مشاعل.. في تاريخ الفكر الإسلامي (02) الكندي.. و”الفلسفة الأولى”

الكندي، أبو يوسف يعقوب بن اسحق (185 ـ 252 هـ/ 801 – 867 م)، هو “أول فيلسوف عربي”، وهو ينتمي إلى قبيلة عربية مشهورة، قبيلة كندة (اليمن)؛ ولد في الكوفة، حيث كان والده واليًا عليها.. وقد برع في الفلسفة والرياضيات والمنطق والطب.

ويعده المؤرخون واحدًا من ثمانية، هم أئمة العلوم الفلكية في العصور الوسطى، كما أعتبره باحث عصر النهضة الإيطالي “كاردانو” من الاثنى عشر عبقريًا الذين ظهروا في العالم.
كان الكندي، أيضًا، أول فيلسوف لـ”دولة العقل” في الإسلام، دولة المأمون والمعتصم والواثق، وقد عاصرهم الكندي جميعًا؛ كما عاصر المتوكل وتعرض في عهده لبعض الاضطهاد في إطار “الانقلاب” الذي قاده المتوكل ضد المعتزلة. ومن ثم، كان الكندي منخرطًا في الصراع “العقيدي” (الأيديولوجي) الذي شهده عصره؛ فناضل إلى جانب “دولة العقل” تلك، بنشر كراسات صغيرة مركزة قريبة المنال، تتضمن خلاصات مطالعاته في العلوم الفلسفية، لتنقل إلى القارئ العربي، ولأول مرة، رؤى علمية وعقلانية عن الكون والإنسان، في صيغة تحترم المعقول الديني العربي، بل وتناصره، في صراعه مع المانوية والباطنية.
وكما عمل الكندي على نصرة “المعقول الديني” ضدًا على الغنوص المانوي والتأويل الباطني؛ عمل، في الوقت نفسه، على الدفاع عن “المعقول العقلي”، أي: الفلسفة وعلومها، ضد الفقهاء والمتكلمين المعادين لـ”علوم الأوائل”. ولعل أشهر رسائله في هذا الشأن ، شأن الدفاع عن “المعقول العقلي”، هي: “الفلسفة الأولى” التي يُفرِّق فيها بين الفلسفة والإلهيات من جهة، ويُحدد فيها مجال المعرفة الإنسانية من جهة أخرى، ورؤيته للفلسفة وعلومها من جهة أخيرة.

الفلسفة.. والعلم بحقائق الأشياء
فمن جهة، اعتقد الكندي أن هدف اهتمامات ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)، من دراسة طبيعة الوجود ومستوياته، وأنواع الكيانات الموجودة في العالم والعلاقة بينها، هو “معرفة الله”؛ ولهذا فرَّق بين الفلسفة والإلهيات، حيث تركز فهمه لما وراء الطبيعة حول الوحدانية المُطلقة لله، التي اعتبرها سمة مفردة فقط لله. وللكندي نظرية مفادها: “إن الله خلق العقل أولًا، ومن خلاله خلق الله جميع الأشياء الأخرى”؛ مؤكدًا على أن: “كل شيء موجود في العالم المادي، يرتبط ببعض الأشكال المسلم بها في عالم السماء”.

وفي رؤيته، فإن هذه الأشكال هي في الحقيقة مفاهيم مجردة، كالنوع أو الجودة أو العلاقة، التي تنطبق على جميع الأشياء المادية والكائنات. ولذا، فإن البشر، كما يوضح الكندي، لا يمكنهم تصور تلك الأشياء إلا بمساعدة خارجية. وبعبارة أخرى، إن العقل لا يمكنه فهم الأشياء ببساطة عن طريق فحص واحدة من النوع أو أكثر من مثيلاتها، وإن الأشياء لا تُدرك إلا عن طريق التأمل والإدراك بالعقل أولًا.

من جهة أخرى، يميز الكندي في مجال المعرفة، تمييزًا حاسمًا، بين “علم الرسل” وبين “علم سائر البشر”..
فالأول، تبعًا للنص الوارد في الفلسفة الأولى، يكون: “بلا طلب ولا تكلف ولا بحث ولا بحيلة الرياضيات والمنطق، ولا بزمان، بل مع إرادته جل وتعالى بتطهير أنفسهم وإنارتها بالحق بتأييده وتسديده وإلهامه ورسالاته. فإن هذا العلم خاص بالرسل صلوات الله عليهم دون البشر… أعني آياتهم الفاصلة لهم عن غيرهم من البشر”. أما الثاني، أي “علم البشر”، وكما هو واضح ـ من النص السابق ـ فإنه يكون بالطلب والبحث والاستدلال. وكما يبدو، فإن تأكيد الكندي على أن النبوة خاصة بالرسل، وأنها آيتهم التي تفصلهم عن سائر البشر، يعني محاولته “سد الباب” أمام القول بأي طريق آخر للمعرفة، وبالتالي رفض العرفان.
وهكذا، فإن المعرفة عند الكندي: إما “حسية”، وأداتها الحس وموضوعاتها الأشياء الحسية؛ وإما “عقلية”، وأداتها العقل وموضوعاتها المعقولات، أي المفاهيم المجردة؛ وإما “إلهية”، وأداتها الرسل المُبلغة عن الله وموضوعاتها عالم الربوبية وتكون: ” بالإيجاز والبيان وقرب السبل والإحاطة بالمطلوب”.
من جهة أخيرة، تتمثل الفلسفة عند الكندي في “العلم بحقائق الأشياء”، وهدفها البحث عن الحق، إذ نراه يؤكد على أن: “غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل الحق”؛ بل، إن الفلسفة عند الكندي ضرورية بدراسة الرياضيات، فالمرء عنده لا يكون فيلسوفاً إلا إذا درس الرياضيات، التي هي في حقيقتها جسر الفلسفة ومعبر لها. ومن هنا، بنى أبحاثه في الفلسفة على أسس من الرياضيات.

الصلاة الكونية.. وتسبيح المخلوقات
وقد تمكن “أبو الفكر العربي”، بفضل منهجه الحسي الرياضي المنطقي، من إثبات تناهي العالم والحركة والزمان، وإثبات حدوث العالم ووجود الله، وإثبات التوحيد، منشئًا بهذا مذهبًا فلسفيًا إسلاميًا حقيقيًا، خالف فيه فلاسفة اليونان بالحجة والبرهان، ومصححاً لأقوال القدماء العلمية خاصةً فيما يتعلق بالآثار العلوية. لذلك، نجده يؤكد على أن “حدوث العالم” معناه أن الله أحدثه من لا شيء، وبغير واسطة. فالله، حسب تعبيره: “هو العلة الأولى التي لا علة لها، الفاعلة التي لا فاعل لها، المتممة التي لا متمم لها”.

وفي ضوء فهم الكندي للدين على أساس المعرفة الفلسفية العلمية، فسر اتجاه المخلوقات بحركتها نحو الله.. إذ، إن كل شيء في الكون، في رأيه، بدءًا من الأحجار إلى النبات، ومن النبات إلى الحيوان، ومن الحيوان إلى الأجرام السماوية، يتجه بحركته إلى الله، وهذه الحركة هي ضرب من “الصلاة الكونية”، ونوع من “تسبيح هذه المخلوقات بحمد الخالق المبدع”. ثم يستشهد بقوله تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ” [النور: 41]؛ وقوله سبحانه: “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ” [الإسراء: 44].

والجدير بالملاحظة، هنا، هو محاولة الكندي في التفرقة بين “الوحي” والفلسفة. فقد رأى الكندي أن النبوة والفلسفة طريقتان مختلفتان للوصول إلى الحقيقة؛ ومن ثم، فرَّق بينهما في عدة أوجه.. منها: أن الفيلسوف يصل إلى الحقيقة بتفكيره وبصعوبة بالغة، في حين أن النبي يهديه الله إلى الحقيقة؛ وبالتالي، فإن فهم النبي للحقيقة أوضح وأشمل من فهم الفيلسوف. ومنها: أن قدرة النبي على شرح الحقيقة للناس العاديين، أفضل من قدرة الفيلسوف.

بيد أن الناظر في مؤلفات الكندي، يرى أنها تُركز على حدود العقليات، ربما أكثر من اهتماماتها بالحدود الدينية؛ ولعل رأيه الخاص الذي اشتهر به حول “واجب الوجود”، هو ما دفع معاصريه، خاصة المتشددين منهم، إلى مُخالفته والمؤاخذة عليه. فقد أخذوا عليه قوله، الذي أودعه “رسالة التوحيد”: بـ”وحدة واجب الوجود وبساطة ذاته العلية”، من حيث إن هذا القول هو “أرسطي محض”؛ بمعنى: إن القائلين به لا يعترفون لواجب الوجود بصفة مطلقة هي المميزة عن الذات.

رغم ذلك، لا يمكن إنكار أن الكندي يأتي في مقدمة محاولات “تنصيب العقل” في الثقافة العربية الإسلامية، خصوصًا في مواجهة الأطروحات المانوية والباطنية، حيث هاجمها في ميدانها وعمل على تقويض دعائمها. إلا أن الطابع السجالي الذي فرضته عليه هذه المعركة، كان قد جعل خطابه خطابًا تقريريًا وليس خطابًا برهانيًا.

وهذا هو ما أكده الكندي نفسه، في مناسبات عديدة، من أن الظروف فرضت عليه سلوك “السبيل الخبري” ـ حسب تعبيره ـ في عرض ما يريد عرضه من آراء ونظريات. ومع ذلك، فإن هذا لم يمنع منتقديه من تسجيل ما يعتري خطابه من ضعف منطقي، وما يشوب مؤلفاته المنطقية من نقص وتقصير.

بواسطة
حسين معلوم - مصر
المصدر
مقال الرأي يُنشر في الجريدة ويعكس في الأساس رأي الكاتب حول الموضوع الذي كتبه ولا يعبر بالضرورة عن صوت المواطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق