرخاة ، وقد كان البدر طالعاً والنجوم جليّات ، وكان النسيم رائعاً ، والجو اجمل من ان يوصف بالجميل ، قامت من أريكتها وتوجهت نحو النافذة وبدأت تنظر يميناً وشمالاً ، وكأنها كانت تنتظرني او كأنها على موعد معي ، كانت تراقب  العصافيرَ  وهي على أشجارها ، والأرانبَ وهي في حديقتها ،  وعيناها على مسافة بعيدة من الدرب ، وكأنها تنتظرني .
نعم .. لقد كانت تنتظرني بكل مالديها من روح وجسد ،
و كانت تترقبني بقلب ، بل بألف قلب .
كان نقار الخشب يؤنسها بنقراته السريعة وهي تتزامن مع أصوات البلابل والعصافير وهي تغرد سوية وكأنها في (اوكسترا) موسيقية حقيقية ، حتى أن حركة البط كانت متناسقة جداً وهي تسبح مجموعة في بِركة ماء كانت تطل عليها الشرفة .
استمرت بنظراتها البعيدة أملاً في أن تراني ، أو ترى لي خيالاً من بعيد لكنها  عادت خالية الوفاض الى غرفتها  ، إذ لا أمل مني أبداً .
اشغلت الموسيقى الهادئة التي طالما استمعنا لها سوياً وأحببناها كثيراً ، وجلست على كرسي خشبي هزاز  وهي تستمع الى هذه الموسيقى الجميلة .
تذكرت ليلى تلك  الموسيقى الرائعة  حين كنا نستمع إليها  ذات يوم ونحن نجلس معاً على طاولة صغيرة في أحد المقاهي البغدادية المطلّة على نهر دجلة ، حيث بعض الحشائش الطويلة تحوطنا ، والزهور تلفّنا من كل جانب ، والأغصان تتدلى من هنا وهناك …  ومياه دجلة الهادئة تنساب بخفة  وجمال ، ونحن نراقب بعض الزوارق التي كانت تنطلق في مياهه من أدناه الى أقصاه ، والأبلام التي كانت تقلّ الراغبين من الناس بالانتقال من طرف النهر الى الآخر .
كان المنظر أشبه بالخيال منه الى الحقيقة …
مازالت ليلى تتذكر أننا حينها طلبنا أن نشرب  فنجاني قهوة سادة ، إذْ لم نكن نحبها بالسكر أبداً .
حين جلسنا ، ابتسمت ُ لها وعيناي لا تطرفان ، ولايشبعان من النظر إليها ،  قدمت ُ  لها القهوة من  فنجاني أنا ، فابتسمت ْ هي  وقالت إن فنجانها أمامها ولم تشرب منه بعد .
فقلت لها :-  أريد أن نشرب سويةً أنا وأنت من فنجاني هذا  ، ثم نشرب سوية من فنجانكِ أنتِ  ليكون مذاقه ذكرى خالدة لنا .
شربت هي من فنجاني ، وطلبت  هي ان أشرب من فنجانها أيضاً ، فشربنا … وضحكنا طويلاً .
كنا نستمع لتلك الموسيقى الهادئة وإيقاعاتها المنسابة على قلوبنا وأرواحنا ،  وقد طربنا لنغماتها كثيراً ، فصوت القيثارة رقيق ، وعزف العود شجيّ  ، والناي شجِن ، وضربة الدف هادئة  ، كل ذلك وسواه كان جميلاً جداً ، كان كل ما في هذه الموسيقى يطربنا بحق ، وكأن أرواحنا تطير مع كل نغمة من نغماتها ، وقلوبنا تتدفق مع كل ضربة من ضرباتها ، كانت تلك  الموسيقى  أشبه بقارب نجاة لغريق ، فقد كنا نصغي لها وكأنه قد تمّ تأليفها لنا خصيصاً .
تعالت ضحكاتنا وأصواتنا ونحن نتبادل كلمات الحب ، كنت أقرأ لها من قصائدي ما يطربها غزلاً ، وأسمِعها ما يشجنها من حلو الكلام  من رسائلي الأدبية التي كنت أوجهها لها باسم الأميرة النبيلة ، كانت سعيدة جداً لكل كلمة تسمعها ، بل ولكل حرف فيها   .
لقد طلبت ْ هي  مني أن أقرأ عليها  آخر رسالة بعثتها إليها
بصوتي الأجش ، رغم أنها تؤكد لي أنها قرأتها عدة مرات ، ولا تمل من قراءتها أبداً ، لكنها تحب أن تسمعها بصوتي أنا .
فقرأتها عليها وأنا أمنح كل حرف وكلمة فيها حقه من الوجدان والإحساس  بما فيه من الشجن ، والعشق ، والجهر والإخفات ، بل حتى الإدغام والقلقلة .

(رسالتي إليها …
أميرتي النبيلة …
نعم … لقد أخطات ُ حين ظننت ُ ذات يوم أنكِ الطريق
إلى الجنة  ، فلقد  أدركتُ الآن … أنكِ الجنة نفسها .
والسلام …)

قالت : – الله … الله ماأجمل هذه الرسالة بصوتك ..
لم أكن أدركُ جمالها ولا سر معناها إلا بصوتكَ أنت ،
أن أكون أنا الجنة نفسها ،  هذا شيء من الجمال لايصدَق ،
كم أنت رائع وجميل ، وحلو الكلمة .
قلت : – شكراً لكِ يا ليلى … لا أعرف بماذا أردّ عليكِ  يا ليلى . والآن … انا أحمل لك هدية متواضعة في قيمتها ، كبيرة في معناها .
قالت : – الحق أني لا أبتغي هدايا منكَ ، فأنتَ هديتي من الله ، ويكفيني ذلك ، يكفيني أنكَ معي تعيش كل ساعات يومي ، نهاره وليله .
قلت لها : – أ أنا هدية الله إليكِ ياامرأة ؟!
قالت : – نعم … إنما أنتَ وحي سعادتي الأول والأخير ، أنت من أرضَعني هذه السعادة من قلبه ، وغذّانيها من شفتيه ، وأسقانيها بكل جوارحه .
قلت : – لا أصدق أني أسمع منكِ هذه الكلمات يا فتاتي، فأنا لم أكن أتوقع أني بهذا العلوّ من المرتبة والدرجة الرفيعة عندكِ .
قالت : – بل وأكثر … أنت أفضل من رأيت في أعوام حياتي جميعها .
قلت : – ماذا تقولين ياامراة !؟ أ معقول كلامك هذا ؟!
قالت : – إي والله لم أعثر على مثيل لك في الارض ، ولو عثرت لأخبرتكَ .
وأردفت تخبرني …
: – أنت نسمة طيبة في حياتي وهوائي الذي أتنفسه ، انت الرقة بذاتها التي كنت أطلبها من ربي منذ صغري  .
قلت لها : – إني أحمل لك هدية بسيطة أرجو أن تقبليها ياابنة قلبي … إنها زجاجة عطرٍ صغيرة الحجم ، نقية المحتوى ،  عبق عطرها ، جميل شكلها ، مميز لونها .
فأخرجتها من حقيبتي وأعطيتها لها هبةً من قلبي العاشق الذي لم يعترف بعشقه لها وإن بدا على قسمات وجهي ، وبان في فلتات لساني ،  فتقبلتها وهي مسرورة جداً بهذه الزجاجة العاطرة .
ونحن في تلك الحالة من السعادة ، دخل علينا رجل كبير في السنّ ،  في يده اليسرى طاسة صغيرة ، وفي يده اليمنى حصيات سبع ، يرتدي ثوباً يوحي أنه دَرويش ،  يحمل على كتفه الصغير كيساً من القماش على شكل حقيبة مسافرٍ يتجول في كل الدنيا ، رأيت ذلك الرجل وخفته جداً ، ولا أدري ما هو السبب؟
إقترب الرجل من طاولتنا شيئاً فشيئاً وعيناه شزرتانِ  تخيفاننا ، إقترب كثيراً منا ووجه عينيه نحو زجاجة العطر التي أهديتها لها وهي مازالت بيد حبيبتي  .
أخذ زجاجة العطر من يديها بسهولة ، ثم رفع فنجانينا الفارغين إلا من قليل من القهوة وقد صبغ قاعدة فنجان كلّ منا ،  حملق بهما كثيراً ، وعيناه مفتوحتان لاتطرفان ، تنهد تنهيدة قوية ،
وقال : – ويحكَ … ماذا فعلت أنت ؟
قلت : – وماذا فعلت ُ أيها الدرويش ؟
قال : – لماذا أهديتها زجاجة العطر ؟
قلت : – وما بها زجاجة العطر ؟
قال : – إنها فأل سيء وعلامة تدل على الفراق سريعاً .
قلت له باستهزاء : – ولكن أيها المعتوه ، سبق وأن أهديتها زجاجة عطرٍ في السنة الماضية .
أتذكرين ذلك يا ليلى ؟
قالت ليلى : – نعم … ولكني أتذكر أيضاً أننا افترقنا حقاً بعد هدية العطر تلك ، لمدة عام كامل ، بسبب مرض كورونا الذي بسببه حظرت الحكومات التَجوال في كل أنحاء العالم .
لم أبهت من كلام الدَرويش بقدر ما بهتّ ُ من كلام ليلى ، بقيت متسمراً ، خائفاً ، رغم أني لم أبدِ ذلك أمامهما .
قال الدرويش : – أنا أخبركَ بالصدق وليس بما تظنه سفاهة او تنجيماً ، إنه الفراق ، وهو ماينطق به فنجاناكما …
هو ذا مااقوله لك …  الفراق قدركما ، وعلامته زجاجة العطر التي أهديتَها لها ، وقد كان الأجدر بكَ أن تهديها وردة بيضاء ، أو اي شيء آخر .
ثم عاد لينظر تارة أخرى بفنجانينا وهو يصرخ …
:- ياللهول … إن رائحة الفراق تنبعث من فنجانيكما ،
الفراق الذي لا محالة منه والذي لابدّ منه سريعاً .
ثم أردف قائلاً : –
هيا يا ولديَّ … أطيلا النظر لعينيكما ، لبعضيكما .. كثيراً ، أخبرا قلبيكما بما تخفيانه من عشق ألمّ بكما ، أعلنا حبكما بكل صراحة وجرأة ، فما لكما من الوقت متسع  بعد هذا اللقاء …
وأنتَ ياولدي … أطِل النظر الى أناقتها ، والزم رقّتها ، وداعب شغاف قلبها بكلام معسول تعوّدته هي منكَ، وأكثرتَهُ أنت لها في مناسبة أو من دون مناسبة ،
أخبرها بما تضمره بين جوانحك ، وفي كل جوارحك ، من عشق أذاب فؤادك ، وألهب الجمر في كبدك َ ، وأحرق مابين أضلاعكَ ،
فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لن تلتقيا بعد هذا اليوم أبداً .
ورحل ذلك الرجل عنا بعيداً وهو يتحسر حسرات كبيرة على رجل وامراة مثلينا ، عاشقين كعصفورين يتناغمان بتغريداتهما المتوافقة ، عاشقين كفراشتين تحلقان سوية في فضاء الرومانسية والغرام دون أن يأبها لكل مايحدث حولهما ويحوطهما من واقع مر ،  إنهما أرق اثنين ، وأعظم اثنين ، إنهما  نبيل وراهبة ، أمين وقدّيسة ، إنهما بكل معنى الكلمة أجمل قصة  حب دارت وانتهت بطرفة عين .
نعم… لقد نظرت ُ لذلك الرجل بكل سخرية ، وأنا أهمس في أذن ليلى بأن ذلك الرجل معتوه بلا ريب ، وأنه لولا سوء حديثه لنا ، ولو لا عبثه معنا بهذه الطريقة لأعطيته من المال ديناراً ،
ولم أكُ أعي أن ما نبأنا به هذا العراف هو حادث لا محالة .
فلقد انفرط العِقد وتناثرت حباته في نفس اليوم … ويا للعجب.

يتبع الجزء الرابع

بواسطة
عبد الباري المالكي - العراق
المصدر
مقال الرأي يُنشر في الجريدة ويعكس في الأساس رأي الكاتب حول الموضوع الذي كتبه ولا يعبر بالضرورة عن صوت المواطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق