الخطاب التكفيري.. ظاهرة العشرية الأخيرة أم نبش في التراث الديني

عشر سنوات مضت على الثورة التونسية فكان حصادها تفاقم ما قامت عليه من فقر و بطالة و خصاصة و أما شعار الثورة “شغل حرية كرامة وطنية” فقد كان حبيس فترة” 17 -14 “في حين طغى الصراع الهووي و الديني تحت عنوان الأصل التجاري للدين و الملكية التأويلية لنصوصه المالكة للحقيقة و أن من لا يؤمن بها لا يؤمن بالله و لا الرسول و لا الدين بل تعدوا ذلك إلى قاعدة وهابية يقول صاحبها “من لم يكفر الكافر فهو كافر ” وهو تمهيد للتكفير المطلق و العام للمجتمع بإستثناء من دخل بيت طاعة تلك الجماعة “المؤمنة ” .

اليوم ما نراه في مجلس نواب الشعب من تكفير و إرهاب وعنف من كتلة إئتلاف الكرامة جعلنا نتساءل هل أن الخطاب الديني هو مجرد رافد من روافد العشرية الأخيرة التي غزت المجتمع التونسي من أفكار غريبة و متعصبة دينيا حيث تبناها شبابنا بإيعاز من الإخوان المسلمين و شيوخ الوهابية الذين إتخذوا من تونس بعد الثورة قبلة لهم أم أن العقل العربي له تراث ديني قوامه القتل و العنف و الإرهاب ؟

وهو ما جعلنا ندرس العشرية دراسة عقلانية موضوعية بحيث أن تلك الحقبة هي إستكمال لصيرورة تاريخية و عقل عربي ديني شكله و صاغه جملة من رجال الدين و شيوخ متطنعين إختارتهم السلطة الحاكمة عبر تعاقب الحقب الزمنية ليؤسسوا بذلك مذاهب سياسية مغلفة بغطاء ديني حتى يضفوا على أفعالهم ضربا من القداسة ، و ما حركة الإخوان المسلمين المتمثلة في حركة النهصة و مشتقاتها و ما فرخته من جماعات و مذاهب إلا ضربا من ضروب إستكمال صيرورة الحركات السياسية المغطاة بالدين .

لعل ظاهرة السلفية التي طفت على المشهد الإجتماعي التونسي التي كان خطابها مبنيا على العنف و الإرهاب و تقسيم المجتمع على أساس عقدي بثنائية الايمان و الكفر إلا تمهيدا لقيام دولتهم الطوباوية التي لا حدود لها و لا أصل الا في أذهانهم و عقولهم التي كونها و ركبها شيوخ و رجال دين جاءت بهم حركة النهضة لتدمر المجتمع التونسي و تمهد للإحتراب الإجتماعي الخادم الأصلي لبناء الفوضى الخلاقة و انتفاء الدولة الوطنية حتى تقوم لهم دولة الخلافة التابعة و المستكملة لحلم و مشروع الإمبراطورية العثمانية و ما تعويم العقل العربي و جعله يدور في فلك الدوغمائية الدينية إلا خير شاهد على ذلك.

وقد تمثل أساسا في إستقبال راشد الغنوشي في مشهد أعاد إلى أذهاننا مشهد إستقبال الخميني في إيران حيث لم يشارك كلاهما في الثورة و لم يكونوا بين صفوف الثوار ، و إنما إستقبلا بأناشيد دينية و هتافات دينية إستلهمت أطوارها من قدوم الرسول العربي من مكة مهاجرا للمدينة وهو ما يندرج ضمن التأثير على العقل و استنطاق الوجدان بتعلة أن الإسلام الحل و لابد من القضاء على العلمانية الكفرية ..

إن ظاهرة السلفية الدينية المركبة و المتعددة على حد تعبير محمد عابد الجابري أننا اليوم أمام سلفيات لا سلفية واحدة سلفية إخوانية تعود لعشرينات القرن المنصرم و أخرى سلفية وهابية و سلفية مدخلية و غيرهم و ما خطابهم الغير مهيكل لا من ناحية التركيب الشكلي و لا البعد المضموني كما سنعرج عليه لاحقا إلا إستكمال لحقبة السقيفة ، سقيفة بني ساعدة التي تجلت فيها عقلية القبيلة و الإنتهازية و التفرد بالحكم و ما الصراع الذي حصل بين الصحابة عمن يتولى الحكم إلا ضربا من ضروب البحث و الطلب عم الحكم السياسي و ما اختلاف الانصار و المهاجرين عن الحكم بمنطق أن محمدا منا كما قال المهاجرون و نحن من نصرناه و نحن أشراف المدينة كما قال الأنصار إلا تجل واضح للعقل القبلي الذي لم ينجح الإسلام في القضاء عليه تحت عنوان “أمة و احدة و أنا ربكم فإعبدون ”

حيث غضب علي و لم يبايع و توفت فاطمة بنت محمد بغصتها و حزنها لأن الحكم لم يكن بيد آل البيت ليتوارثوه و ما حرب الردة إلا نوع من إضفاء قدسية دينية على من لم يبايع و في أصلها أيصا حربا إقتصادية بحيث لم يحاربهم أبو بكر بمنطق ديني و إنما بمنطق الغنيمة و الإقتصاد و من هنا بدأ الصراغات و القتل و التكفير على أساس سياسي و فكري.

و ما قتل عمر بن الخطاب إلا دليلا على الصراع السياسي و الهووي بين الصحابة ذاتهم حب السلطة و الانتفام الحضاري من عمر الذي هدم بلاد فارس و ما قتل عثمان بعد توليته أهله و ذويه الا تبيان على العقل القبلي و الصراع السياسي و قتل علي و الحسين و الحسن و الانقلابات في الدولة الاموية و العباسية و العثمانية إلا كانت لأسباب سياسية بحتة قد أضفي عليها ضرب من القداسة الدينية و المذهبية حيث ظهرت السنة و الشيعة و الخوارج و المرجئة و غيرهم من تلك الفرق السياسادينية.

بل لم يسلم المفكرين و الفلاسفة والمتصوفين من هذا الفكر الإرهابي الديني فقلي للحلاج و كفر الفارابي و بن سينا و الرازي و بن الهيثم و أبو نواس و زندق المعري و التوحيدي و قذف الجاحظ و و المتنبي و عباس بن فرناس و بشار بن برد بالإلحاد من قبل تلاميذ بن تيمية و بن عبد الوهاب بل ولازال ذلك متواصلا الى اليوم حيث كفر طه حسين و نجيب محفوظ و فرج فودة و محمد عابد الجابري و هشام جعيط و يوسف الصديق و سليم دولة و كل من دعا إلى إعمال العقل في قراءة التراث العربي و الديني .

و إستكمالا لعقيدة السلف ممن خلف ظهرت في غشرينات القرن المنصرم جماعة الإخوان المسلمين التي طرحت نفسها كبديل سياسي مسجى بغطاء ديني على يد حسن البنا في مدينة الاسماعيلية حيث كان تتلقى من الشركات الإنجليزية التابعة للمخابرات دعما ماديا

حيث قامت على تكفير المجتمع و خلق آخر موازي له كما نص على ذلك سيد قطب أحد منظرهم فقال في ظلال القرآن ” إنه لا يوجد اليوم دولة مسلمة ز لا مجتمع مسلم ” و قال أيضا “إن أكفر الناس هم الذين يرددون لا اله الا الله على المآذن دون أن يعلموا مدلولها ” و مدلولها عندهك هو الحاكمية أي لابد لهذه الجماعة أن تحكم بأي طريقة كانت و قد إستلهموا من التراث الديني الإغتيالات على غرار إغتيال النقراشي باشا و أحمد ماهر و الخزندار و محاولتهم تفجير المحكمة المصرية أو بما يعرف بأحداث سيارة “الجيب” و محاولة اغتيال جمال عبد الناصر و أحداث المنشية التي أرادو تفجير السكة الحديدية بأبرياء لا ذنب لهم.

و ما أحداث باب سويقة و تورط حركة النهضة فيها و أحداث الماء فرق و أحداث سليمان الا استكمالا لطريقة الحكم الدموية
ما إغتيال الشهيدين شكري بلعيد و محمد البراهمي الا إستكمالا لصيرورة إرهابية تاريخية سبق فعلها دعاوي سلفية بجرجيس تقول “إن كان شكري بلعيد رجلا فليأني لجرجيس و سنحاسبكم برأسه ” و دعاوي التحريض النابعة من الحبيب اللوز و غيره و الاعتداء على الفنانين و المسرحيين و منع العروض الفنية هو ضرب من الأمر بالمعروف و دحر المحرم في أذهانهم و إستبدالها بالخيمات الدعوية و الشيوخ التكفيريين على غرار شيخ الناتو القرضاوي و محمد حسان و وجدي غنيم الذين دمغجوا شبابنا على الجهاد في سوريا و الانخراط في مؤامرة كونية ضد الشعب السوري المسكين و وعدوهم بالجنة و الحور العين حتى كان النائب اليوم محمد العفاس يدعوا في أحد مساجد صفاقس يوم كان إماما للجهاد في سوريا و أن الشهيد مكانه الجنة و له الحور العين و أيضا ما حمل سيف الدين مخلوف السلاح في ليبيا الا نتيجة تقابل راشد الغنوشي مع السلفيين و الإرهابيين و وعده اياهم بالتمكين حالما تمكن من الشرطة و الجيش لأنهم بيد “العلمانيين ” و ما قوله أن الشباب السلفي في الجبال التونسية يذكره في شبابه الا دعوة غير مباشرة لالتحقاق الشباب بالجبال و حمل السلاح ضد الأمن و الجيش الذين هما بيد ” العلماننين”

إن الخطاب الديني المتعصب اليوم ليس ظاهرة عشرية و إنما هو نبش في تراث ديني و قراءة إنتقائية تكون خادمة سياسيا لجماعة ما

لعل الباحث في العقل العربي الديني سيرى أنه محكوم بثنائية في ميكانيزمات إشتغاله إما بالإستنساخية الحرفية أو بما يعرف بالآكسيومية و صورية المنهج خاصة مع وقوف العالم على القرن الواحد و العشرين و أمام تقدم الكون حضاريا و تكنولوجيا و إقتصاديا و جغراسياسيا راسما ملامح خارطة عالمية جديدة برزت فيها دول و غابت أخرى تجلت فيها إقليمية لم تكن و إضمحلت دول ذات حضارات ضارب أطنابها في عمق التاريخ مؤكدة بذلك نظرية تطور التاريخ و تغير المجتمع وثبات اللاثبات في قوانين الكون و التاريخ و الانسان و الطبيعة

إزاء كل هذه التطورات بقي العقل العربي محصورا في قوالب سلفية رسمت له منذ صدر الإسلام الأول حتى تحولت إلى قوالب محرمة لا يجوز الغوص فيها أو حتى تناولها البينذاتي و التفكير فيها ، وهذه القوالب تحولت إلى الثالوث المحرم أولها الدين و ثانيها السياسة المرتبطة بولي الأمر و ثالهما المتمم للثالوث وهو الجنس و المرأة .

لعل كل المتممات الثالوثية قد تغير بتطور التاريخ و قوته في فرض تغيير المجتمع فإنعكس على المرأة في تطور و تطوير وضعها و حقوقها و انجلى في السياسة في تغيير النظم و القوانين فظهرت أشكال و تعددت ضروب لأشكال النظم الوطنية و القومية و العالمية

و لكن بقي الدين الشيئ الوحيد الذي لم تتغير قراءته ولم تتطور لتكون مسايرة للتطور التاريخي ، وهذا ليس فيه عيب للتاريخ و لا تغير المجتمع بل في العقل العربي الذي أبى إلا أن يكون سلفيا في إستنساخه للقراءات السابقة متبعا لأقوال خلت و خلى أهلها و إتباع إقرارات أقرت على ما لايقل عن أربعة عشرة قرنا .

إذل ما قلنا الدين فحتما لا نتكلم عن جملة الإعتقادات اللاهوتية بل نتكلم بالأساس عن الخطاب الديني ، وكما يقول الفلاسفة و عرف المناطقة الأوائل الخطاب كونه مقروء القارئ و مقول القول وهو ذلك البناء نفسه حتى صار موضوعا لعملية إعادة بناء للنص المقول و المقروء ،

أقول بصراحة إن الخطاب الديني الإسلامي اليوم هو يشتغل وفق ثنائية جدلية وهي الإستنساخ و الآكسيومية و سنبتدأ بتحليل إستنساخية الفعل و القول و الإقرار

لعل خلط العقل العربي اليوم لمفهومين أساسيين و جعل الأول هو المعبر بالضرورة عن الثاني وهما الدين و القراءةالدينية
ولعل الدافع الأساسي لظهور الإرهاب الإسلامي في العالم هو ذلك الترابط و التماهي بينهما في عقل العربي

ولعل الدافع الأساسي لظهور الإرهاب الإسلامي في العالم هو ذلك الترابط و التماهي بينهما في عقل العربي
فمثلا يعتبر الحنابلة قول شيخهم ومرجعهم صواب لا يحمل الخطأ و النجاة في الإحتذاء به حذو النعل بالنعل .

لأن الأخير إمام المسلمين و علم ديني ثم و الأهم كون الرسول العربي قد نسب له قول خير القرون قرني ثم الذين يليه ثم الذي يليه، و احمد بن حنبل من القرن الثاني اذن قد أضفيت عليه قدسية الخيرية الزمانية ، و أيضا القارئ في تاريخ الفرق و المذهاب سيعلم حتما كون أتباع أحمد بن حنبل أخرجوا مرجعهم في صورة البطل في مواجهة المأمون حيث إحتذوا فيها منهج دون كيشوت في رسم ملاحمه الوهمية من تعذيب و جلد و إيمان و شجاعة و صبر ، كلها جعلت منه مخولا بأن يكون مرجعا للأمة الاسلامية جمعاء و عقلها بعد تنصيبه في العقل الديني الجمعي بطلا ، الا ان بطولاته لم يرويها لا الطبري و بن كثير في كتبهم التأريخية حينها

بعد إضفاء هذه الهالة القدسية و الخيرية و رسم صورة البطل و امام ما يعيشه رجال الدين من تقبلات في الافتاء للحكام و تسيسهم.

نصب العقل العربي من السلف آلهةعقدية لابد من الإستنساخ منها للركوب في فلك النجاة ، فتجده يحللو يحرم حسب ما أفتى به السلف و ما كان عليه الرسول العربي الذي أمر كما شارك في ذلك السابقون في رسم و تشكيل العقل العربي الديني المحكوم بالإتباع لا الإبتداع و الإبداع .

لأن الإبداع هرطقة و الإتباع نجاة كما قيل “كل محدثة بدعة ” و غلظ في الوعيد و التوعد فقال “وكل ضلالة في النار ” و المؤسف أن هذه الهرطقات تروج اليوم في مساجد المسلمين و خطاباتهم التي تفتقد للمعرفة العلمية في منهجية الخطاب حيث يحث على الإستنساخ بالقرون الخالية و المؤسف قد تجلى ذلك في حقبة ظهور الهاتف الجوال لم يبحث العقل العربي عن كيفية إشتغاله ولا صنعه بل ذهب يستفتي هل حلال استعماله ام حرام و أخذوا ينبشون التراث هل جاء فيه حديث أو أثر حتى يفك طلامس و شفرة المولود المعقدة .

و المشكل أيضا أن العقل العربي الديني يقول الإستخلاف الأيجابي في الكون , فشتان بين خطاب تأسيسي للخلق و الإبداع و بين عمل رجعي ناتج عن سوء قراءة للفكر الديني .
فمع هذه التناقضات لا يبني العقل العربي خطابا تمحيصيا و عقلانيا لقراءةذاته و تفكيكها و اعادة تركيبه ذاته ابستمولوجيا و منهجيا و تقنيا فيكون بذلك عاجزا و إستنساخيا و هو يجبره بالضرورة الى الإلتجاء للآكسيومية كونها ملاذه الوحيد للتخفي وراءها ، وكما قيل بالمثال يتضح الحال ، إن الكتاب و السنة و الإجماع و القياس هو منهج استدلالي للعقل العربي في الافتاء و اتخاذ القرارات ،ولكن لو سألت أحدهم عن منهجية إستدلاله هل سيجيب ؟؟؟ و اذا بينت له تناقضا بين ابعاد منهجيته هل يقتنع ؟؟

جوابا عن السؤال الأول فإن العقل العربي الديني سيجم أمامه لأنه إستنسخه من سلفه و سيعجز عن تبيان الميكانيزم المتوخى ولسان حاله يقول المنهج آكسيومي ولا تمشي علمي له.

إن القارئ و الملاحظ سيعلم جيدا أن العقل العربي الديني بشقيه السلفي المحافظ أو الإصلاحي لم يخضع لتطور التاريخ و حركة المجتمع بل بقي حبيس زمن معين و سيكون عقل ديني متعصب وهو ليس المذنب فيه بدرجة كبيرة حيث أن المذنب الأول هو من شكل ذلك العقل و رسم ملامحه و جعل له خطوطا حمراء من تجاوزها كفر و زندق و كلنا يذكر القتل و التنكيل الذي لاقاه الحلاج و الفارابي و تكفير و تحريق كتب بن رشد و الغزالي و زندقة المعري و التوحيدي و الحاحظ و ملاحقة المتنبي و إتهام الكندي و بشار بن برد و ابو نواس بنشر الفاحشة ، و تكفير طه حسين و نجيب محفوظ و المسعدي و هشام جعيط و سليم و محمد عابد الجابري و كل من قرأ التراث بعقلانية و برود . و يبقى السؤال هل سيتطور العقل الديني العربي أم سينغلق و يتزمت على نفسه أكثر وفق التغيرات الجديدة للعالم ؟؟

بواسطة
صهيب المرزيقي - تونس
المصدر
مقال الرأي يُنشر في الجريدة ويعكس في الأساس رأي الكاتب حول الموضوع الذي كتبه ولا يعبر بالضرورة عن صوت المواطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق