لا تَملَّ من التوبة
قال تعالى:” وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” الانعام 54
وقال:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “ التحريم 8
التَّوْبةُ: الرُّجُوعُ من الذَّنْبِ. وفي الحديث: النَّدَمُ تَوْبةٌ. والتَّوْبُ مثلُه. وقال الأَخفش: التَّوْبُ جمع تَوْبةٍ مثل عَزْمةٍ وعَزْمٍ.
وتابَ إلى اللّهِ يَتُوبُ تَوْباً وتَوْبةً ومَتاباً: أَنابَ ورَجَعَ عن المَعْصيةِ إلى الطاعةِ، فأَما قوله:
تُبْتُ إلَيْكَ، فَتَقَبَّلْ تابَتي وصُمْتُ، رَبِّي، فَتَقَبَّلْ صامَتي
ورَجل تَوَّابٌ: تائِبٌ إلى اللّهِ. واللّهُ تَوّابٌ: يَتُوبُ علَى عَبْدِه. وقوله تعالى: غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْب، يجوز أَن يكون عَنَى به المَصْدَرَ كالقَول، وأَن يكون جمع تَوْبةٍ كَلَوْزةٍ ولَوْزٍ، وهو مذهب المبرد.
وقال أَبو منصور: أَصلُ تابَ عادَ إلى اللّهِ ورَجَعَ وأَنابَ. وتابَ اللّهُ عليه أَي عادَ عليه بالمَغْفِرة. وقوله تعالى: وتُوبُوا إلى اللّه جَمِيعاً؛ أَي عُودُوا إلى طَاعتِه وأَنيبُوا إليه. واللّهُ التوَّابُ: يَتُوبُ على عَبْدِه بفَضْله إذا تابَ إليهِ من ذَنْبه.
واسْتَتَبْتُ فُلاناً: عَرَضْتُ عليهِ التَّوْبَةَ مما اقْتَرَف أَي الرُّجُوعَ والنَّدَمَ على ما فَرَطَ منه. واسْتَتابه: سأَلَه أَن يَتُوبَ. وفي كتاب سيبويه: والتَّتْوِبةُ على تَفْعِلةٍ: من ذلك.
الحمد لله العزيز الوهاب ، غافر الذنب، و قابل التوب، شديد العقاب .. بفضله يفتح للمستغفرين الأبواب .. وبرحمته ييسر للتائبين الأسباب .. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أسئلة كثيرة يدلي بها الكثير من الناس أوالشباب: أنا لا أصلي ، أنا مدمن ، أنا عندي بعض المنكرات: فواحش، سماع محرم ، نظر محرم .. قد أثقلتني الذنوب ، فكيف أتوب؟
حال هؤلاء ، كالغريق ينتظر من يأخذ بيده، وكالتائه يبحث عن طريقه ، ويلتمس بصيصاً من أمل، وشعاعاً من نور.
وكلنا كذلك ، فإن التوبةَ فريضةُ كلِ مسلم ، لا يخاطب بها أصحاب الكبائر والموبقات ، تاركو الصلوات ، متعاطو الجرائم والفواحش والمخدرات، بل الصالحون والمهتدون مطالبون دائماً بتجديد التوبة إلى الله .
فقد خاطب الله تعالى بها الصحابة في المدينة ، بعد تضحياتهم ، وهجرتهم في الله ، وجهادهم في سبيل الله، فقال: (وتوبوا إلى الله، جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون).
وهاهو إمام التائبين وسيد المستغفرين صلى الله عليه وسلم ، يقول كما في صحيح مسلم عن الأغر بن يسار رضي الله عنه: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، تُوبُوا إِلَى اللَّهِ ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّة” .
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني .
عباد الله .. كلنا مذنبون مخطئون.. نقبل على الله تارة ، وندبر أخرى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :{كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} رواه الترمذي ، وحسنه الألباني .
حياتنا كلها تدور على مقاومةِ الذنوب ومدافعتِها، ولو لم نكن كذلك لذهب الله بنا وأتى بغيرنا ليذنبوا فيغفرَ لهم .
إذن ، الفرق بين الناس ، ليس في السلامة من الذنوب ، بل في حالهم وتعاملهم معها .
والذنوب كالأمراض ، منها المرض العارض ، ومنها الشديد ، ومنها المزمن الذي يحتاج لعلاج قوي .
ومن المهم أن يشخص الإنسان حالته، ويضع المشكلة في حجمها الحقيقي حتى يعرف علاجها
وقد ذكر ابن القيم أربع مراتب للناس مع الذنوب:
- المرتبة الأولى، مرتبة الخوف والحزن بعد المعصية
بحيث أن العبد بمجرد أن يذنب ، ينتفض قلبه ، وينظر إلى ما كان من انخلاعه عن الإعتصام بالله حين إيتان الذنب ، كيف أن الله خذله ، وخلى بينه وبين نفسه ، ومنع عصمته عنه ، مع تيقنه نظر ربه إليه ، واطلاعه عليه .
صاحب هذه المرتبة قريب من الرجوع والنجاة .ومن ذلك ما وقع لبعض الصحابة .. في صحيح مسلم عن أبي أمامة قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَعَادَ مرة أخرى فَسَكَتَ عَنْهُ ، ثم َأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَمَّا انْصَرَفَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحِقَ به الرَّجُلُ فأعاد عليه ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ: ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . َقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ.
- المرتبة الثانية ، مرتبة الفرح بالذنب
فإنه متى تكرر الذنب ، واشتدت الغفلة ، تحول خوف العاصي وحزنه إلى فرح عند ظفره بشهوته المحرمة ، وهذا الفرح دليل على شدة الرغبة في المعصية ، والجهل بسوء عاقبتها وعظم خطرها ، والجهل بقدر من عصاه سبحانه.
ومن كان كذلك ، فليتهم إيمانه ، ولبيك على موت قلبه ، وليحذر من أن يوافي ربه على ذلك . - المرتبة الثالثة ، مرتبة الإصرار على الذنب
فإن تكرار الذنب يقود العاصي ولا بد إلى الإصرار ، والإصرار على المعصية ذنب عظيم ، لعله أعظم من الذنب الأول بكثير . ولهذا قيل: لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار - المرتبة الرابعة ، مرتبة المجاهرة وإشاعة المعصيةوهذه المرتبة من أخطر المراتب ، وصاحبها متوعد بعدم المعافاة ، كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” كل أمتي معافى إلا المجاهرين” .
كيف يجاهر بالذنب ، وهو يتيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه إليه ، فإن آمن بنظره إليه ، وأقدم على المجاهرة فهو قلة حياء مع الله . وإن لم يؤمن بنظره إليه واطلاعه عليه ، فذلك كفر ، وانسلاخ من الإسلام بالكلية .
ولهذا كان المجاهر دائر بين الأمرين : بين قلة الحياء ، وبين الكفر والانسلاخ من الدين عياذاً بالله .وقد روى مالكٌ مرسلاً ووصله الحاكم وصححه ، وصححه الألباني في صحيح الجامع والحاكم عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها ، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله”.
التوبة عبادة عظيمة لا تكون صحيحة مقبولة ، إلا بالقيام بحقيقتها وتحقيق شروطها .
وللتوبة شروط لا بد منها حتى تكون صحيحة مقبولة، والمشهور عند أهل العلم أربعة شروط:
- شرط حالي وهو الإقلاع عن المعصية: فلا تتصور صحة التوبة مع الإقامة على المعاصي حال التوبة. أما إن عاود الذنب بعد التوبة الصحيحة، فلا تبطل توبته المتقدمة، ولكنه يحتاج الى توبة جديدة وهكذا.
- شرط ماضي وهو الندم على ما سلف من الذنوب والمعاصي: ولا تتصور التوبة إلا من نادم حزين آسف على ما بدر منه من المعاصي، لذا لا يعد نادماً من يتحدث بمعاصيه السابقة ويفتخر بذلك ويتباهى بها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : {الندم توبة} . رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني . يعني الندم على المعصية خوفاً من الله ، وليس ندماً على ما أنفق من الأموال أو ما أصابه من الأمراض بسبب المعصية.
والله سبحانه يحب من عبده الندم وانكسار القلب والتملق .
فإذا وقعت في الذنب فانكسر لربك واندم ، وقل: يارب : لم يكن مني ما كان عن استهانة بحقك ، ولا جهلاً به ، ولا إنكاراً لاطلاعك ، ولا استهانة بوعيدك ؛ وإنما كان من غلبة الهوى ، وطمعاً في مغفرتك ، واتكالاً على عفوك ، وحسنَ ظن بك ، ورجاءً لكرمك ، وطمعاً في سعة حلمك ورحمتك ، وغرني بك الغرور ، والنفس الأمارة بالسوء ، وسترك المرخي علي ، وأعانني جهلي ، ولا سبيل إلى الاعتصام لي إلا بك ، اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي … وهكذا من الدعوات الطيبات . - شرط مستقبل وهو العزم على عدم العودة: فلا تصح التوبة من عبد ينوي الرجوع الى الذنب بعد التوبة، وإنما عليه أن يتوب من الذنب وهو يحدث نفسه ألا يعود إليه في المستقبل .
- ردّ المظالم إلى أهلها: فإن كانت المعصية متعلقة بحقوق الآدميين وجب عليه أن يرد الحقوق إلى أصحابها ؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” من كانت عنده مظلمة لأحد من عرض أو شئ فليتحلله منه اليوم ، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه” رواه البخاري .
وحتى تكون التوبة صحيحة مقبولة ، لا بد أن يتحقق فيها شرطان آخران ، يضافان لشروط التوبة الأربعة المتقدمة :
- الأول: الإخلاص لله تعالى: فيكون الباعث على التوبة حب الله وتعظيمه ورجاؤه ، والطمع في ثوابه، والخوف من عقابه، لا تقرباً الى مخلوق، ولا قصداً في عرض من أعراض الدنيا الزائلة، ولهذا قال سبحانه:” إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا” النساء 146
وإذا أخلص العبد لربه وصدق في طلب التوبة أعانه الله وأمده بالقوة، وصرف عنه الآفات التي تعترض طريقه وتصده عن التوبة.. ومن لم يكن مخلصاً لله لم يوفق للتوبة ، وإن وفق لها في أول الأمر فإنه سرعان ما ينتكس .قال ابن تيمية: ” فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قَطُّ أحلى من ذلك، ولا ألذّ، ولا أمتع، ولا أطيب .
قال الله تعالى في حق يوسف :” وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ” يوسف 24
فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور، والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله” . - الثاني: أن تصدر التوبة في زمن قبولها: وهو ما قبل حضور الأجل، وطلوع الشمس من مغربها، ففي حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} رواه أحمد والترمذي بسند حسن .
وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} رواه مسلم .سبحان الله .. الله العظيم الغني عنك ، يدعوك أيها العبد المسكين ، بالليل والنهار ، لا يريد أن تتأخر عنه ، فبادر بالتوبة ، بادر قبل فوات الأوان .. ولا تكن ممن يسوّفون التوبة ، ويقول قائلهم: دعونا نتمتع بالحياة ، وعندما نبلغ سن كذا نتوب ، وهذه والله حيلة من حيل الشيطان .
فالحذر الحذر من التسويف وطول الأمل ، فإن طول الأمل يفسد العمل .
قال الشافعي:
فاقبل بفضلك توبة القلب الذي قد جاء هربا من دجى العصيان
واجعله في وجه الخطايا ثابتا صلبا قويا ثابت الايمان
وامنن بعفوك ان عفوك وحده سيعيد نبض النور في الانسان
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم ، وبسنة سيد المرسلين ، ورزقنا توبة نصوحاً قبل الموت ، إنه جواد كريم .