ليلى … وحكاية الألف ليلة “الفصل الثامن”

مازلتُ أتذكر أني اتصلتُ بليلى عدة مرات بالهاتف ، لكنها لم تجب ، ولم أكن أعلم السبب الحقيقي ، أو … فلنقل أني لم أكن أدري بما يدور بداخلها من أفكار وهواجس بعد أربع سنوات تقريباً من علاقة وطيدة كنت أراها حباً ، ولكن تصرفاتها بعد خطبتها — التي لم أكن أعلم بها للآن —   كانت توهمني خلاف ذلك لما رأيتُ منها من إعراض لي وجفوة …
وذات ليلة من الليالي الحالكة ، وفي وقت متأخر رنّ جرس هاتفي ، لم أستوعب ذلك فقد رأيتُ اسمها بالهاتف وصرخت ..
:- ياالله .. إنها هي من تتصل بي …
فرحتُ فرحاً شديداً ولم أصدق أنها تتصل بي ، فهي قد أصبحت في الآونة الأخيرة كالعملة النادرة .
رفعتُ  السماعة وكان هذا الحوار البارد ، والذي هو أشد برودة من شتاء بغدادي …
:- ألو … مساء الخير يايوسف .
:- ألو … مساء النور يا ليلى ، كنت انتظركِ  أياماً ولياليَ ، لمَ هذا الغياب ؟
:- أريد أن أراكَ غداً يايوسف .
:- حاضر ياليلى … سنلتقي في نفس المقهى المعتاد الساعة العاشرة صباحاً .
وبقيتُ  تلك الليلة أفكر وأفكر ، كيف سألتقيها ؟ بأية شفتين سأحدثها ؟ بأية عينين سأراها ؟ بأية أذنين سأسمعها ؟ بل بأي أنف سأشم عبيرها الفواح ؟ .
رحت أصوغ التعابير مع نفسي جملة جملة ، وكلمة كلمة ، بل حرفاً حرفاً .
جلستُ على أريكتي المتواضعة ورحت أحاور ليلى وأنا أتخيلها جالسةً قبالتي في المقهى …
:- (أتعلمين يا ليلى أن لديّ قاموساً أدّخرهُ لكِ أنتِ فقط ؟ أنتقي منه مايناسب مقامكِ ، و يضاهئ نبلكِ ، و يوازي مشاعري نحوكِ ، حتى إذا لم أجد ما يليق بجلالكِ  ، وما يرتفع الى سموّكِ ، أرجعتُ  تلك الكلمات ، ورحتُ أفتش عن بدائلَ لها في قاموس غيرِه ، فإذا عجزتُ عن إيجاد ما يساويكِ شأناً  ، ويلائمكِ  قدراً ، رحتُ  أبحث في عالم الملكوت ، وشأن الناسوت ، عساني أفلح في تسطير جملة أو جملتين أفضي بهما إليكِ .
فالعاشق يا ليلى  لايكلّ من البحث ، ولايملّ من الانتظار .
ولعَمري يا حبيبتي … إني لأنتقي كلماتي تلك  بعد بحث يطول ، وانتظار مَهُول ، خشية أن لا يوافق مزاجكِ ذات مرة ، فآخذها بعناية الطبيب ، وأتناولها برعاية الرقيب ، كلمة كلمة ، أطليها بماء الذهب ، وأُنقِعها بماء الورد ، ثم بعطر البنفسج ، ثم بزهر الآس، ثم بالنرجس والياسمين ، ثم بألف نبتة من حدائق الروح ، وعذوبة البوح ، مرة بعد مرة ، فإن فاحت ، و شمّها المارّون عن بُعدِ أذرعٍ كثيرة ، صرت ُ أعاود الكرّة تلو الأخرى ، عسى أن يروق لك  عطرها ، ويعجبكِ شكلها ،  فإذا لقيتُكِ ، نثثتُها على رأسكِ كما تُنثّ الحلوى على رأس العروس  ، فيختلط عبق الورد بعطر جسمكِ الذي هو أشدّ  عندي من رائحة المسك والعنبر  .
فإذا فعلتُ بكِ ذلك  ، انسابت كلماتي حرفاً حرفاً ، على شعركِ الذهبي ، فأمسحه خصلة خصلة ، من جذره الى أطرافه ، يصطبغ بها كأن ْ  لا فرقَ  بين جدائلكِ ولون أشعة الشمس ،
فيحتار الرائي بكِ وهو يشاهدها تنسكب على عينيكِ وقد غطت حاجبيكِ الهلاليينِ ، ورمشيكِ الطويلين  ، فينصبغ جفناكِ بزهر الآس ، ووجنتاكِ بلون الورد ، وشفتاكِ بذات البنفسج ،
حتى إذا سالت على  أخمص قدميكِ ، صرتِ أشبه بملاكٍ لم يخلق الله لكِ نظيراً ، أو حوريةً لم يكن لكِ أيّ شبَه ) .
كانت هذه رسالة رتبتها  لها لأقرأها على مسامعها عند لقاء الغد …
لقد كانت  ساعات الليل ثقيلة عليّ ، كنتُ أعدها بأصابعي لألقى عينيها العسليتين … وآهٍ من عينيها .
كم تمنيتُ في تلك الساعة أن يحيل الله الليل نهاراً ، فأسرع  الى محالّ العطارين ، ومقرّ العرافين ، أتزوّد منهم تعويذة   أستعيذ بالله بها لعينيها الجميلتين ، ولأسرعت ُ إليها ببخور أمي أبخرهما به طوال نهاري …
لم أنم تلك الليلة … ولم أعرف الهدوء ، كان القلق يساورني ، والأرق كاد ان يقتلني ، فوالله .. لن أنسى تلك الليلة ما حييتُ .
صاح الديك ، وطلع الصباح ، فقفزتُ  من سريري وأنا متعب للغاية من السهر والتفكير ، ورحت أدقق النظر في ساعتي كل دقيقة ، وأتعجل عقاربها لألتقي حبيبتي ليلى بأرقّ عبارات اللقاء .
عجلتُ بنفسي الى ذلك المقهى الذي لم يّفتح بعد لأنني ذهبتُ إليه بشكل مبكر جداً ، إنتظرت ساعة حتى فتحه صاحبه ، فدخلته وكنتُ أول الوافدين إليه ..
كنت أراقب ساعة المقهى دقيقة دقيقة حين دخلت ليلى فيه بعد أن تأخرت عن موعدها عمداً .
جلست ليلى مقطبة الحاجبين ، عابسة الوجه ، وكأنها تجلس مع رجل لاتعرفه ، سلّمتْ عليّ ، ورددتُ  لها السلام بسلام العاشق ، وتحية الملهوف ، وأنا انتظر الفرصة لأقول لها ماحفظتُه بالأمس من كلمات .
قالت ببساطة لم أعهدها فيها من قبل …
: – يوسف … آنَ لك أن تعرف أني لست من العاشقين ، فافهم أرجوك .
قلت : – ماذا تقصدين ياليلى ؟
قالت : – أقصد أنكَ تمضي وقتك معي في سراب .
قلت :- ومادار بيننا من قبل ياليلى ؟ كيف لكِ أن تفسريه ؟
وتلك النظرات التي طالت بيننا حتى تقرّحت أعيننا منها ، وذلك الكلام الشبه عسل والذي صاغته ألسنتنا ، ولاكته افواهنا وهثمته أضراسنا ، كيف لك ولي ان نفسره ؟ .
أما كان ذلك حباً ؟ أ كان كل ذلك  مجرد جلسات لاتعني شيئاً لكِ ياليلى ؟ ألم يكن عشقاً ؟
إذن اخبريني كيف أوحيتِ إليّ بذلك ؟ أم أني حلمتُ حلماً فكان اضغاثاً لا غير ؟
وتلك الخواطر التي كنا نتواردها سوياً في وقت فراغنا من الليل ؟ ماذا كانت تعني برأيكِ ؟ أ تظنين ان هناك من أوحى لي بعشقكِ لي سواكِ ؟
أبهذه البساطة ياابنة الأطايب تخبرينني ان لا قلب تملكينه ؟
وأن لا مشاعر تركبكِ ؟
أي جرمٍ هذا الذي ترتكبينه بحقي ؟ ثم تأتين وأنت تميسين ميس الظباء لتخبريني انكِ لستِ من العاشقين ؟
أيّ كبدٍ ياليلى فريتِه ؟
وأي فؤادٍ ذبحتِه بغير سكين ؟
محال ان تكوني أنت ليلى …
محال أن تكون هذه اليد التي تمدّينها إليّ الآن  هي نفس اليدِ التي مددتِها لي أول مرة …
محال ان تكون عيناك هما نفس العينين …
محال ان تكون شفتاك هاتان هما ذات الشفتين …
محال ان اكذّب نفسي في ما كنتُ قد سمعتُه منكِ من قبل …
محال ان أكذّب ما ورد في خاطري ، وما جال في خيالاتي ..
محال ان اكون مخطئاً أيتها الراهبة فأوحيتُ الى فؤادي خطأً
أنكِ تعشقينني …
ثم علا صوتي قليلاً بسبب انفعالي وانا اكلّمها …
: – أخبريني ياسيدتي …
هل كنتِ تكذبين عليّ … وحاشاكِ ان تكذبي …؟
أم كنتِ تشفقين عليّ من حيث لا ادري … ؟
وحاشاي ان يشفق عليّ أحد …
أأخبرتُكِ ياراهبتي أني كنتُ ميتاً من قبل فرأيتِ أن تحييني على يديكِ بالوهم …؟
أم  سألتكِ إحساناً فتفضّلتِ به عليّ من رضابكِ ؟
أم  كنتُ ضالاّ فآويتِني الى قلبكِ ؟
أم رأيتِني آثماً فعمّدتِني بنداكِ ؟
أم كنتُ مستجدياً عطف أحدٍ فوهبتِني ما أستجديتُه من عطفكِ    …؟
أم  كنتُ أدور بين الأزقة والحارات بغير رشدٍ فوجدتِ أنّ من واجبكِ  أن تهدي مشرداً مثلي فهديتِني ؟
ام  رأيتِني جوّالاً فحزمتِ أمركِ لتسيري معي في تجوالي ساعة من الزمن ؟
أم وجدتِني فقيراً للعشقِ فرأيتِ أن تغنيني بالإيحاء   ؟
ام  رأيتِني محتاجاً فتكفّلتِ بحاجتي …؟
قالت : – يوسف … أرجوك  لم يكن هذا ولا ذاك ..
قلت : – وماذا كان ياليلى ؟ هيّا خبّريني ؟ أتراه  كان مجرد مداراةٍ منكِ لي ياليلى ؟  … كمن يداري أحداً في عمله ليتجنب خلافاً معه ، خبريني ياابنة عمران  ، أكان كل ذلك مداراة !!
واذا كان مداراة … فلأي شيء؟ مداراة لمشاعري التي أسقطتِها على الأرض بين قدميكِ  ؟ مداراة لقلبي المسكين الذي قوّضتِهِ حتى صار مدمى .
ثم أكملتُ عتابي لها ولومي  وهي ساكتة تذرف الدمع على وجنتيها الورديتين :-
خبّريني ياليلى متى قسوتُ عليكِ لتداريني ؟
ومتى أسأتُ لكِ لتصانعيني   ؟
ومتى أحرجتُكِ في شيء لتجامليني ؟
ومتى اوقفتكِ موقف الضعف لتداهنيني ؟
ومتى أبلغتكِ مبلغ الرهَقِ فعزمتِ على أن تلاينيني …؟
ومتى أكرهتكِ على أمرٍ  لتلاطفيني …؟
أي حديثٍ لكِ بعد هذا ياليلى معي ؟
فوالله … لو كنتُ قد شككتُ في كل نساء الأرض من قبلُ ، ما شككتُ فيكِ .
ولو كنتُ في ما مضى قد ارتبتُ في أفعالهنّ ، ماارتبتُ في فعلٍ منكِ قد صدر ..
ولو ساء ظني بأجمعهنّ آنذاكَ لحسنَ ظني بكِ ياابنة الحواريين …
ولو كان قد أخبرني العذّال  أنكِ مخادعتي  لما أقررتُ لهم بخديعتكِ لي  …
ولو أرغموني يومها على التخلي عنكِ ماكنتُ لأتخلى عن ظفرٍ فيكِ . ولو صلّبوني  على جذوع النخل  ما كنتُ لأداهنهم فيكِ  ولو قطّعوا يديَّ وأرجلي من خلاف .
لكن … هيهات …هيهات …
فوالله ِ  … لقد فريتِ كبدي …
ووالله … لقد ذبحتِني بغير سكين .
فقد مات فؤادي … رحمة الله عليه .
تأوّهت ليلى كثيراً وكأنها زفرات موتها ، أو كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة وهي تنظر إليّ نظرة حبّ أصبح دون جدوى   .
ثم أخذتُ ورقة وقلماً و رحتُ أكتب لها  بعض ما يجول في خاطري ، ووضعته على الطاولة بين يديها لتقرأه على مهَلٍ وأنا أغادرها ، دون ان تنبس ببنت شفة ، والدموع تتدفق على خديها .
فكان هذا ماكتبته لها …
(أميرتي النبيلة …
ولقد دعَت ْ عرّافتي بَنات ِ الجنّ يَندبْنَني فيك ِ …
إذ ْ كنت ِ ضالتي َ الوحيدة َ التي أنشدَها قلبي …
فقد كنت ُ أكلّمك ِ كما تكلّم ُ الأنهار ُ شطآنَها ، والعيون ُ أجفانَها … وكنّا – أنا وأنت ِ – كالحنجرة ِ ومزمارِها توأمين ِ ، حين تنحدر ُ الدموع ُ من الخدين ِ …
وكنت ُ أحرَص َ عليك ِ من الصيارفة ِ  على دينارهم ، حتى أجلستكِ بين يديّ في حلمي ، فأفلتّ ِ مني في يقظتي .
ولقد استحلفت ْ عرّافتي بنات ِ الجن ّ كي يَبكينَني
ويعزّينَها فيَّ …
فقد مات فؤادي … رحمة ُ الله ِ عليه ….
والسلام ) .

بواسطة
عبد الباري المالكي - العراق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق