الشعوذة في تونس.. ظاهرة اجتماعية أم سياسة دولة
أهل قرية القرين التي تبعد 260 كم عن تونس العاصمة ينادونه “العراف”. ليس لقبا عائليا لكن بالغون كبار يعتقدون أنه حقا “يعرف كل شيء”. اسمه الحقيقي (م.ط)(56 عاما) وهو العراف الوحيد في القرية. رجل سريع الخطى، يتكلم بسرعة تجعل من الصعب متابعة ما يقول. لديه دكان لبيع المواد الغذائية، وحين يجلس في ركن الدكان ينشغل بقراءة القرآن، وأحيانا يدون في ورقة آيات يمكن أن يستعين بها لاحقا لكتابة أحجبة يحملها زبائنه في جيوبهم لدرء الحسد وغيره من الشرور. مكانته لا تقف عند بيع المواد الغذائية ولا العرافة وإنما ترشح أيضا في الإنتخابات البلدية العام الماضي مستندا إلى ما له من شعبية وقبول لدى الأهالي.
ويقول العراف لكل من يلجأ إليه ويدفع له المال ليعرف له “المستقبل” أو يساعده على “تحسين مستقبله” أو حمايته من الجن أو حفظه من شرور الناس، إنه يحمل ترخيصا حكوميا. إعتذر العراف عن إجراء مقابلة معه لمعرفة تفاصيل هذا “الترخيص” لغاية إنتاج هذا التحقيق الصحفي، وقال “ما نحبش نقطع خبزتي”.
ويكشف التحقيق أن مشعوذين في تونس يستخرجون ورقة تعريف ضريبي تعرف باسم الباتيندا لممارسة أنشطة أو أعمال حرة لكن يستغلون هذا التعريف ليوهموا الناس أن لديهم ترخيصا بممارسة العرافة والسحر وسط غياب الرقابة من الضرائب، وعدم وجود نص قانوني يجرم الشعوذة.
هذا الوضع سمح للمشعوذين بالعمل بأريحية، في تونس الدولة المدنية، والتمسح بالدين لبيع وصفات وعلاجات وهمية للناس. وحسب دراسة للباحث التونسي في علم الاجتماع، زهير العزعوزي، نشرت عام 2016، يوجد في تونس مشعوذ واحد لكل 100 مواطن. ولا تمانع وسائل إعلام في نشر إعلانات تروج لنشاط مشعوذين.
(م.ط)العراف يتوسط مجموعة من سكان القرية في فترة ترشحه للإنتخابات البلدية في السادس من مايو 2018
في تونس مشعوذ لكل 100 مواطن.
لا توجد إحصاءات لعدد زبائن هؤلاء المشعوذين، لكن الأمر يصل إلى طوابير ممتدة تقف أحيانا على أبواب السحرة والمشعوذين في تونس، وقال العراف (ك.م)، في برنامج تلفزيوني عام ٢٠١٥ على قناة خاصة، “عندما أصل إلى مكتبي صباح كل أحد، أجد 300 شخص من كافة الفئات والشرائح العمرية بانتظاري”.
يوجد في تونس 145 ألف مشعوذ، حسب دراسة الباحث التونسي في علم الاجتماع، زهير العزعوزي، المنشورة عام 2016. الرقم يعني وجود مشعوذ واحد لكل 100 مواطن في البلد البالغ عدد سكانه 11 مليون نسمة. وفي المقابل، لا يتجاوز عدد الأطباء في تونس 80 ألفا بحسب نفس الدراسة.
يقول الباحث حسين العبدولي، مؤلف كتاب “السحر في تونس من أجل المال والسلطة والجنس” الصادر عام 2018 إن الشعوذة “تشترك مع السحر في بعض الجوانب، لكنها لا تحمل نفس دلالاته، فهي ضرب من ضروب التخيل والخداع والإيهام وادعاء البركة وتستند إلى عبقرية المشعوذ في إيهام الفرد بأنه يأتي أفعالا سحرية تشد الناظر، لكنها في الحقيقة ليست كذلك. فهي قدرة على المراوغة دون الاستناد إلى نفس وسائط السحر المذكور في كل الأديان السماوية ويعرف في اللغة بأنه صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره.
اللجوء للسحرة والمشعوذين “ظاهرة” في تونس
ويؤكد الباحث العبدولي أن نوعين يتكرران كثيرا في التحايل والشعوذة في تونس، هما توجه المواطنين الى العرافين معتقدين أنه بإمكانهم أن يوفروا لهم حياة زوجية مريحة، والمرتادون من هذا النوع هم خاصة من النساء والنوع الثاني من يعتقدون أن العرافين قادرون على كشف الكنوز لهم و استخراجها من باطن الأرض عبر ما يسمى شعبيا “بالعزامة” (ومعنى يعزم أي يقرأ بعض آيات الشعوذة على مكان يُعتَقَدُ أنه به كنز مدفون تحت الأرض وأن تلك الآيات كفيلة باستخراجه باستخدام الأرواح الخفية الجن)، ويقدم المواطنون الملتجؤون للعرافين لاستخراج الكنوز، أموالا طائلة، لأنهم يعتقدون أن هذه الأموال ستعود عليهم بعد استخراج الكنوز.
وصلت عدة قضايا وصلت للمحاكم نتيجة الشعوذة، وتم الحكم فيها، منها قضية بمبلغ مالي يقرب من 10 آلاف دولار، وهي شكاية تقدمت بها المواطنة التونسية (ي.م) إلى مصالح وكالة الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس ضمنت تحت عدد 7039259/2016 بتاريخ 5 سبتمبر 2016، والتي وجهت لمصالح الإدارة الفرعية للقضايا الإجرامية للبحث، وحرر المحضر عدد 1657 بهذا التاريخ والذي بختمه أرجع لمصالح وكالة الجمهورية بتونس وضمن تحت عدد 18079 / 4 تلبس.
ترددت السيدة (ي) منذ عام 2000 على عرافات نظرا لعدم قدرتها على الإنجاب، ثم أنجبت عام 2004 وبقيت فريسة للعرافات، وخلال عشر سنوات (بين 2005–2015) دفعت ي لعرافة سمت نفسها الحاجة (ي) حوالي25 ألف دينار تونسي (9 آلاف دولار) في مناسبات متعددة، لتكتشف لاحقا عبر صديقة لها، أن الحاجة شخصية وهمية وأن سيدة تدعى(ح )”تنصب” عليها بادعاء أنها عرافة، وقد اعترفت العرافة لاحقا أنها احتالت على (ي) للحصول على المبالغ المالية.
حوكم أفراد القضية في مابعد بالسجن سنوات متفرقة باعتماد قانون التحايل.
الرخصة: أنشطة أخرى للترفيه، والعمل الفعلي: الشعوذة
لدى استخراج ورقة “معرف جبائي” يمكن أن يثبت العراف مهنته على أنها “نشاطات أخرى للترفيه”، وهو ما يشير إلى أنشطة غير تلك المحددة لدى الضرائب.
وترخيص “أنشطة أخرى للترفيه” يمنح عادة للأشخاص الذين يقدمون ألعابا بهلوانية للأطفال في الأماكن العمومية أو في المسارح، لإضفاء نوع من البهجة ويسمون “البهلوان” أو “المهرج” كما باللهجة التونسية، وشروطه أن يتمتع هذا الشخص بموهبة فنية نوعا ما تجعله قادرا على أن يبدو غريبا ولكن في نفس الوقت ممتعا.
وبمجرد الحصول على ورقة المعرف الجبائي، التي تسمى باللهجة الدارجة في تونس “الباتيندا”، يبدأ المشعوذون والعرافون نشاطهم. أحيانا، يكتبون أنهم يمارسون نشاطا حرا (تاجر مثلا). ويكون على صاحب الباتيندا تقديم تصريح بالمداخيل المالية حتى يمكن محاسبته ضريبيا عن الأرباح.
يؤكد المحامي، حازم القصوري أن معظم العرافين يكتبون في رخصهم “تاجر حر” ولكنهم يقومون بأعمال الشعوذة.
ويقول المحامي بشير الصيد إن “مجرد الحصول على معرف جبائي يجعلهم يعتقدون أو يوهمون أنفسهم وغيرهم أن لهم رخصا”!
وفي هذا يقول عالم الفلك التونسي، حسن الشارني: “هناك من يحصل على ترخيص “لتقديم ألعاب البهجة” ومن خلاله يمارس “العرافة”.
أين الرقابة؟
يؤكد المحامي بشير الصيد أنه “ليست هناك شروط معينة أو قانون ينص على ضرورة مراقبة النشاطات الحاصلة على معرفات جبائية من وزارة المالية”، ويضيف: “ليس هناك أي رقابة: ماذا يفعل هذا الشخص داخل ذلك المحل، وهل يقوم بمزاولة أنشطة معنية سلبية لحياة الناس أو صحتهم النفسية أو البدنية أو اقتصادهم. ما يتم مراقبته هو، هل ذلك الشخص يقوم بدفع الضرائب في وقتها ويعيد تجديد الرخصة عند اللزوم.”
يقول مسؤول في إدارة الأداءات طلب عدم ذكر اسمه (و.ن) “ليست لدينا رقابة خاصة على نوع معين من النشاطات، نحن نراقب كل ما هو معاملات محاسبية، نراقب الشكل الجبائي.”
ويعلق المحامي شاكر علوان على موضوع التراخيص، قائلا: “ليس هناك قانون يعتبر أن إعطاء تراخيص في هذا المجال ممنوع، وهنا يكمن الإشكال. كما أن هناك مصلحة جبائية من وراء منح المعرف الجبائي لهؤلاء الأشخاص الذين سيتعهدون بدفع نسبة على أرباحهم والتصريح بها كل شهر أو كل سنة حسب الاتفاق”.
لا يوجد نص قانوني تونسي واضح يجرم الشعوذة
أوضح المحامي كريم جوايحية لنا أن “الفصل 291 من المجلة الجزائية هو فصل عام يتعلق بجريمة التحيل وهي جريمة خطيرة اجتماعية لكنه يستدرك أنه: “في العلاقة بالشعوذة، لا بد من الاشارة الى انه لا وجود لنص جزائي صريح يجرم هذه الأفعال”.
ويؤكد ذلك المحامي محمد مختار بليش الذي يقول إن ما يختص بالفصل 291 من المجلة الجزائية يبقى “محدود النجاعة أمام غياب تحديد للشعوذة والسحر كفعل إجرامي، وأن تعهد القانون التونسي بالقضايا المتعلقة بالسحر والشعوذة من باب “التحايل” وجبر الضرر الحاصل للأفراد، نظرا إلى ان الشعوذة ليست مجرمة في القانون التونسي”.
غير أن قاضي التحقيق عدد 19 حسب ترقيم المكاتب بالمحكمة الابتدائية بتونس ، الذي التحقنا به في مكتبه بتاريخ الثامن عشر من جانفي 2019: نحن كقضاة نتعهد بالجريمة مهما كان نوعها حتى لو كان المعني رجل أمن أو رجل دولة أو رجل مجتمع.. فكل هؤلاء يمكن أن يقوموا بجريمة ليس بالضرورة أن تكون لديك رخصة أو مرخص لك قانونيا حتى تمتنع عن القيام بالجريمة، جريمة التحيل.
وبالتالي لا وجود لسحر وإنما هناك تحايل، السحر له مرجعية دينية قائمة على المعتقد والإيمان بأن هذا الأمر مقدس أو أنه يحدث وموجود في القرآن (عصا موسى، السحرة عند الفراعنة…).
أغلب القائمين بفعل التحايل في هذه الظاهرة هم من الأجانب أصحاب البشرة السوداء القادمين من الكوت ديفوار،
نظر قاضي التحقيق عدد 19 في العديد من قضايا الشعوذة والتحايل منها:
قصة 1 : سنة 2008 تعهدت بقضية مع زملائي بمحافظة منوبة ،تبعد عن العاصمة 34 الكيلومترات، مشعوذ يوهم الناس أنه له قدرة على المعالجة باعتماد البيض ، يقوم بوضع البيض على النار حتى تنضج عدة مرات ويتركها أكثر ما يمكن من الوقت على النار حتى تصبح صعبة الكسر وشديدة السواد من الداخل ويحمل في جيبه باستمرار، بيضة من هذا النوع و يقوم بزيارة الناس في بيوتهم على اعتبار أنه سيقوم بـمداواتهم من العقم أو السحر أو ما شابه ويطلب من السيدة جلب بيضة من مطبخها و في غفلة منها يقوم باستبدالها بتلك التي في جيبه ثم يأخذ في تمريرها على كامل جسمها متمتما و كأنه يحاول استخراج ما فيها من سحر . يطلب منها كسر البيضة فتتعجب من صلابتها وبعد جهد تكسرها فتجدها سوداء اللون من الداخل وتتعجب من قدراته الخارقة، يخبرها أن تلك البيض تحمل ما كان بداخلها من سحر وسوء ويوهمها أن حالتها ميؤوس منها وأنه قاموا بعمل السحر لها والشر لأنك أعارت الذهب إلى إحدى الجارات وحتى يعالجها عليها أن تتبع تنبيهاته. يطلب منها إحضار قطعة من القماش ووضع ما تملك من ذهب بداخله يقوم بعقدها العديد من المرات و الأثناء تكون بحوزتها قطعة قماش مشابهة يضع بها كما من الرصاص حتى تبدو بنفس الوزن مع الذهب ، يطلب منها إحضار الملح من المطبخ و يقوم باستبدال الذهب بالرصاص و عند عودتها يطلب منها الجلوس بطرف الفراش بغرفة نومها ويطلب من زوجها الخروج لأنه سيقوم بما تبقى من عمله وفي آخر المطاف يوهمهما أن عليها دفن الذهب، الذي هو في الحقيقة رصاص قام باستبداله، بعتبة المنزل وأن لا يقوموا باستخراجه إلا بعد 3 أشهر حتى يتسنى له طمس معالم التحايل والهروب أو فعل ما أراد فعله بالذهب الخاص بها علاوة على المبلغ المتحصل عليه.
قامت السيدة بعد ثلاث أشهر بالحفر لاستخراج الذهب فلم تجد سوى رصاص وفطنت إلى أنه قام بالتحايل عليها فاشتكت عليها مباشرة وكانت القضية بيدنا. اعتمدنا هذا القانون فقد كان ضربا من ضروبا التحايل بلا شك.
حوكِمَ بخمس سنوات سجنا وهي أقصى عقوبة في جريمة التحايل.
قصة 2 : تعهدنا بقضية ثانية في محافظة صفاقس، التي تسمى عاصمة الجنوب التونسي، مجموعة من الأشخاص كانوا يبحثون على كنز ، أحدهم أوهمهم أنه قادر على استخراج الكنوز ، قام باعتماد شرغوف (صغير الضفدع) ووضعه داخل مجسم قبل الوصول إليهم وأوهمهم أنه سيعتمد هذا المجسم، على اعتبار أنه جماد و لا يتحرك و لكن باعتماد قواه الخارقة سيجعله يتحرك فيترك لهم أثرا لاقتفائه ومعرفة مكان دفن الكنز، ثم قام بإطلاق المجسم وفي الأثناء كان صغير الضفدع يتحرك و يحاول الهروب أو الخروج من الجسم فيجعل من الجماد متحركا، دُهشوا من قواه و تتبعوا الخطى حتى توقف عن الحركة وفي ذلك الحين كان قد توفي.
ودفعت تلك المجموعة ما لديها من أموال وانطلق المتحايل وترك لهم مرحلة الحفر والبحث عن الكنز.
وللمفارقة والمقارنة فإن الفصل 87 من المجلة الجزائية في تونس ينص على أنه “يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسة آلاف دينار كل موظف عمومي أو شبهه يقبل لنفسه أو لغيره بدون حق سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة عطايا أو وعودا بالعطايا أو هدايا أو منافع كيفما كانت طبيعتها، لمنح الغير امتيازا لا حق له فيه، وذلك بمقتضى عمل مخالف للأحكام التشريعية والترتيبية”، فلماذا يعاقب من يحصل على الرشوة، بينما لا يعاقب من يحصلون على هدايا وقرابين وأموالا مقابل بعض أعمال الشعوذة، ولا يجرمون!؟
وبالمقارنة أيضا، فإنه في بلد إفريقي مثل الكاميرون، تعتبر الشعوذة “جريمة”، وتصل عقوبتها إلى “خمس سنوات بالسجن”.
نحن بصدد تكريم الشيطان في تونس وإعطاء كل ذي فراغ متسعا من الاهتمام مقابل الحياد عن أمهات القضايا فمتى يوضع حد لكل ذلك.