مجالس التصوف الثقافية في بغداد

إن المجالس الثقافية في بغداد بشكل عام  لها تأريخ مفعم بالحيوية والنشاط ، ويكاد يكون لكل مجلس تخصص في علم من العلوم بحسب صاحب المجلس وتوجهاته ، فهناك مجلس مختص بثقافة الأدب والشعر ، واخر بثقافة القوانين أو السياسة أو التأريخ أو الفقه أو الآثار والمخطوطات ، أو ثقافة إلتصوف والعرفان الإسلامي إلى آخره من وجوه العلوم والمعرفة ،   وهذه المجالس الثقافية لها  رونق مفعم بالعلم والجمال ، وإذا اجتمع العلم والجمال في مكان فاعلم أنها بغداد التأريخ والحضارة ، هكذا وصفها مبدعوها ومحبوها وعشاقها .

فعلى ضفتي دجلة وعلى جانبيها الكرخ والرصافة كانت تعقد المجالس الثقافية بكل ألوانها في بيوتات بغداد القديمة ومساجدها وحسينياتها وتكاياها وكنائسها ، وكان لهذه المجالس مواعيد ثابتة في الزمان والمكان والزمان وغالباً ما تكون مساءاً ، وتتضمن جلسات فكرية ، ويكون فيها حوارات ونقاشات قيمة ومفيدة بعد إلقاء محاضرة من قبل شخص من ذوي الخبرة والاختصاص في علم من العلوم ، ويمتد تاريخ هذه المجالس الثقافية في بغداد إلى العصر العباسي ، ولم يكن يخلو قصر أو جامع أو زاوية آنذاك من هذه المجالس التي يتسامر فيها العلماء والأدباء والشعراء مع الأمراء والأعلام من أهالي بغداد عندما كانت بغداد قبلة العلماء والشعراء والفقهاء والأدباء ، يأتون إليها من شتى بقاع وأمصار الأرض ، وكان لشيوخ الطرق الصوفية مجالسهم الثقافية الحافلة بشتى أنواع العلوم من الأدب والشعر والقصص ، بالإضافة إلى العلوم الصوفية والشرعية .

ومن أبرز هذه المجالس الثقافية في بغداد في العصر الحديث هو مجلس السيد الشيخ السلطان الخليفة محمد المحمد الكسنزان الحسيني قدس الله سره رئيس الطريقة العلية القادرية الكسنزانية في العالم ، ومجلس آل الصدر في مدينة الكاظمية ، ومجلس منتدى الإمام أبي حنيفة وغيرها ، وتعقد هذ المجالس أسبوعيا أو شهريا ، ومن المجالس الثقافية البغداديه مجلس مكتبه الجوادين ودار المعرفة المندائي ، ومجلس ملتقى حسين الاعظمي الثقافي ومجلس الجواهرية الثقافي ومجلس الشعرباف الثقافي ، ومجلس الغبان الثقافي ، ومجلس المخزومي الثقافي وهناك مجالس قديمة تعبر عن تاريخ بغداد في القرن الماضي ، مثل منتدى الاب انستاس ماري الكرملي ، ومنتدى الاديب والشاعر العراقي مير البصري ومجلس الشيخ أحمد الظاهر ومجلس الدكتور حسين محفوظ ومجلس الشيخ جلال الدين الحنفي ومجلس شرقية الراوي ، ويتداول العراقيون مثلا قديما يقول إن “المجالس مدارس” لما لها من تأثير على المجتمع بفئاته المختلفة ، بل كانت رديفة للمدارس والمعاهد في بعض الأحيان ، وبغداد وحدها كانت تضم أكثر من 200 مجلس وصالون ثقافي خلال ثلاثينيات ‏وأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ، غير أن هذه المجالس والصالونات بدأت بالاختفاء واحداً تلو الآخر ، بسبب الظروف والصعوبات التي مر بها العراق.

 

وسنسلط الضوء على أبرز هذه المجالس الثقافية والصوفية في بغداد ،الا وهو مجلس السيد الشيخ السلطان الخليفة محمد المحمد الكسنزان الحسيني قدس الله سره رئيس الطريقة العلية القادرية الكسنزانية في العالم ( 1938 م – 2020 م ) ، والذي كان يعقد بشكل شبه يومي ولكن ليلة الإثنين على الثلاثاء وليلة الجمعة أوسع وأكبر ، في الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي في بغداد الكرخ في التكية الكسنزانية في المأمون ( نفق الشرطة ) وكان لمجلس السيد الشيخ محمد المحمد الكسنزان الحسيني قدس سره في بغداد نظام رائع وبديع ، لما كان يتمتع به الشيخ من ملكة فكرية وثقافية وعلمية رائعة ، واهتمام في شتى العلوم ، وكان ذو شخصية مؤثرة في كل من يلتقي به، وكان رجل ذو قوة روحية عظيمة وصاحب منهج وسلوك رباني تكسوه الهيبة والأخلاق الحميدة التي ورثها من آبائه وأجداده عن أل البيت عن جده سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم تسليما ، وكان يحضر مجلسه النخب الثقافية والدينية والإعلامية والتربوية والاجتماعية والسياسية ومن مختلف المشارب والثقافات ، وتتم في هذا المجلس مناقشة كافة المواضيع وفي شتى المجالات والأختصاصات في العالم ، وكان هذا المجلس يستقطب المهتمين بشتى المجالات والعلوم ، ممن لديهم حافظة كبيرة للأستذكار ، من الكتاب والأدباء والشعراء والعلماء في الإجتماع والفلك والتأريخ والأدب والشعر والفنون وغيرها من المواهب والعلوم ، وكان الشيخ الكسنزان يعمل جاهدا على أن يكون مجلسه موسوعي يتم فيه أستذكار الرموز العراقية والإسلامية والعالمية ممن قدموا عطاءهم لبناء حضارة العراق والمسلمين والعالم ، معتبراً ذلك جزءاً من الوفاء لهم ، وكان يزور المجلس الثقافي الكسنزاني العلماء ليلقوا وجهات نظرهم ضمن اختصاصاتهم العلمية ، وفي بعض الأحيان يلقون محاضرات على مريدي الطريقة الكسنزانية الذين يحضرون مجالس الذكر في التكية ، وكل يتكلم في اختصاصه ، فعالم الدين يتكلم في أمور الدين ، والطبيب يتحدث عن الطب ، وعالم عن الكيمياء والفيزياء والمؤرخ عن التاريخ والمهندس الزراعي عن الزراعة ، وغير ذلك من العلوم ، وكانت تلقى في هذا المجلس القصائد والأشعار بحق الحبيب سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم تسليما وبحق آل البيت والصالحين ، وتطرح في المجلس المواضيع المختلفة والمشاكل للنقاش وطرح الحلول .

ومن أبرز الشخصيات التي كانت تحضر في هذا المجلس الدكتور علي الوردي عالم الاجتماع الأول في العراق في سنين عمره الأخيرة والدكتور حسين محفوظ ، وعالم الفلك الدكتور حميد مجول النعيمي والشيخ عداب الحمش ، والدكتور حسين أمين ، والدكتور عبدالله سلوم السامرائي ، والدكتور الحارث عبد الحميد ، والدكتور كامل مصطفى الشيبي ، والدكتور فاضل خليل والشيخ جلال الدين الحنفي والدكتور حميد علي هدو وأخيه محمد علي هدو ، والدكتور عماد الطالباني ، والدكتور مكي عمران والاستاذ عبد الرحمن المرشدي والاستاذ صبري الرماحي ، والشيخ عبد القادر الخطيب ، والشيخ رافع الرفاعي ، والشيخ عبد الرزاق السعدي ، والشيخ أحمد الكبيسي والقارئ علاء الدين القيسي ، والقارئ محمد سعيد النعيمي ، والسيد علي عبد الكريم المدني ، والشيخ ابراهيم درباس ، والدكتور عبد السلام الحديثي ، والدكتور لؤي فتوحي والدكتور جمال حسين نصار والدكتور عبد الرحمن العاني ، وخبير الآثار بهمان ابو الصوف ، والدكتور جعفر عليوي ، والشاعر علي فايز ، والأستاذ ستار البرزنجي والاستاذ زهير القيسي ، والدكتور في علم الفلك مجيد جراد ، والدكتور كامل الكبيسي ، وأعضاء اتحاد المؤرخين العرب ، والدكتور أسامة الألوسي ، والدكتور بكر البرزنجي والدكتور الفنان فاضل عواد ، والدكتور خالد الخطيب ، والشاعر خالد البارودي ، والشاعر باسم جواد ، والبروفيسور حسن حامد مفتي الجمهورية السودانية ، والدكتور عامر الحديثي والدكتور محمد فاضل والدكتور مجيد شكر والدكتور عادل علاوي ، واللواء صلحي الحديثي ، واللواء عامر السامرائي ، وغيرهم اعداد واسماء كبيرة وكثيرة لا يمكن احصاءها في هذا المقال ، وكانت تحضر المجلس نخب دبلوماسية  أمثال الدكتور قاسم سلام من اليمن وادموف رئيس مجلس الشورى في الشيشان ، ورؤساء البعثات الدبلوماسية في بغداد أمثال السفير الباكستاني ، والسفير الهندي، والسفير الصينى، والسفير اليمني والسفير الماليزي، والسفير الروسي والسفير السوداني والفلسطيني ، والسفير التركي والسفير الأندونيسي والماليزي والروسي والأذربيجاني ، والسفير الأفغاني وكثير من أعضاء هذه السفارات وكانت تزور الشيخ في مجلسه إعداد كبيرة من الوفود من شتى بلدان العالم وشخصيات مهمة في مجال الثقافة والعلوم ، وكان لهذا المجلس الثقافي الكسنزاني دور كبير في نشر قيم المحبة والسلام والتسامح بين الناس ، وبالفعل الحقيقي وفي أصعب الظروف كان هذا المجلس يشع بالنور والرحمة والمودة والمعرفة ، وبعد إنتقال حضرة الأستاذ السلطان الخليفة محمد المحمد الكسنزان الحسيني قدس سره في 4/7/2020 ، أنتقلت ريادة هذا المجلس الثقافي الكسنزاني إلى السيد الشيخ الدكتور شمس الدين محمد نهرو الكسنزان الحسيني رئيس الطريقة العلية القادرية الكسنزانية في العالم ، وهو يسير على نهج والده وأستاذه حيث وسع هذا المجلس الثقافي الكسنزاني ، وجعل منه مؤسسة متكاملة تحتوي على مجلس مركزي يتألف من أربعة عشر لجنة ومجلس علمي ، ووسع دوره ليفيض بالفائدة على المجتمع برمته ، وليكون باب خدمة ورسالة معرفة وتنوير للقلوب والعقول ، وسمو روحي للأيمان والأخلاق الفاضلة والقيم الإنسانية بكل معانيها الجميلة وكل ما فيه خدمة وصلاح للإنسان ، وقد فتح له فروع في كل المحافظات العراقية وبعض دول العالم ، تقدم هذه المجالس الثقافية الكسنزانية للمجتمعات كل ما فيه خير وخدمة ونفع للبشرية .

 

بواسطة
الباحث نوري جاسم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق