المدرسة الدخوارية و التأسيس المنهجي لعلم الطب
تحاول هذه المقالة الوقوف على أصول العلم العربي ومراميه وأهدافه، وكيف تطور وشكل نموذجا علميا رائدا بالنسبة للفكر الأوروبي في عصر النهضة. وسوف نركز هنا على أهم المدارس الطبية في الشام ومصر وخاصة المدرسة “الدخوارية”، حيث تمتاز عن غيرها بعدة خصائص رئيسية، تلك الخصائص التي تكشف عن جوانب معرفية ومنهجية وبنائية، كذلك سوف نحاول توضيح كيف لهذه الخصائص أن تتضافر معا لتشكيل البنية المعرفية لمدارس الطب في الشام ومصر في القرن السابع الهجري. قاصدين في نهاية الأمر الاعتراف بأن ما عرفناه من العلم العربي في فترة ازدهاره ضئيل للغاية ولا يتناسب مع مكانة العلم العربي ومنزلته.
ومن منطلق ان العلم لا يتقدم إلا من خلال وجود منظومة معرفية ومنهجية لدى العالم، إذ لابد وان تكون للعالم رؤية معرفية تنطلق منها النظرية التي ينادي بها، وموقف منهجي يؤدي الى تطوير المنظومة المعرفية في المستقبل، وأننا لابد لنا ان ننظر دائما الى العلم على أنه نسق فكري وقع في زمن قد يكون الماضي او الحاضر، و يخترق حجب الزمن الذي يأتي بعد، وهو ما يبدو في قيمته التنبؤية، وقوته المعرفية، وإمكاناته الاستنتاجية. ومعنى هذا أن ننظر الى العلم دائما على أنه يشكل النسق المفتوح الذي يحمل مع التغيير والتغير معلا، وانطلاقا من هذا الفهم لا نريد للعلم العربي ان يتحول الى مجرد تاريخ.
وتأسيسا على هذا فإنه اذا تحقق لنا هذا التصور وتحولنا من الكتابة (حول) العلم العربي إلى الكتابة (في) العلم العربي نكون قد قطعنا شوطا كبيرا في التحول من دراسة العلم العربي على أنه مجرد انجاز “كان في الماضي”، وأصبح من قبيل التراث، على ما يتصور المستشرقين. ذلك الفهم الاستشراقي الذي يحول العلم العربي من مرتبة الفاعل إلى مرتبة المفعول به. والدخوار صاحب المدرسة الدخوارية هو مهذب الدين أبو محمد عبد الرحمن على بن حامد المعروف بالدخوار الدمشقي (565 ه – 628ه)، شيخ أطباء الشام ومصر، ولد بعد نصف قرن من رحيل الغزالي، وهذه المعلومة تؤكد على ان العلم العربي لم يتوقف كما يظن البعض بعد كتاب الغزالي “تهافت الفلاسفة” كما يظن البعض بان بهذا الكتاب قد اغلق باب الاجتهاد والعلم. والدخوار هو صاحب أشهر مدرسة علمية طبية دامت لأكثر من قرنين من الزمان، ومن انجازاته:
1- اختصار كتاب الحاوي في الطب للرازي
2- اختصار كتاب الأغاني الكبير لابي فرج الاصفهاني
3- كتاب الجنينة في الطب
4- كتاب الرد على شرح ابن أبي صادق لمسائل حنين
وغيرها من الكتب والمقالات الهامة في العلم والأدب، وتميزت هذه المدرسة التي أسسها الدخوار بمجموعة من السمات والخصائص المعرفية والتي تتمثل في:
اولا: التحليل الكاشف والراصد
وهذه الخصيصة عند الدخوار تم تطويرها في كتابات ابن النفيس فقد كان يتدخل بعقله وفكره في النصوص التي يقوم بتدريسها، فلا ينقل النص كما هو وإنما يحلله تحليلا دقيقا، ويكشف عن معاني الكلمات فيه والتراكيب اللغوية التي قد يصعب على الدارس فهم دلالاتها العلمية.
وقد اتخذ هذا البعد عند ابن النفيس صورتين الصورة الاولى تتمثل في التحليل بمفهومه العام كما هو في التاريخ الفلسفي المعاصر في كثير من الكتابات الفلسفية والمنطقية، أما الصورة الثانية فهي ما يمكن أن يطلق عليه التحليل الداخلي الذي يحاول ان ينفذ الى المعنى الكامن من خلال اجراء عملية تفكيك لبنية النص للوصول الى المعنى الحقيقي للكلمات ودلالاتها، ثم يقوم بإجراء عملية بناء النص من جديد لتحديد مفهومه ودلالاته من خلال السياق، معتمدا على التواصل المعرفي للنص من خلال شرحه، وتلك الطريقة المتفردة اتخذها ابن النفيس عن معلمه الدخوار وقام ابن النفيس بتطويرها.
ثانيا: النقد والمقارنة
فقد كان من الضروري بالنسبة للدخوار أن يكشف عن مستويات النقد والمقارنة في كتاباته، وتبين النصوص المتعددة التي قدمها الدخوار في شرحه على “تقدمة المعرفة” لأبقراط، هذا الجانب من اهمية النقد والمقارنة، ومن بين تلاميذ الدخوار الذين اهتموا بهذه السمة ابن أبي اصيبعة الذي كان على درجة عالية من الدقة المنهجية التي تبرز كيف تفاعل النقد مع المقارنة ليشكلا روح المدرسة الدخوارية. وقد وجد ابن ابي اصيبعة ان مسألة تطوير المنهج تتطلب ضرورة الفصل بين أمرين هما:
1- أن يستخدم المؤلف منهجا محددا في الكتابة عن وعي وقصد، ورؤية علمية محددة تبرز معالم هذا المنهج.
2- أن يدون المؤلف اخبار وتاريخ العلم والعلماء مستندا الى منهج محدد، ولكن دون ان يشير الى منهجه لاعتقاده بأن المنهج بديهية اساسية ومسألة الاشارة اليها مسألة زائدة.
ثالثا: الامانة العلمية ونسبة الآراء الى قائليها
حيث شكلت هذه النزعة رافدا مهما في دراسة وشروحات مدرسة الدخوار بزعامته وقد اتخذ هذه الخصيصة من علماء الحديث، كما حاول الدخوار بصورة دائمة أن ينسب الفكرة الى قائلها ويحدد موضعها
رابعا: التأليف الموسوعي
فحين أرسى الدخوار أسس ودعائم المعرفة الطبية، جاءت مدرسته لتدعم هذا التقليد، فاتجه تلامذته الى التأليف الموسوعي الذي كان ملمحا مهما من ملامح العمل العلمي في مدرسة الدخوار.
خامسا: الندوات والمؤتمرات
ولان نمو المعرفة في مجال دراسة علم من العلوم إنما يكون من خلال المناقشة والرأي بين المشتغلين بالعلم، وبما ان تشخيص الحالات وعلاجها يحتاج الى مثل هذه الحالات من مقارنة الدليل والحجة بالحجة، حتى يحدث الاجماع والاتفاق على امر محدد، لذا كانت المناظرة بعدا جديدا ميز الفكر العلمي في تلك الآونة.
سادسا: الجمع بين التعليم النظري والجانب السريري
فمن المعروف في أيامنا هذه أن من يتعلم الطب ويدرسه ويمارسه كمهنة لابد له من العمل في المستشفيات حتى يتدرب ويتمرس على مهنة الطب، ويستطيع أن يكتسب الخبرة من الحالات التي يقابلها تحت اشراف اساتذة علماء، فقد كان التعليم أيضا له خصائص وسمات مميزة عند الأطباء العرب، وربما كان الرازي امام الاطباء في وقته من اعظم الاطباء الذين حفظوا لنا في مؤلفاتهم التعاليم التي ينبغي على المتعلم أن يعرفها جيدا، ويجب على المعلم أن يبثها في نفس المتعلم. لم تكن تعاليم الرازي أمرا نظريا مجردا، وانما كانت من واقع الخبرة والممارسة. ومن ثم فإن البيمارستانات لعبت دورا مهما في ترسيخ القواعد العلمية لدى الباحثين والدارسين، خاصة مع وجود اطباء لهم اتجاهات علمية مختلفة.
ومن بين أقطاب هذه المدرسة المهمة في الطب في بلاد الشام ومصر، والتي أسست لمنهج علمي عربي لدراسة الطب نجم الدين بن المنفاخ 593 – 652 ه، وعز الدين بن السويدي 600 – 690 ه، و بدر الدين بن قاضي بعلبك، و زين الدين الحافظي، و موفق الدين عبد السلام، والصاحب نجم الدين بن الليودي. تلك هي المدرسة الدخوارية واعلامها والتي استكملت المنظومة المعرفية والمنهجية للعلماء العرب، وأكدت على الرؤية المعرفية التي تنطلق منها النظرية العلمية العربية.