التطبيع القادم
الشرق الأوسط الجديد
هذه الأيام جميع الأعين مفتوحة والآذانُ منصتةٌ، تترقب بشِّدَّةٍ القادم الجديد إلى البيت الأبيض؛ لا ليس فقط القادم عبر صناديق الاِنْتِخابات الأمريكيِّة بل أيضًا القادم ليوقِّع على صفقة تطبيع جديدة مع إسرائيل؛ ففي سباق الماراثون التطبيعي تقف الدول العربية في صفٍ ممتدٍ لينالها ميدالية في أيِّ دورٍ جديد؛ أو كما يحب أَنْ يسميه البعض (الشرق الأوسط الجديد) والذي هو بالمناسبة كتاب يحمل نفس الاسم يعود مؤلفه إلى رئيس إسرائيل السابق شمعون بيريز والذي يمكن اِخْتِصاره تمامًا في سطرٍ واحد والذي قاله هو أيضًا “لقد جرب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجربوا قيادة إسرائيل إذن.”
رحيل الأمريكان
وكالماراثون الحقيقي فمن يأتي أخيرًا لا فائدة له، فلا أحد يدفع لك لتكون الأخير ولا أحد يدفع مقابل شيء يمكنه الحصول عليه مجانًا؛ فمن لا يدفع مقابل غسيل ملابسه الخاصة به فبالتأكيد لن يدفع شيئًا في صفقةٍ للتطبيع مع القادم الأخير مادًا يده لمصافحته. فبعد فشلِ الولايات المتحدة الأمريكيِّة في التعامل مع ملفات الشرق الوسط وإغلاقها إلى الأبد بنصرٍ كاسح؛ كحربها الطويلة في أفغانستان وحاجتها الملِّحة في عودتها المتكرِّرة إلى اِجْتِياحِ أراضي العراق الَّتي لم تغادرها أصلًا تارةً ضِدَّ نظام البعث بقيادة الرئيس العراقي السابق صدام حسين وتارةً أخرى ضِدَّ جحافل قوات داعش الملقطة من كُلِّ بقاعِ الأرض؛ فبسبب كُلِّ ذلك تملَّكتها رغبة عارمة وقناعة شديدة في وجوب مغادرة المنطقة وهذا ما يبدو ظاهرًا في تصريحات الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب والَّتي لا تخفي ما كان يدور في أروقة القرار الأمريكي مُنْذُ سنوات؛ وذلك للتفرغ التام لمواجهة التنين الصيني القادم من الشرق الأقصى والذي يحاول زحزحة الولايات المتحدة الأمريكيِّة من عرشها على قيادة العالم في حربٍ باردةٍ جديدة والَّتي يتمنى الجميع أَنْ تَظَلَّ باردة؛ لذا تنوي الولايات المتحدة الأمريكيِّة ترك الشرق الأوسط في سلامٍ تحت قيادة إسرائيليِّة، متحدة، مطلقة؛ نظرًا لتفوقها العسكريّ بسبب دعم الغرب لها فتلعب دور الشرطي وتنوب هي في تنفيذ الأجندة والمصالح الأمريكيِّة في المنطقة.
السلام مقابل السلام
ولتحقيق هذا الهدف تتبع أمريكا منهج هو في الحقيقة لا يخفى على أبسط متابع لقنوات الأخبار؛ وهو ما يدور في الخفاء (التطبيع). وبتتبع بسيط يمكنك معرفة أَنَّ الحديث والمفاوضات السريِّة تتحدث عن السودان كالدولة القادمة في سلسلة عربية ممتدة للتطبيع؛ وذلك برعاية إماراتيِّة والَّتي تلعب الآن دور الوسيط أو السمسار الذي يجلب لإسرائيل ما تريده منتزعة بذلك دور مصر وتاركةً لمجدها القديم مع إسرائيل أَنْ يَتَقَزَّم فتضعها بكلِّ هدوء جانبًا؛ لكن لماذا السودان بالتحديد؟! لماذا هذه الرحلات المكوكيِّة لرئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان؟ وكُلُّ هذه الضغوطات على البلد المنهك من الحروب أصلًا؟ ببساطة لأَنَّ السودان بلد الــلاءات الثالث وبتحطيمها أيّ اللاءات تنتهي وإلى الأبد قاعدة تفاوض العرب وهي الأرض مقابل السلام ويصبح الحديث حينها عن السلام مقابل السلام. كما أَنَّ السودان كانت من الدول التي تساهم في دعم حركة حماس بالصواريخ القادمة من إيران؛ لذا فالنصرُ في التطبيع مع السودان يثلج قلب إسرائيل ويغلق بابًا إلى الأبد، نصرٌ سوف يضمن بقاء نتنياهو كرئيس وزراء لفترة جديدة واِنْتِخابات سلسة لترامب والفوز الذي يحلم به طويلًا. ليترك المملكة العربية السعوديِّة وحيدة والَّتي هي أيضًا قادمة لا محالة بمجرد تولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لمقاليد الحكم.
ماذا يستفيد السودان؟
لكن ما الذي قد يستفيد منه السودان بعلاقة تطبيع؟ في الحقيقة كُلَّ شيء لكن لا شيء؛ فأمريكا تضع رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعيِّة للإرهاب والذي يلهث السودان خلفه مُنْذُ البداية كمقابل للتطبيع مع إسرائيل؛ والسودان يطمح بجائزةٍ فوق الرفع برفعٍ من نوعٍ آخر؛ رفع اِقْتِصادي عبر مجموعة حزم ودفعات مالية في صورة مساعدات، منح، وقروض دوليِّة مُيَسرة؛ والَّتي تتعهد الإمارات بجزءٍ كبير منها؛ والَّتي يعتقد جميع وخصوصًا المواطنين المؤيدين للتطبيع اِنْفِراجه كبرى تحطم الأزمة الاِقْتِصاديِّة الخانقة الراهنة وتقتلعها من جذورها وتزحزح ترتيب السودان قليلًا في قائمة الدولة الفقيرة وتدعم اِسْتِمرار اِسْكَات أصوات البنادق وتوقف أنين رحى الحرب فيها. وذلك الذي لن يحدث مطلقًا لأَنَّ المشكلة في السودان من الأساس ليس في قلَّة الموارد أو العقوبات المفروضة عليه مُنْذُ التسعينات؛ المشكلة الحقيقية هي في سوء إدارة وفساد الممسكين بخناق الدولة من بداية قمة الهرم الإداري إلى أسفله.
إسرائيل وأفريقيا
لا يخفى على أحد دور إسرائيل مُنْذُ قيامها ورغبتها العميقة في التمدُّدِ داخل أدغال أفريقيا، بداية من دعمها للكونغو وبعض الدول الأفريقيِّة بأجهزة تنصت حديثة والَّتي يمكنها حتى عدُّ الأنفاس الخارجة والداخلة، مرورًا بدعمها أثيوبيا في بناءِ سدِّ النهضة ومدَّها بصواريخ للدفاع الجوي؛ وصولًا إلى السودان الآن الذي لن يكون الأخير لكن نقطة في مسارٍ أوسع، فالتطبيع السوداني مع إسرائيل قادم لا محالة مُنْذُ الطائرة الإسرائيليِّة الأولى الَّتي عبرت أجواءه وحقيبة النقود المزعومة أَنَّها جاءت في طائرة برهان العائدة من الإمارات والمخصَّصة في الغالب لشراء وحشد الدعم اللازم للتطبيع؛ كلُّ ذلك سوف يخرج منه الشعب السوداني كما دخله أول مرَّة، فقط مُلِئْت جيوب من هم في السلطة وضمن العسكر حصانة واِعْتِراف مسبق باِنْقِلابهم إذا أتموه مستقبلًا؛ كما حدث من قبل حين تعاون الموساد الإسرائيلي مع نظام الرئيس السوداني السابق جعفر النميري فيما يعرف بترحيل اليهود الفلاشا منتصف ثمانينيات القرن الماضي في عملية تمويه ضخمة قام بها الموساد تحت مرى ومسمع أجهزة المخابرات السودانيِّة حينها.
التطبيع القادم
لكن المفاجئة الَّتي لن يتوقعها أحد هي أَنْ تسبق دولة ما السودان في التطبيع؛ فهل سوف يكون السودان هو القادم أَمْ تسبقه لبنان إلى ذلك؟ في مفاوضاتٍ قد تبدأ بغرض ترسيم الحدود البحريِّة وتنتهي إلى اِتفاق سلام شامل وتطبيع كامل الذي لم يبدي حزب الله اللبناني أيَّ ممانعة له. وربما في المستقبل قد نرى قوات سودانيِّة تصطف جنبًا إلى جنب مع قوات إسرائيليِّة سواء في تمارين ومناورات مشتركة لنسخة حلف ناتو شرق أوسطية أو حتى حربٍ محتملة.