كائن شفاف وهش
تذكر معي.. متى عشت أكثر المواقف توترا في حياتك؟ تلك اللحظات التي تمنيت لو تكون لديك قدرة سحرية على الاختفاء أو التحول إلى كائن شفاف. مقابلة عمل، امتحان، مناقشة رسالة ماجستير أمام لجنة من الأساتذة والدكاترة، لحظة الإفصاح عن مشاعرك لل crush أو أي من الأحداث التي تعنيك جدا .
لا تتفاجأ حين أخبرك أننا جميعنا مررنا بتلك اللحظات شديدة الحرج في حياتنا، بأعراضها المتشابهة: دقات القلب المتسارعة، عدم انتظام التنفس، جفاف الحلق، المغص.. كلها اتحدت لتهديك حالة من التوتر والقلق والهذيان. وفي خضم تلك الحالة العجيبة تتواتر الأسئلة الوجودية إلى ذهنك: ماذا تفعل؟إلام ستؤول إليه الأمور؟ هل ستتجاوز الامتحان؟ ما موقفك أمام اللجنة؟.. ثم ينتهي بك الحال لتطرح السؤال الأهم: لم يُصَعِّبُ عَلَيَّ جسدي الأمور بقدر صعوبتها فعلا؟
مهلا، لننظر إلى الأمر بشكل مختلف. قد نكون غير قادرين على إيجاد إجابة شافية عن سؤال: لِمَ يخذلني جسدي في كل مرة أحتاج أن أكون فيها على شيء من الصلابة والاتزان؟ لأننا ببساطة ننظر إلى أنفسنا اليوم. تواجدنا، كياننا اليوم.أفعالنا وأفكارنا اليوم ،مشاغلنا وقضايانا اليوم.وطرق تفاعلنا مع الأمور.. اليوم.
اليوم بعد أن تجذرت الحضارات وبُنيت المجتمعات وتأسست النظم ووُضعت القوانين وحُددت المسؤوليات. وابتكرنا نحن البشر بمحض إرادتنا الحرة الامتحانات والمقابلات المهنية ودرجات النجاح والإيميلات(…). وأسسنا لأنفسنا علاقات حب وقرابة وصداقة وزمالة وتنافس وعداء .
وعليه، نحن نظن بعد كل الذي ذكرنا،أنه من الممكن أن نتفهم ردود الفعل “الغريبة”التي نعيشها. ونستوعب إلى حد ما حالات الخوف، التوتر، الرهبة، الضياع ربما النشوة. لكننا نظل على شفا سطحنة الأمور، ما لم نجرأ على اختراقها وسبر أغوارها، وحتى التَّوَهَان فيها. إذ كلما تُهنا كلما اكتشفنا ما لم نفكر في اكتشافه يوما .
لِنَمْتَطِي عزيزي القارئ مركبة الزمن، ولنعد إلى سالف الأزمان وغابر السنين، إلى الأجداد. لنرى كيف كانوا يتعاملون مع مخاوفهم وكيف تفاعلوا مع تحدياتهم . مهلا ..فيم تتمثل هذه المخاوف؟ فهي لن تكون-بداهة- مقابلة عمل أو اختبار أو اعتراف حب ..على الأرجح ستكون رحلة بحث عن غذاء، مسكن آمن ولباس يقيهم قسوة الطبيعة، اختراع سلاح يضمنون به البقاء، موطأ قدم .
القضية مختلفة نعم ،يخلقها الزمان والمكان. وتنحتها الجغرافيا والتاريخ والأنثروبولوجيا وعوامل أخرى..لكن الجسد هو هو، باق على حاله: يتلعثم في مناقشة الماجستير ويتصبب عرقا عند إلقائه لخطاب. ويتوتر عندما يقرر الزواج أو الانفصال. وهو نفسه من كان يعيش في الجبال والصحراء. يتبع الكلأ ويواجه قطاع الطرق. ويتقاتل مع الذئاب والضباع أو.. يهرب منها .هي البنية الجسدية نفسها والتركيبة النفسية ذاتها :الغدد التي تفرز هرمون الأدرنالين والكورتيزون. لتذهب إلى القلب، فتزيد دقاته ويزيد ضخه للدم. فيصل بطريقة أفضل للأنسجة. وتتسارع عملية التنفس ويتزايد إفراز السكر في الجسم.
هذا الجسم في حالة حرب. تتعاضد كل الأعضاء لتساعده إما على المواجهة أو الهروب. ومن المنطق أن يكون الذهن على قدر مهم من التركيز والانتباه .ودخول أي عامل مشتت لهذا التركيز غير مسموح به إلى أن تنتهي الحرب. بهذا المعنى، ما مبرر أن يفكر أسلافنا بالمستقبل مثلا ووجودهم الحاضرعلى المحك؟ فَهُمْ في الحقيقة كانوا واعين براهنية المرحلة: المهم هو الحفاظ على الحياة وتجاوز أكبر قدر ممكن من الخطر. فالشعار كان:”لِنَعِشْ اليوم ولنَتْرُكْ التفكير في الغد للغد”. ونحن نعتقد أنهم نجحوا في ذلك إلى حد ما، بدليل وجودنا نحن اليوم.
تغيرات الجسم تلك إذن كانت.. مشروعة، صديقة بل يمكن اعتبارها الضامن الأول للبقاء، بقائهم وبقائنا. لولاها- وهي تبدو في الظاهر مستفزة لعينة- لما تمكنا من التقدم، التخطي، التجاوز.
والخوف، أكبر عدو للإنسان وهو فاتحة كل الْعَثَرَاتِ الأخرى. فهو إن خاف تردد، وإن تردد أخطأ،وإن أخطأ تضاءل، وإن تضاءل أَفْلَتَ من يده نَفْسهُ وَذَاتَهُ. والخوف هو الخوف في كل زمان ومكان.هو ذلك الحيوان المفترس الذي صارعه إنسان الماضي.هو خوفه الجاثم على أعتاب حياته. الأسد؟ جُبْنُ الإنسان الأزلي الْمُكَبِّلِ لكل قدراته. الذئب؟ خيبة مع انكسار يصاحبه عواء تمرد وانتفاضة. الغزال؟ لين القلب مع ثبات مع تَوْقٍ للانتصار رغم كل شيء .وتتعدد أوجه الخوف أما الْهَوَانُ فواحد.
والظروف تختلف، نعم، الأحداث والمواقف. لذلك اطمئن لن تقابل أمامك –اليوم- أسدا مثلا كالذي تصارع معه أجدادك إلا في حديقة الحيوان .هزيلا متعبا جاحظ العينين .لكنك سترى ذئابا وضباعا كثيرة وستسمع عواء يملأ العالم. فلا تخف ولا تتوتر، بل تمهل وتريث واستعد .