الخرطوم 56
“الخرطوم 56 ” التي صدرت حديثاً عن دار المصورات، هي الرواية الثانية للكاتب عبد الماجد عليش ، بعد روايته الأولى ، “سوداني في القاهرة ” ، التي صدرت ، طبعتها الأولي، من دار الثقافة الجديدة ، عام 2016 ، ، مايعني أن الكاتب، يستند إلى تجربة وخبرة في الكتابة الروائية ، بما يحفزه لأن يطرح، على بساط التساؤل مسألة الشكل الروائي ، كموضوع للإبداع بحد ذاته ، وهو ينحو موغلاً نحو التجريب، والابتداع في التكنيك ، فالرواية ما هي غير مستودع للتكنيك .
صدور الروايتين ، المشار إليهما ، سبقه صدور مجموعتين قصصيتين، للكاتب أيضاً، هما “حسن روكسي” ، عن دار عزة 2002 ، و”المجالس” ،عن الشركة العالمية للطباعة والنشر عام 2007، وهو ما يعزز فرضية أن عليش يتوفر على رصيد معقول من الخبرة ،يحفزه للتطلع لآفاق جديدة لتجربته أو مغامرته الإبداعية في السرد .
“الخرطوم 56″، التي يَسِمها بالرواية ، هي مجموعة قصص داخل رواية ،أو رواية مركبة من عديد من النصوص، ومنها قصص، تم انتخابها بعناية ، لتغطي مرحلة كاملة من التطور في كتابة القصة في السودان، ، ومن التطور التاريخي الموازي لها بالواقع المعيش ، بما يجعلها انعكاساً لذلك التطور والتقدم الحياتي . وتتوازى تلك القصص، التي تعود لعدد من الكتاب ، يمثلون مراحل مختلفة من تطور فن القصة في البلاد ، مع نصوص أخرى ، تتكون من القصص- ذاتها – محكية مرة ثانية، إذ يتورط الكاتب- البطل ، بإعادة قراءتها، ومن ثم إعادة كتابتها، برؤية أكثر معاصرة أو راهنية ، لتعكس أو تجسد ، جانباً مما يراه “الباحث – البطل”، مؤامرة لإعادة كتابة التاريخ، شكلاً من أشكال الجيل الجديد من الحروب، وتجلياته ، وهي حرب تتم في أكثر من صعيد ، ومن قبل أكثر من جهة .ثمة أكثر من مستوى للقص في ” الخرطوم 56″ ، الرواية، غير التقليدية ، المركبة من عديد النصوص، بما في ذلك الهوامش والحواشي ، كما أن ثمة أكثر من صوت ، بجانب الراوى الأساسي .فالرواية الرئيسية ،تتخللها القصص، التي يتورط البطل – الباحث ، في اعادة كتابتها، إلى جانب نسخها الأصلية ،محتشدة بالراهن وتفصيلاته ،ترافقها الحواشي والهوامش والقصاصات الصحفية ، والتي تنحو لمحو الفاصلة المتوهمة بين الماضي والحاضر، والمتخيل والمعيش ، وتتضامن جميعها، بمستوياتها المتعددة ، في القص ، في نسج بناء الرواية ،بقدر لا يخلو من التعقيد .
في ” سوداني في القاهرة ” ، كما في “الخرطوم 56″ ، يتجلى، هنا وهناك، البطل نفسه ، الباحث القلق المشحون بالهواجس والقلق : ” وفي الشقة ، وجدت كل ما توقعته : في كل ركن تركوا لي إشارة ” . كما يعتمل فيهما ، أيضاً، الصراع نفسه ، الذي ينخرط فيه الباحث – البطل مع القوى الخفية. وهو صراع ينتمي إلى جيل جديد من الحروب، الجيل الرابع: ” الجيل الرابع، يتضمن خلق مزاج جنسي يقود إلى أن تدمر الشعوب ذاتها، بأفعالها ، وبدون أن تعي ، وبدون وعي للتناقض والحرمان الذي يشكلها…” ، وتشمل “السيطرة على المزاج الجنسي” ، موضوع بحث البطل ،ومحور صراعه، في الوقت ذاته ، مع تلك القوى ، في ” سوداني في القاهرة “، إلى أن يلقى مصيره الغامض ، مثلما تشمل “السيطرة على النظام الذهني للمستهدف” ، في سياق “إعادة كتابة التاريخ ” ، بما في ذلك التاريخ الأدبي ، عبر أبرز علاماته السردية ، في ” الخرطوم 56″، بدء من معاوية نور ، “أول من كتب قصة مكتملة الأركان من ناحية فنية” ، وملكة الدار محمد والزبير علي وغيرهم ، مروراً بخوجلي شكرا لله وعثمان على نور وعيسى الحلو وعلي المك وغيرهم، وانتهاء ببشرى الفاضل والفاتح ميكا وبثينة خضر مكي…
في الرواية الأولى، ” سوداني في القاهرة ” ، تتكون أولى ملامح وجينات التكنيك أو البنية الروائية المعقدة للثانية، ” الخرطوم 56″ .حيث يتوازى التقرير مع السرد ، وصوت الراوي مع صوت المؤلف ، واللغة التقريرية مع اللغة الحكائية، ذات الجمل القصيرة، والإيقاع المتوتر ، والتي تفتقر أحياناً للشاعرية ، ويلقى البطل ، في نهايتها ،المصير ، نفسه .
في “الخرطوم 56″، تتوازى القصة الأصلية مع نسختها الجديدة، التي يتم تخليقها، وفق فرضية إعادة كتابة التاريخ ، كبعض من أشكاله وتجلياته .
فالبطل ، الباحث ، الذي يوشك على اكتشاف مؤامرة متعددة الأطراف لإعادة كتابة التاريخ ، يعثر على فلاش ، يحتوى على ملفات تهم القوى الخفية الضالعة في تلك المؤامرة. ولأن “الملفات” التي يحويها الفلاش ، والتي حاول معرفتها، هي سبب ازعاجهم”، وهي محدد مصيره ، ايضاً ، في الختام . فيصبح عرضة للمطاردة والملاحقة من قبل تلك القوى . فيهرب . لكن ليس ثمة مهرب . إذ يتحتم عليه ، كما قال له المشرف ، أن يدفع الثمن . ثمن معرفة قضايا ، تضمنها الفلاش ، ما كان يحق له أن يعرفها، “ولو بالصدفة .”