الدكتور منير القادري يحاضر حول صعوبات الحياة ودور المسعى الأخلاقي في مواجهتها

قدم الدكتور منير القادري رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، مداخلة في الليلة الرقمية الثالثة والتسعين، حول موضوع “المسعى الأخلاقي ومواجهة تحديات وصعوبات الحياة”، ضمن ليالي الوصال التي تنظمها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بتعاون مع مؤسسة الجمال، وذلك ليلة السبت 26 فبراير الجاري، وبثت فعالياتها عبر الوسائط الرقمية لمؤسسة الملتقى.

أكد القادري في مستهل كلمته أن مصاعب الحياة أمر مكتوب، وأنه لا سبيل إلى حلها إلا بمواجهتها والتغلب عليها بالصبر والتفاؤل وقوة الإرادة والحكمة في التعامل مع مقتضياتها.

ولفت الى أن شبابنا اليوم ينشأ في جو أقل ما يمكن القول عنه أنه أكثر تلوثاً من الناحية الأخلاقية من الأجيال السابقة وأن ذلك يحد من قدرته على المواجهة والصمود في ظل هذا الاجتياح المادي، مرجعا ذلك لسببين: أولهما ضعف العوامل الاجتماعية التي ترعى وتنشئ الأخلاق، و ثانيهما وقوعهم  تحت وابل من الرسائل الخارجية التي تسوقها العولمة والتي تعتبر دخيلة على ثقافة مجتمعنا بل وتتعارض مع قيمه الأخلاقية والروحية.

ونبه الى أن هذه العوامل تضعنا جميعا -آباء و امهات مربين وعلماء- أمام تحديات حقيقية بشأن تربيتهم تربية أخلاقية تشكل وجدانهم في شتى ابعاده العقلية والعاطفية والاجتماعية والبدنية والأخلاقية.

وأوضح أن الإنسان لا يحقق جوهره الإنساني إلا في صورته الأخلاقية عبر التضحية برغبات نفسه وشهواتها وميولاتها في سبيل الرقي في مدارج السمو الأخلاقي، سعيا منه إلى تجسيد كل القيم والفضائل التي تشكل جوهر الحياة الأخلاقية وغايتها.

وأضاف ان الهدف الأسمى للتربية هو تحكيم الفضائل الاخلاقية في الانسان، مستشهدا بالحديث الشريف “إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ”، وزاد أن الهدف المتوخى للمساعي التربوية هو تجهيز وتسليح أبناء الجنس البشري بالفضائل الأخلاقية والميل الى النظم ومعرفة الانسان بحقوقه والاخلاص في العمل وغيرها من المبادئ التي لا نهضة حضارية ترجى من دونها.

وحول ما يجب التركيز عليه أكثر في التربية اليوم أورد قول عالم النفس الأمريكي روبرت ستيرنبرج: “لقد أنتجنا عقولا كثيرة مبدعة وخلاقة، لكن هذه العقول كانت وراء الانهيار الكبير للاقتصاد الذي حدث إبان الأزمة المالية العالمية، لقد اهتممنا بتنشئة العقول ولم نهتم بتنمية التفكير الأخلاقي، فكانت النتيجة أن إستغل هؤلاء ذكاءهم ومواهبهم لصالحهم الشخصي على حساب الصالح العام .. نحن في حاجة إلى بناء جيل لديه القدرة على التفكير بحكمة وأخلاق “.

كما تطرق الى مفهوم العقل الأخلاقي عند الدكتور هوارد جاردنر، منوها الى أنه اعتبر ان أهم ما يميز العقل الأخلاقي هو المسؤولية الاجتماعية وإدراك الفرد لمسؤولياته تجاه الآخرين وسعيه للصالح العام، وتابع شارحا أن الأخلاق تعد في مفهومه بمثابة الرقيب الذي يضبط ويوجه استخدام الفرد لقدراته ومواهبه بما يحقق الصالح العام، وحتى لا يوجهها في العدوان والتخريب أو الرغبات والنزوات، أو التعدي على قوانين المجتمع.

وأكد أن تنمية الوازع الأخلاقي في الإنسان يعد بمثابة الممر نحو بناء شخصية سوية متزنة تسعى إلى بناء المجتمع، واستطرد أن روح الإسلام وجوهره وغايته هي تحقيق التوازن بين المادة والروح، و بين الدنيا والآخرة في زمن العولمة والاجتياح المادي، وأن قِيَمُهُ الروحية مفتوحة لكل الناس دون تفرقة بين الأجناس والألوان واللغات.

وبين في ذات السياق أن التصوف اهتم بتحقيق هذا المقصد الشريف، وذلك عبر منهج تربوي أصيل يقوم على أسس ومبادئ مقام الإحسان الذي: “هو أن تعبد اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك “، وأردف موضحا أن الإحسان- التصوف- منهج وطريق يسلكه العبد للوصول إلى الله تعالى،  وأنه تربية روحية أُسُّها ومبناها إتباع  كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأضاف أن جهاد النفس وتطهيرها من الأخلاق السيئة، وتحليتها بالأخلاق الحسنة من أهم الأدوات التي يسلكها التصوف لصناعة شخصية المؤمن المتوازنة، وأن  النبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا الفعل ب”الجهاد الأكبر”، بينما سمى جهاد الأعداء بـ”الجهاد الأصغر” .

وأكد أننا اليوم في أمس الحاجة في تعاملنا مع الآخر الى تناول ديننا الاسلامي من خلال تعبيراته الحضارية والثقافية والروحية وعدم تقديمه للآخر فقط على شَكْلٍ إِيديولوجِياَ أو فَهْمٍ متحجر لمقاصده الشرعية٬ من خلال جعل البعد الصوفي الروحي الاخلاقي الحضاري والإنساني للإسلام ملموسا وقابلا للإدراك والتجسيد٬ كثقافة حية تساهم في إرساء علاقة سليمة مع قضايا المجتمعات المختلفة وتضمن الحصانة والوقاية من كل زيغ وانحراف، وتشكل أساسا لبنية أخلاقية و مجتمعية متماسكة، فتكتمل بذلك أهم شروط الأمن الروحي الذي لا مناص منه لتحقيق الأمن الحضاري.

وقال أن التصوف يمتاز بنزعة إنسانية عالمية منفتحة على سائر الأديان والأجناس، وأنه لا فرق عنده بين مسلم ومسلم أو غير مسلم و إن كانا يختلفان جنسا ولغة أو مكانا أو زمانا، مشيرا الى أن هذا هو نهج أعلام الصوفية، ليخلص الى ان التصوف هو الوصول للحق من طريق الخلق.

وأكد أن التصوف الذي يمثل البعد الإحساني للإسلام ظل على مر تاريخه العريق مرتبطا بالواقع متعايشا مع هموم الآخر مقدما الخير للجميع، مهما أبدى الآخر تَنَّكُرَهُ وجفاءَهُ وإعْراضَهُ ، عملا بالحديث الشريف: ” المؤمنُ الذي يُخَالِطُ الناسَ ويَصْبِرُ على أَذَاهُمْ ، خيرٌ مِنَ الذي لا يُخَالِطُ الناسَ ، ولا يَصْبِرُ على أَذَاهُمْ” (رواه الترمذي) ، مذكرا بالقول المأثور” الصوفي كالأرض يطأه البر و الفاجر ولا ينبت إلا طيبا”.

ونوه الى أن التصوف كثابت من ثوابت هويتنا الوطنية و الدينية يتجاوز الطابع التراثي والفلكلوري، والحضور الصوري والشكلي إلى حضور أساسي وجوهري كفيل بحل مشاكل المجتمع، وإعطاء الناس نَفَساً جديداً من أجل التخليق والفعالية والمساهمة في التنمية وتحقيق التوازن سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع، وتربية الناشئة على القيم المجتمعية الأصيلة ومبادئ الفتوة والرجولة، حتى يتسنى لنا أن نُنَشِّئَ طرازا من الرجال يثبتون أمام الأزمات والشدائد التي تعصف بالعالم وبالمسلمين والتصدي للأخطار التي قد تهدد سلامتنا ووحدتنا الوطنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق