اللحظة الفنية عند الشاعر أجود مجبل
إن من مهمة الشاعر هو أن يكون صادقاً مع نفسه ومع كل مضامين قصيدته التي تكونت بها ألوانها بعيداً عن امارات الحشو والزيادة , وحين يجوب القارىء عوالم استاذنا الشاعر الكبير أجود مجبل فإن عدسته سوف تلتقط من مشاهد الكون والحياة كل ماهو مكثف وموحٍ , حتى أن لحظة الاختيار عند القارىء تكون عسيرة جداً لأنها سوف تكون لحظة حيرة تامةٍ لأي منها , فأغلب أعماله هي لحظة فنية تقاس بها الملكة الشعرية .
ولأننا نقف قبالة قصائده باختيار لها فان الإختيار ذاته ومعالجة هذا الاختيار بالتحليل والتدقيق والمراجعة هو فن في النهاية .
ولأن مكانة شاعرنا رفيعة جداً فإن حصر مطلبنا في دراسة نقدية لهذا الشاعر إنما هي على سبيل المثال لا الحصر .
وحسبنا أن الوصف الذي ورد في ثنايا قصائده انما هو من صميم المشاعر محاكاة للجو النفسي له ولشخوص القراء والمتذوقين لأنه شاعر حاذق , ولا مكان لغير المتذوقين والحذّاق في تلك القصائد . وهي زفرة من زفراته التي تأخذ مكانها في الطليعة , لأنه يسبح في حريةٍ لعدد تفعيلاته التي سمحت له أن يستعملها الطريقة التي يريد .
ففي قصيدته ( ايثاكا بلا سفنٍ ) نجد المهارة والذكاء التي تدل على شاعرية الأجود , فالغرابة التي يحسها القارىء للوهلة الأولى مابين ايثاكا وشاعرنا لا تلبث أن تخف وطأتها حين يعرف انها وجدانه الذي يبكي عليه , هو الذي غادره الندمان وانصرفوا , ذلك الوطن الذي ضاعت أحلام شاعرنا في أفقه حين أنكروا على المفاتيح أن تفتح السجن من هنا يزول كل غموض ويحل محله نوع من الحركة الميكانيكية لبناء قصيدة ذات صورة لا تنكرها حواس متذوقة بل تدركها ادراكاً مباشراً ويسيراً , فحلقاتها متواصلة وعلاقاتها هي علاقة موازاة وتطابق حسّي وفكري يقابلهما الدموع في العيون .
ومن شواطىء ايثاكا نلمس المطابقة بين العناصر الحسية للقصيدة ونلمس تلك الاستعارة التي لم تعيِ شاعرنا الأجود الحيلة في التصوير لوطنه , الذي اعتمده ذلك التصوير على ذكائه في عقد مثل هذه المقارنة البليغة والمطابقة بينهما والذي يمثل شاعرية خصبة وبلاغة آسرة رسمها بنفس منفجرة وشعور صادق يبدأ رحلته من هناك (ايثاكا) .
وايثاكا هي الديار التي عاد اليها ملوك اليونان بعد حرب طروادة ماعدا أوديسوس البطل الذي اعتبره النبلاء في مملكته ميتاً وتزاحموا على طلب يد زوجته (بينلوبي ) التي أضحت رمزاً ومضرباً لأمثال في الحب والوفاء .
لكن اوديسوس لم يكن ميتاً كما توقع الملوك والنبلاء وانما هو أسير احتجزته حورية البحر في جزيرة (أوجيجا ) منذ سبع سنوات , وقد وقعت في حبه وعرضت عليه الخلود , حتى اذا أفلح في الابحار من تلك الجزيرة الى ايثاكا تنتقم عليه الالهة وتثير العواصف والانواء وتضيع السفن , وبعد أن اختلقت الزوجة الوفية (بينلوبي) الأعذار والحيل أمام خطّابها الذين سلبوا قصر وأملاك زوجها تخبرهم انها ستختار واحداً منهم حال انتهائها من حياكة الكفن لوالد زوجها العجوز .
وقد مرت سنون ثلاث وهي تحيك نهاراً وتنقض غزلها وتحل ما حاكته ليلاً حتى لمحت زوجها الذي عاد على صورة شحاذ متنكر , هناك تستطيع أن تتخلص من خطابها بحيلة أكبر وهي أنها ستتزوج من يشدّ وتره الى طرف قوس زوجها الذي لا يجيده سواه ويطلق سهماً يخترق اثنتي عشرة حلقة في مقابض الفؤوس وحين يفشل الخطّاب وينجح الشحاذ بالاختبار يقتلهم جميعاً ويعود الى زوجته الوفية بدموع الفرح .
وهذه الملحمة الأوديسة قد الهمت الكتاب والشعراء كثيراً بإبداعات جديدة , منها لا على سبيل الحصر رواية جيمس جويس (يوليسيس) وديدان (فجر الاوديسا ) للشاعر المصري محمد البرقي .
وبها يبدأ شاعرنا ( أجود مجبل ) بالترنم بمغامراتها بإسلوب جديد تملأ أزمنته ظناً وكآبة الذي يلون مشهد المبنى ومحبيه الذين مزقتهم الكلاب حتى أصبح معنىً هامشياً لجنة بلا مفتاح.
فصدق المطابقة هنا لا يثيرنا كما تثيرنا الصورة الشعرية الصادقة التي تفجر في نفوسنا تلك المشاعر الثرة والتي تبدأ رحلتها من ايثاكا .. من وجدان الشاعر والتي تخرج الى الوجود بما تجسّم فيها من أهواء ونزعات تختلج في الشعور الجمعي عند الانسان .
فقد تضمنت هذه القصيدة صوراً لمساءٍ عاصف كئيب تلبّدت به الغيوم وحامت في أطلاله سفن شواطئه الريح التي تحمل معها الهموم التي ترزح في النفوس , حينها لابد للنجوم في سماء ذلك المساء أن تكون حزينة لأن الموج سيكون قبراً جماعياً لذات الشاعر الذي يمثل شريحة أترابه من الشخوص والذوات الممتلئة بالنبوءات الضائعة وما نبي الله نوح عليه السلام الا شاهد لذلك الحزن , انها أدمع شاعرنا التي جرت بسبب ما أوغلت في أضلاعه طعنا .
اذ ان الحزن لا يكمن في نبوءات أزفت ولا في مُزُن أفلت بل يكمن في طفل الحياة آوى الى غير حضن أمه الأرض .. الأرض التي كان يمنّي النفس بالاعتصام بها وببساتينها التي تزهر حباً وتثمر أمناً في كل الفصول , حينها تتضح الرؤية لديه وينكشف الارتباط الشعوري لقلب عاشق لكل صور أرضه من قصائد حب لم تكتب بعد الى كتاب لما يكمل قراءته ,
الى اصدقائه النخيليين , ودفاتر الرسم التي لوّنتها الكآبة , الى غير تلكم الصور التي استحكمت فاستقرت بنجاح فني لا محدود تضمن كشفاً وجدانياً جديداً لدى شاعرنا , حتى اذا تحقق ذلك الكشف فانه يرتفع بالشعر الى مستوى رفيع من الجلال والنبل
ومهما يكن من شيء فان احساسنا الخالص في موسيقاه هي أشد وقعاً حيث القافية الرقيقة هي نقطة الارتكاز الموسيقية لديه , بحيث أننا لا لا نستطيع أن نغفل عن هذا البناء الرصين في نقاط ارتكازه التي تعوض عن كل شيء .
ففي قصيدته (السومريون) تكون قافية النون الساكنة هي نقطة الارتكاز مرتبطة بجماليات الصور من حيث القوة والأهمية والخطورة ما يجعلها نقطة أقوى وأوقع معنى .
وفي هذه القصيدة نجد أن الأجود يقرر ماهية صوره الشعرية من خلال الحقائق التي ضمنت قصيدته , فهو لم يكن ليفتت المعنى الواقع لكي يفقدها تماسكها البنائي حتى أصبحت صوره المكانية والزمانية مكتملة التكوين أمام الاذن السامعة الموافقة لمنطق التنسيق للشعور بالاشياء .
(في ليلة مع زقوراتهم ولدوا ) والتي لا تقف عند حدودها الرؤية الشعرية وانما تتجاوزها الى الوجدان والافكار .
وهكذا فان السومري هو صاحب الأقداح المعلاة وهو الزمن كل الزمن ولا عجب ان يعتزله اصحاب الفكر الأجوف ولا غرابة ان يتمسك هذا السومري بالانفراد مع قصبه المهدور ومواويله التي فاحت كالعطر
انه لا يعلل خسة الانسان وفساده بالفطرة ولا ينسب الشر الى الطبع بل الى الانظمة الجائرة التي يفقد بها الانسان كل أمل ورجاء , حتى اذا حانت لحظة اليأس انتفض الأخيار والأبطال الذين يؤمنون بأن التاريخ لا يولد الّا بأصوات تدوس كل ظلم وطغيان ، فترتفع من الجمع الحاشد امام الادغال غمغمة قوية وتجيش بالحركة ولايمكن لاحد ان يكبح جماح غنائهم وهم الذين احتفظوا بظلهم واستضاؤوا بعاصفة مدوية من الموال والهتاف لا لشيء الا لانهم قد انشقت حناجرهم من غدوقهم الصوفي الذي يكرهونه ، ويزعجهم بشكل كبير تلك الفرصة التي تمنح للنهر ان ينام بين ضفتيه هلال يلوح من نوافذ احلامهم التي تحييهم والتي طالما انتظروا مرورها تحت اشعة شمس الصيف المحرقة عسى ان يحيوا نصيبهم من المجد الفاتح المنتصر فترتفع اصواتهم الخشنة يحدوهم نشيدهم الوطني الذي يحطم الاغلال وياخذهم الى الموت الذي لايهابونه لانهم ولدوا
من رحمه .
انه يعيش زمن الظل المؤكد والموال المضيء , انه يرى ذلك وحياً لعصره ومقتضى زمانه , فالمغنون هم وحدهم من رددوا الالحان الرزينة والمعزوفات السويّة , فقد سخروها لينام الهلال بين ضفتي ذلك النهر دون أن يأبهو للانذارات الشريرة والتحذيرات المستمرة التي لا يرون فيها الا غلوّاً واستهتاراً بالروح النضالية والنفسية التي تدور رحاها في خيالهم اتقاء ثورتهم وتمردهم على ظلم الظالمين .
فهو يقول في قصيدته ( وطن بالألوان المائية ) :-
من لحظة اليأس العظيمة
يولد الثوار مبتسمين والأبطالُ
ستدوسكم أصواتهم
وستختفون عن البلاد
كما اختفت أدغال
وحين يشتد الالم والغيظ على حد سواء ولا يجد (أجودنا) لواقعه الفاسد علاجاً فانه ينشد تحطيم كل سلاسل و أغلال الانحطاط الفكري والاجتماعي , فهو ينتقد الحكام الجائرين ويندد بالظلم والتحكم ويحمل عليهم حملة شعواء فهو يلوم الناس على تقديس الاشياء .
وهو بذلك قد أدرك غاية أبعد مما كتبه فلا يستولي عليه الاشمئزاز واليأس فهو مازال يعيش في حدود ذاكرته وعشيقته في السر والعلن وما هي سوى بغداد التي يتحسس آلامها ويتطلع اليها أن تكون قوية ومتحررة من العبودية التي رزحت طويلاً تحت نيرها الثقيل وعانت ما عانت من الحروب وهزتها الكوارث والخسائر والآلام هزّاً عنيفاً
ان عملية الابداع الشعريتمثل اقوى ما تتمثل في ابداع اللغة والصورة , والشاعر هو الذي يصنع لغته وصورته , ولشاعرنا لغته الخاصة وصوره المتعددة وهي وسيلة تواصل ناجحة بينه وبين قرائه , فأي تعبير مغنٍ هو أداة توصيل من ابداعه الى متذوقيه فهو يستخدم تلك اللغة التي يعيشها القارئ في حياته الاجتماعية بطاقة تعبيرية مصفاة ومكثفة .
فالوقت والارصفة والوعاظ والبوق والطبل الى غير ذلك من المسميات في قصيدته انما هي فكرة نبض تنضوي تحتها حقيقة استعاراتٍ خاطب بها شاعرنا قرّاءهُ وهذا ما يسمى بسرّ الشعر .
فسرُّ ( أجودنا) في نجاح قصائده أنها المفتاح لأحساس نابض تربى عليه الشاعر بذوق لاءم نبض الحياة الراهنة وباسلوب يشعر بها القارىء على أنها ليست مجرد لفظ له دلالة أو معنى وانما صارت تجسيماً حياً لوجوده حتى اذا اتحدّت اللغة والوجود في منظور شاعرنا صار هذا الاتحاد ضرورة لا بديل له , تلك الضرورة التي يقررها شاعرنا لنفسه والتي من شأنها أن تجعل لكل جزء فيه حياة جديدة وتجربة خاصة .
ان شاعرنا كمن يحتفظ في خزائنه المعجم اللغوي ويستخرج منها ليضعها على افكاره دون أن تكون منفصلة عن وجوده , وليمنحها وظيفتها الحقيقية من حكمة خالية من الالفاظ المحشوة .
فدور الكلمة في شعر أجود مجبل هو التلاحم ما بينها وبين التجربة الحية له ما يجعلها كياناً متفرداً عن كل ما عداه :-
ليسألوا الطين
عن أسرار هيبته
وينفقوا شمسهم
في كل ظلماء
البحر طفل يتيمٌ
ضاع من يدهم
لم ينتسب حزنه يوماً بآباءِ
فالطين وأسرار هيبته والشمس الماحقة للظلام وطفل يتيم ضاع وسط البحر , وزهرتين يحاول بهما اقناع رمله لينمو فيه حقل حنّاء , كل ذلك هو ما تنطق الحياة الواقعية وهي ليست مجرد كلمات وصفية , وكأن هذه اللغة هي بكر تجتمع فيها أبعاد تجربته الواقعية وتتولد نتيجة البحث والتنقيب , فهي ليست لغة يتجاوز بها شاعرنا قشرة الوجود الى أعماقه , وان كل الكائنات الحية وغير الحية في الكون في منظور شاعرنا ليست الا حروفاً ينسج منها الوجود الكلي لغته .
وليس ذلك ببعيد حين نرى شخصيات شاعرنا الاسطورية والماضية قد ارتبطت بمعاناة الانسان المعاصر في شتى صور قصائده
ويتمثل هذا الجانب بانتهاج شاعرنا منهج الاسطورة في التعبير عن موقفه الشعوري
وهو منهج تعبيري غلب على اسلوب كثير من قصائده التي تبلورت فيها رموز شاعرنا فأصبحت حية دائماً لأنها هي ذات الشاعر ومعاناته ومعاناة ابناء مجتمعه ووطنه , فما بين ندمان انصرفوا الى مغنٍ قد اغتيل الى قيثارة سرقت , ومفتاح جنة قد ضاع , وقرطبة بكت عليها قريش وعصفورين لم يجدا غصناً والماء قبر جماعي وخمر النبوءات الى غير ذلك انما هي مدلولات شعورية خاصة توحي بالمشاعر الإنسانية الحزينة والحالمة بنفس الوقت .