موروث الطريقة الجهرية من وجهة نظر النقشبندية (الجزء الأول)
بقلم فضيلة الشيخ محمد حبيب العليم عبد الرؤوف اليماني الحسني الحسيني مرشد صوفية الصين
أوّلا: كيفية تكوّن نقاط الجهرية الحسّاسة وعوامل الخطورة، وسرّ استيعابها وضمّها للتقاليد الوطنية والدينية معا
يلتزم ميراث النقشبندية باتّباع دقيق للشريعة والسنّة، يجعل من له صلة مقدَّرة بالشيخ أكثر قربا للإسلام، معتبِرا الملِك وقائد الأمة كالروح من جهة، والشعب كالجسد من جهة أخرى، وممتثِلا للناموس الوطني كفرض واجب عليه، لأنه طالما الروح في منأى عن الضلالة فلا علّة ستصيب الجسد.
ويوافق هذا التوجّه ما جاء في الحديث النبوي الشريف: “السلطان ظلّ الله في الأرض”. معناه أن الله سبحانه وتعالى منح ملِك الأمّة سلطانًا على حياة وممتلكات أفرادها.
لذا، لولا تدخّل إرادة الله في حفظ عباده لحُرِم كل معارضِ ملكٍ من ممتلكاته ولأُودِيَ بحياته. بموجب هذا التوجّه الإيديولوجي، تبلوَر انسجام الجهريّين مع العُرف الوطني. وهذا ما مَثَّل أساس تشكُّل ميزة الثنائية الخاصّة بالجهرية في ميراث النقشبندية.
اِنسجم مع قوانين حكومة بلادك، وطبّق أصول الشريعة موازاة مع تعاليم الطريقة، حينها ستتجلّى لك الحقيقة.
لكلّ فرد حسب ميراث النقشبندية مهمّة وكّله الله بها. يتألّق المسلم بنور نشره لدينه والدعوة له، ما ينعكس في الجوانب الخمسة التالية:
- ضع طرقًا جيّدة وأشكالًا جديدة للتنمية المزدهرة.
- حافظ على المظهر الأصلي للإسلام وتقاليده الموروثة عن النبي ﷺ، دون زيادة أو نقصان أو تغيير، وكن جادّا وحذرا في تطبيقك لدينك.
- فوّض أمرك تمامًا إلى الله واعتمد عليه، وتمسّك بكونك “مؤمنا” تحت كلّ الظروف. رسّخ خُلق الإخلاص لديك، ودَع نفسك من خلال تزكيتها تبعث للعالم بومضات الإشارات الإلهية، وانشر الإيمان الصّحيح. من اللازم على المرء حين يصبح تابعًا مريدًا في النقشبندية أن يصير أكثر حماسا وحبّا للعطاء، وأن يجعل من أقواله وأفعاله وُصلةً لنشر الإيمان السديد.
- أطع الله واقبل توجيهاته، وأطع رسوله ﷺ وذوي السلطة عليك، ووجّه إلى الطريق السويّ من قُدّر له أن يكون على صلة بك. هذه قواعد وتقاليد الجهرية من حيث الالتزام، الامتثال، الاتّباع، التطبيق والامتداد. تعتبر طاعة الله ورسوله ومن بيدهم السلطة شكلا من أشكال الموروثات التي جعلت من الجهرية جماعة ثابتة وراسخة على مرّ الزمان.
- هناك مبدأ فيما يتعلق بالإدراك، السلوك، الممارسة، النية، الأقوال والأفعال، متمثِّل فيما يلي: “نُفضِّل أن يدين لنا الناس في الدنيا على أن ندين لهم في الآخرة”. بناءً على هذا المبدأ، نستطيع حل أمور عديدة بسلاسة، وإظهار روح وقوّة المثابرة والصبر.
هناك دومًا مرشد حقيقي، يتمتّع بمنزلة عظمى في كلّ جيل من أجيال النقشبندية، يجب على جميع المريدين أن يكونوا على انسجام معه. وحيث أنهم وُهبوا من الله عقولا حرّة التفكير، تَحتّم عليهم أن يناسقوا بين فهمهم للسنة والشريعة الإسلامية وفهم مرشدهم لها، وذلك بترويض وعيهم وفكرهم الحرّ ليوافق فكر هذا الأخير، والعمل برأيه متى ما تباين مع آرائهم الخاصة.
يحوز المريد التابعية الحقّة حين يواكب مرشده في دقائق الأمور وعظيمها. المريد الذي يصاحب مرشده ما حيي ولا يتركه، يشاطره نفس الأفكار ويمتثل لتدبيره على الدوام، هو مريد نقشبندي حقيقي.
في هذا الميراث ينسجم مريد الجهرية فكرا وحُكما مع مرشده، حتى فيما يتعلّق بالمفاهيم والاستنتاجات، فلا يحيد أبدا عن آرائه وتدابيره. وقد تتبلور أحيانا حالة من المعارضة الوجودية، حيث يتصادف أن تتعارض طبيعة أفكاره الوجودية وأراء مرشده، لكنّه رغم ذلك تجده قادرا على الانصياع والموافقة فيسلِّم لرأي وأمر مرشده حين حدوث مثل هذا التضارب. وهذه إحدى سمات المريد الحقيقي.
بينما يغوص التابع في تأمّل مرشده تأمّلا عميقا يُوهَب تنويرا فجائيا يكوِّن في قلبه صورة خاصّة لمرشده. تتشكّل هذه الصورة على مستوى العقل الحرّ غير المقيّد للمريد، مُحدِّدة بذلك مقامه ومُشيرة إلى وجهته الأخيرة. هكذا يكون امتثال الناس لمرشدهم واتّباعهم لأحكامه.
ومؤكّد في الجهرية أنّه من واجب مريديها استثمار هذه الحياة المؤقّتة من أجل إيقاظ الرحمة في قلوبهم، واكتساب فضائل ومناقب الصحابة لينضمّوا لزُمرة الأُيّاب إلى الجنّة. يتعلّق الأمر في بادئ الأمر بِـ “التفكير في الآخرين أوّلا”، وهي صفة مشتركة بين الصحابة، تُذكِّر كلّ مريد جهريّ بالسير على آثار فضائلهم وممارساتهم، وتُنبّهه إلى التصرّف اتّباعا لهديهم وإلى ضرورة التفكير بالغير كأولوية في كلّ ما ينوي فعله.
أصيب أحد الصحابة في عهد رسول الله ﷺ في إحدى المعارك، فشعر بالعطش وأراد أن يشرب. أحضر له قريبه بعض الماء حين سمعه يصرخ “ماء! ماء!”. في اللحظة ذاتها، صاح صحابي آخر على مقربة منه “ماء! ماء!”. فامتنع الصحابي المصاب عن الشرب، وطلب من قريبه أن يعطي الماء للصحابي الآخر، قائلاً: “إنّ احتياجه للماء أقوى من احتياجي”.
فنفّذ قريبه ما طُلب منه. لكن الصحابي الثاني أشار إلى صحابي آخر عطشان أبعد منه، وقال: “إنّه في حاجة للماء أكثر منّي بكثير”.
فأخذ الرجل الماء -قاطعا مسافة طويلة- إلى الصحابي المصاب بجروح بالغة. لمّا بلغ مكان ذلك الصحابي وجده قد فارق الحياة. ثم أسرع عائدا بالماء إلى الصحابي الثاني، فوجده قد مات أيضا. بعدها ركض إلى قريبه، فلقيَه قد أسلم الروح هو الآخر. ترك الرجل الماء بعدها في ساحة المعركة وعاد إلى بيته باكيا.
ارتكازًا على الروح المعنوية المستخلَصة من القصّة أعلاه، إنه لمطلوب صرف أولوية تفكير المرء صوب الآخرين قبل أن يفكّر في نفسه، لذا فمؤكَّد في الجهرية كما في موروث النقشبندية أن الصوفية هي خدمة الجميع. فإذا اكتُسِب هذا الوعي بالاستعداد للخدمة والمساعدة، وجب التمسّك به مدى الحياة. وبمجرّد أن ترث هذه الروح، ستكون حينها على طريق العودة للّه. ستتخلّص من الأنانية وتأثير الأنا بداخلك إلى أبعد حدّ، ثمّ ستنأى عن كلّ الخَلق وتتقرّب أكثر إلى الخالق.
كلّما كان المرء أكثر أنانية، كلّما قلّ اعتباره للآخرين. وكلّما زاد قربه لما سوى الله، كلّما عظُم ابتعاده عن الله. في هذا الميراث، ينظر مريد الجهرية للحياة الدنيا كإجراء بائس، أرض اختبار، مسار قصير مؤقت وسريع الزوال، وحقل خصب للزرع. لذلك، يجب أن نعامل المسلمين وغير المسلمين على حدّ سواء بمشاعر حقيقية وبإحساس من القرابة، وأن نرتبط بالآخرين ونتحدّث إليهم بأفضل أسلوب ممكن. يجب أن نتمسّك بالطاعات الإسلامية الأصيلة الموروثة عن نبينا محمد ﷺ والمرتكزة على مبدأ الإنسانية، من أجل الاندماج في المجتمع وجذب أفراده لدرب العودة إلى الله.
يجب أن تعتبر نفسك خليفة لله، لديك مسؤوليات وواجبات في تعاملاتك مع الناس وفيما يتعلّق بالعبادات الإسلامية الموروثة عن سيدنا رسول الله ﷺ. اُبذل قصارى جهدك لاستيفاء هذه المسؤوليات ولتكريس نفسك من أجل ذلك. لا تتّخذ أي شيء منتمٍ للحياة الدنيا الزائلة كملكية خاصّة. كن عازمًا على عيش حياة زاهدة، اُثبت على ما هو تامّ المشروعية، وقيّد تحت دائرة الحظر كل قول أو فعل يتنافى وهويّتك الإسلامية.
بفضل روح الميراث هذه، يمكن لمريد الجهرية أن يعيش حياة زاهدة ويكرّس نفسه من أجل الدين. فتجده يوفّر من مال أكله ونفقاته ليصرفه في سبيل الإسلام، ويقطع مسافات طويلة فقط من أجل الانضمام إلى حلقات الذِّكر. في ظلّ روح تفانٍ كهذه، يحمل المريد زوال الحياة الدنيا كمفهوم راسخ بداخله. من وجهة نظره، ما هذه الحياة إلا مجرّد مرحلة عابرة، وكلّ ما لديه من أشياء سواء كانت مادّية أو معنوية ما هي إلا زوائل ستندثر عاجلا أو آجلا.
بمقدوره تحمّل حياة الزهد، حياة تقوم في كلّيتها على مبدأ الحلال. يرفض أكل أو استعمال أي شيء غير شرعي أو مشتبَه في أمره. لا يركُن إلى ما لا يتناسب مع هويّته الدينية، لأنْ لا يفقد رتبة المحبّ والمخلص لرسول الله ﷺ ويفقد قيمته وحقيقته كمريد. بفضل هذا الميراث، يفضّل كثير من الناس التضحية بأرواحهم وممتلكاتهم في سبيل الظفر بدار الخلد والنعيم.
طالما أنّك تُخْلص في اتّباع عادات وعبادات نبيّك ﷺ وصحابته رضي الله عنهم وأوامر المرشد الحقيقي، فأنت تُمسك بيدك “الحبل المتين”. لذا ففي ميراث الجهرية، يُعتبر حبل الله (المرشد الحقيقي) وسبيل الله (ابتغاء وجه الله في كلّ فعل تقوم به) أحد تجلّيات المسلك الصوفي. ما يعني أنه بالحبلين الموروثين من رسول الله ﷺ (الدين الحقّ والمرشد الحقّ)، سيتحقّق لك التوفيق والنجاح في كلّ حياتك.
لذا تُؤمِن الجهرية بأنّ علامة توفيق العبد تتراءى في الحرص على سلك سبيل الله وعلى التمسّك بحبله جلّ وعلا.
لا بدّ لك من تعلّم علم التوحيد إذا كنت ترمي لبلوغ مقام المعرفة الحقّة بوحدانية الله، وهي نقطة مهمّة في هذا الميراث.
المعلّم والكتاب لا يضمنان لك تشرّب علم التوحيد برمّته بل جزءا بسيطا منه فقط. إذا أردت أن تصل إلى ذروة المعرفة بالله -وذلك أعلى مستويات علم التوحيد- وجب عليك أن تثابر بإصرار على محاولة فهم وإدراك هذا العلم، وأن تأخذ بعين الاعتبار نصح مرشدك لك.
إذا كنت ترغب في الحصول على “المعرفة الحقّة”، فسيتعيّن عليك اكتسابها على مستوى الروح. كيف يتأتّى لروحك اكتساب هذه المعرفة؟ من اللازم أوّلا أن يكون لديك خبرة روحية في الميراث، وأن تنتمي لبيئة روحانية تعزّز تربيتك الأخلاقية وتدريبك الروحاني كمريد. ويتطلّب ذلك أن تحافظ على حُسن نيّتك، وأن تتخلّص تمامًا من خُبثك، شرورك، سوء أفكارك ومن كلّ ما له صلة بسوء النية والشُّبهات، وأن تحافظ على قلب خيِّر، طاهر وجميل.
يمكن للتعامل مع الآخرين باعتبارهم جزءا من كينونتك ووضع نفسك تماما في مواقفهم أن يساعد على التقليل من قوّة الخلاف الناتج عن مختلف الاختلافات التي تشهدها العلاقات، أكانت اختلافات مزاجية، قصدية، مفاهيمية أو حُكمية.
فبعد قبول مريد الجهرية لمثل هذا التراث، سيتبلور باطّراد نوع من التناغم والاتّحاد بينه وبين مريدي الجهرية الآخرين. سيغدون متسامحين وغفورين في كثير من الأمور في سبيل الدين، وسيلتمسون العذر للآخرين بغضّ النظر عما ألحقوه بهم من أذى، مُظهرين لروح القرابة والرحمة لديهم، ولنور عاطفتهم الحقيقية. لذا فإن وجهة النظر التي تقول: “إيلاء الاهتمام للمؤمن فرض” واضحة بشكل خاصّ في ميراث الجهرية.
وفقًا لتراث النقشبندية، تتطلّب الجهرية تَوافق مريديها مع العادات المحلّية وتكيّفهم مع طرق التعايش مع السكان المحلّيّين. كما تدعو إلى تنسيق الروح الإسلامية للعقيدة الصحيحة مع الشخصية، العقلية، التقدير ومعايير مختلف الجنسيات، لتستطيع مختلف جموع الناس قبول حكم الإسلام، ويتم ذلك بدمج التعاليم والأحكام الصوفية الصارمة شيئا ما وقَولبتها للوصول إلى نقط اتّفاق وإجماع تُرضي كل الأطراف. وهذا ما جعل الجهرية سهلة القبول ومرحّب بها على الدوام.
يمكن اختصار هذا الفكر في عبارة مأخوذة عن الجيل السابع والأربعين لنسب النبي ﷺ، تقول: “لممارسة الإسلام عليك أن تعرف العادات المحلّية، ولنشر الإسلام عليك أن تتوافق مع أساليب السكان المحلّيّين”.
من هذا المنطلق، يستفيد مريد الجهرية من أفضل تدريب على الممارسة الروحانية. لذلك، يجدُر بالمريد أن ينشر، على أوسع نطاق، ما يؤْمن به من اعتقاد صحيح، وهذا بالضبط ما تعنيه كلمة “الجهرية”.
تقع على عاتق كل مريد مسؤولية استمرارية روح النسبة. فابتعد أيها المريد عن ذوي النزعة إلى الراحة المادّية، الميّالين لزيف المجد والبذخ، الساعين للمنفعة السطحية وللعيش المؤقت في الحياة الدنيا، ولا تتورّط معهم في أعمالهم الآثمة. ليكن سعيك للحياة الآخرة، لا إلى أشياء مؤقّتة وزائلة.
قدِّم الحقائق والبراهين، واهد الناس بغضّ النظر عمّا إذا كانت عبادتهم لما سوى الله ظاهرة أم باطنة (بجعلهم مع الله شركاء تحت غطاء الإعتقاد الصحيح). دُلّهم على الإيمان الصادق والتوحيد الخالص. وجّههم إلى السلوك، المفاهيم، القواعد وسبل الالتزام التي يقتضيها كل من تشريعات الإسلام الأصيل والنهج الأصلي المتوارث عن سيدنا محمد ﷺ.
تمّ في ميراث النقشبندية تبلور صفات التقوى، الخشية، الإخلاص، التضحية والتلاحم المتين في نفوس التابعين والمريدين الحقيقيين لجهرية الصين. في الوقت نفسه، تمّ بذلك تكوّن نوع من الخطورة تشبه في مبدئها اللدغ الجماعي للنحل. عادة ما يقوم به النحل من مهام هو تجميع العسل، نقل اللقاح، وقضاء الأيام في سلام. غير أنه عند حدوث غزو يفوق قدرة تحمّلهم، يلجأون إلى الاتّحاد معا لتنفيذ عملية اللدغ الجماعية. إنها طبيعة الخطورة التي تشكّلت في الجهرية، والتي من المرجَّح أن تُستغلّ من طرف شخص ذي دوافع خفيّة لإحداث فيض من المشاكل المهدّدة لاستقرار الإسلام وازدهاره.
ثانيا: المبدأ الأكاديمي فيما يتعلّق بنسبة الميراث
اُنتقل إلى ميراث الجهرية جزءًا من التوصيات النقشبندية التي تؤكّد على جانبين: أحدهما متعلّق بالروحانيات وقوّة الإرادة، حيث يجب على المرء أن يتمتّع بهاتين الخصلتين، فيما يتعلّق الجانب الآخر بالوعد والحفاظ عليه، فلا يجوز للإنسان أن يُخلف وعدا أعطاه، فإنْ فشل في الالتزام بذلك الوعد، فشل أيضا في الحفاظ على الوعد مع الله.
لذا اِعمل جاهدا دوما على الحفاظ على وعدك حتّى وإن كان مع الخصم بموجب الحديث الشريف: “من أخلف الوعد مع الناس، أخلف الوعد مع الله”. (نصّ الحديث مترجم فقط وغير منقول حرفيا).
وموَثّق في كتاب تاريخ النسبة أنه في زمن مضى من تاريخ الجهرية، تم تدمير جيشنا بالكامل حتّى انتهى الأمر باستشهاد كل أفراده، فقط لأن سو سيشيسان حافظ على وعده مع مسؤولي أسرة تشينغ.
ترتكز مختلف جوانب حياة أهل الجهرية بالأساس على السنة وعلى الأحكام الفقهية الإسلامية التقليدية المتوارثة.
- اُحرُص دائما أيها المريد على البقاء بعيدا عن الأميّين من السالكين، ولا تصادق جاهلا أبدًا ما لم تبتغ بصحبته إرشاده وتزكيته.
- . حاول قدر استطاعتك أن تكون حاضرا في العبادات الجماعية، كصلاة الجماعة وحلقات الذكر والأمداح وما إلى ذلك.
كان للجهرية مبدأ يرفض طلب الشهرة أو حتى الانضمام إلى صفوف حكّام البلاد. وعلى ضوء هذا المبدأ، لم يحبّذ العديد من الجهريّين في العهد القديم فكرة اجتياز الامتحانات الامبراطورية أو امتحانات المهن الحكومية، ولم يسمحوا بأن يكونوا ضَمانا (لم يضمنوا أي شيء لأيّ شخص كان، ما عدا إن كان لذلك الشيء غايات دينية). كما أنّهم لم يلجأوا إلى التقاضي (فلم يذهبوا إلى المحكمة لِفضّ نزاعاتهم وحلّ مشاكلهم القانونية)، وابتعدوا عن ربط علاقات بكبار الشخصيات والأمراء والنبلاء، مما أدّى إلى فقدان سبل التواصل والتفاهم ونقل الرسائل فيما بينهم.
بعد فترة من الزمن، بدأ انتشار المهنة الحكومية بين تابعي الجهرية من الأجيال اللاحقة موافَقة لإشارة الشيخ طبعة الله (ما هوالونغ) رضي الله عنه التي جاءت كالتالي:
“تختلف جماعتنا عن أفراد عائلة وقاية الله، فهم أناس لم يشغلوا المناصب الحكومية ولم يسعوا للشهرة ولا للسمعة، بينما نحن كأفراد هذا الجيل والأجيال القادمة واجب أن يكون بيننا من يتولّى بعض هذه المناصب”.
وبناءً عليه، فقد عرف زمن الشيخ طبعة الله رضي الله عنه ظهور أوّل ملامح اهتمام الجهريّين بالمهنة الحكومية وتولّي مناصبها.
- توخّ شديد الحذر في الحلال والحرام، أي لا تُقْدم أبدا على أكل شيء حرام.
قال رسول الله ﷺ: “من أكل لقمة من حرام لم تُقبل منه صلاة أربعين ليلة”.
وهو دليل قطعي ينهى عن تناول الطعام غير الحلال.
لا يُسمح للناس العاديين بالذبح، بل يجب أن يتمّ ذلك من قِبل إمام شديد الالتزام بالتشريعات الإسلامية، صالح، طاهر، محترَم ومعترَف به من قبل الناس، لتحظى ذبائحه ببركة أوسع. وهذا يُغني عن الخوض في متاعب وخلافات كثيرة تحدث عند تناول الناس لطعام حرام، سواء أكان ذلك عن قصد أو عن غير قصد، كما أنّه يقلّل من جهة أخرى نسبة الأفراد المنتهكين لحدود الشريعة الإسلامية. اِبقِ عملية الذبح واضحة وجدّية (انتبه لحالة الجزار)، حتّى لا تُطعِم بطنك حراما بالخطأ.
- في حالة الزواج، لا يجوز الارتباط بامرأة ذات شهوة لمتع الحياة.
عوض ذلك، من الضروري الاقتران بشريكة تتوافق بشكل جيّد معك وتحبّ الإسلام، من بإمكانها الاعتناء بالأسرة ودعم الدين، والمساعدة في الخدمة من أجل الشعائر الدينية في التجمعات الاحتفالية والتذكّرية، كبيرها وصغيرها، المرأة الفاضلة ذات الخلُق الحسن. وهذا أمر مستلزَم في ميراث النقشبندية.
- من الناحية السلوكية، لا يجوز الضحك بصوت مرتفع لأنه يطفئ نور القلب.
قال رسول الله ﷺ: “عُرضت عليَّ الجَنّة والنار فلم أَر كاليوم في الخير والشرّ ولو تعلمون ما أعلم لضحِكتم قليلا ولبكيتم كثيرا”.
لذلك لا يجوز الضحك بصوت عال في ميراث النقشبندية. من يقهقِه بضحكاته يُقلِّل الناس من شأنه، لأنّه نوع من السلوكيات الدونية. اُحرُص غالبًا على أن تستجمع قلبك على استشعار شيء من الأسى، وأن تفكّر في حقيقة أنّك معرّض للإصابة بالمرض في أيّ لحظة، حتّى تتمكّن من شدّ لجام رغباتك وشهواتك.
لا بدّ للإنسان أن يحسّ بمعاناة أخيه الإنسان، ويتعاطف معه لما يقاسيه من أمراض وشدائد، ويذرف الدموع رأفة بحاله. فقط في هذه الحالة، سيغدو المريد صادقا في سلوكه، تقيّا في عبادته، متحرّيا البساطة في ملبسه ومحبّا لصحبة الباحثين عن الحقيقة، العارفين والحكماء.
وقد شكّل هذا النوع من الميراث ثروة روحانية في المناطق الفقيرة، فاتّخذ سكّانها الفقر ثروة لهم والمسجد موْطنا لهم، ورافقوا أولياء الله وعاشروهم.
هذا ما كان عليه النهج النبوي وطريقة التفكير التقليدية لمريدي الجهرية، ممّا ساعد على تجنّب كثير من أوجه الفهم الخاطئ.
ثالثا: صفات وسلوكيات العارف الحقيقي
تقوم طريقة التفكير المنبثقة من قلب الحياة الروحانية المتوارثة لدى الجهريّين على عدّة مظاهر.
تتمثّل إحدى هذه المظاهر في تولية عظيم الأهمّية للنسبة، أو ما يسمّى بالنسبة المتوارثة. ويتمثّل المظهر الثاني في اهتمامها البالغ بأقوال وتصريحات كلّ مرشد جيلٍ على حدة. فقد تمّ عموما جمع هذه المأثورات من قِبل المريدين، فاكتسبت شهرة كبيرة وعُرفت على نطاق واسع، وكان لها تأثير تنسيقي وتحفيزي على الناس وقَوّت ثباتهم الإيماني.
بالنسبة لأسرة الشيخ الكريمة وأهل الصدق والإستقامة، فهم مكلّفون بـ “ذكر الله مع كل نفَس”. أمّا عامّة الناس، فمكلَّفون فقط بمراعاة القوانين والتشريعات، ما كبُر منها وما صغُر، وعدم تجاوز مبادئ الجماعة المتوارثة. هم مطالَبون ببذل ما يستطيعون من جُهد في ذكر الله، الحفاظ بشدّة على معايير سلوكية معيّنة، وبلوغ الأهداف السامية التي تختلف باختلاف طبيعة كل فرد. لذلك لا يوجد أشخاص كُثر متمكّنون حقًّا من الالتزام بما هو مطلوب في النسبة من الناحية العملية، لكنّهم عموما من أهل التقوى والورع. نُشرت هذه الأقوال على نطاق واسع حتى عُرفت تقريبا لدى جميع المريدين.
الشروط المتعلّقة بالصفات والسلوكيات المتوارَثة:
اِعتبر نفسك عالَمًا صغيرًا قائمًا بذاته. تأمّل أفعالك باستمرار وحاول تحليلها واستيعابها. تحقّق يوميا من سلوكيّاتك لتَعلَم ما إذا كانت تُرقِّيك أو تَنزل بك إلى الحضيض، ولا تتوقّف أبدا عن التحسين من ذاتك والارتقاء بها. قال رسول الله ﷺ: “من اعتدل يوماه فهو مغبون”.
لذا، كيفما تكون حالتك اليوم، أَحرِز تقدّمًا غدًا وقم بإجراء تغيير جديد. ثبات علم المرء اليوم لما كان عليه بالأمس هدرٌ لموارده المعرفية، فاحرص في حياتك على تثبيت مُدخَلات علمية يومية، وكن إيجابيا على الدوام. اُهدُف إلى عيش حياة ترتقي مختلَف جوانبها بشكل مستمرّ، وداوم بإصرار على هذا النوع من الممارسات والسلوكيات طوال حياتك.
بالنسبة للممارسة الروحانية، يُعتبر “البقاء وحيدًا وساكنا” تقليدا متوارثا عند النقشبندية. يجب على المرء أن يكون هادئًا حين بقائه بمفرده حتى يحسّ بقربه من الله تعالى. في الوقت نفسه، لا يجوز له الانفصال عن البقيّة بل العمل سويّا معهم من أجل دينه. دوما ما يكون العمل على “البقاء وحيدًا وهادئًا للوصول إلى الله” مطلوبا في النسبة، أكان ذلك نابعا عن وعي أو عن غير وعي، وكذا التفكّر في كل ذكرى تخطر على البال.
بمجرّد أن تتبادر الفكرة إلى ذهنك، سَيْطِر عليها وحلِّلها. اُسبُر أغوار نفسك، واكبح جماحها إن وجدتَ الخواطر غير مناسبة. فإذا كانت جيّدة وملائمة، فما عليك سوى التصرّف بناءً عليها. لربّما تتيقّظ جرّاء فكرة صغيرة عابرة.
تنبّه في الحال إن خطرت على بالك فكرة ما، واحكم عليها بِتأنٍّ ما إذا كانت صائبة أم لا، بهذه الطريقة ستكون في منأى عن معالجتها باستعجالٍ أَعْمى وتَسْلَم من الضلال بعيدا عن معايير الإسلام الحقيقية. ركّز على كلّ شيء من حولك للعثور على الأثر فيه ولاكتشاف البراهين الواضحة على وجود الله.
رابعا: عُدّ التسابيح
فقط بذكر الله تقترب القلوب منه سبحانه. يساعد تعداد التسابيح على استجلاب الهدوء ويعتني بالقلب ويحميه. يُشترط القيام بذكر الله وفق عدد معيّن، فمثلا بعد كلّ صلاة، يتمّ ترديد “سبحان الله” 33 مرّة، و “الحمد لله” 33 مرّة، و “الله أكبر” 34 مرّة، أمّا “لا إله إلا الله” فتُردَّد 100 مرّة بعد صلاة الصبح.
تُعتبر هذه القواعد حِصنا يحمي الإنسان ويحُول دون غوايته من قِبَل الشياطين وتشويشه بزخرف الدنيا الزائف، كما تُعتبر عونا له على استثمار ما أوتي في دنياه لشراء آخرته. عندها تُحقِّق عباداته ذروة كمالها.
ترتبط كافّة صالحات الأعمال بحمد الله وذكره والثناء عليه. لذا كلّما ارتكبتَ ذنبا عاجِلْ بالاستغفار والتوبة وتَعهَّد بعدم الأوبة. تُب باستمرار، ودُم على صيانة قلبك لئلّا يتعرّض ما بداخل أسوارِ مدينتِه للضياع، أي اِحم حصون قلبك الدفاعية الخمسة من أن تُخترق من طرف إبليس الرجيم وباقي الشياطين.
ذكِّر نفسك دائما بأنّك في معيّة الله تعالى، لا تتردّد في البوح له بكلّ خوالجك وخواطرك، وتأكّد بأنّه سبحانه قريب عليم. فإن وصلتَ إلى هذه الحال، استبشِر بنيْلك أعلى المقامات بإذن الله.
عند حرص الجهريّ على اتّباع التقاليد والتمسّك بالميراث يَدخل درب الأمان (حيث يُحفَظ في الدنيا، ويُحمى دينه فيَسْلَم في الآخرة). وبركات هذا الميراث تمسّ حتّى الجاهل عن دينه، فبتعرّفه واتّباعه للميراث يحمي دينه ويَظَلّ بعيدا عن الحرام.
يُعتبر التأثير غير الملموس أقوى عامل في تقليد الجهرية. فقد أعطى هذا الأخير قيمة عظمى للتفسير القرآني على مرّ زمن التوارث. من بين تفاسير القرآن، نجد “روح البيان” هو المؤكَّد في الأساس، وهو التفسير الأصيل والموثوق بالنسبة لأهل السنة والجماعة بالصين. ثمّ نجد المكتوبات الصوفية في المقام الثاني كأهمّ كتب قديمة متوارثة عند الجهرية.
بعد سنوات من الممارسة والفهم، نذكر فيما يلي أهم العبارات الموروثة:
- “لن يُقتَل وليّ المعرفة الحقّة (المرشد الحقيقي) طالما يوجد له خليفة على الأرض” (منقول من كتاب ‘المكتوب’).
لن يقدر الأعداء على المرشد الحقيقي فيقتلوه ما دام له خليفة يعيش في هذا العالم، فإن تمكّن لهم قتله، كان ذلك إشارة على انقطاع حبل الوراثة وانتهاء زمن الخلافة وكان هو بذلك خاتم المرشدين.
- “يجب على السالك المبتدئ أن يردّد أسماء الله الحسنى جهرًا. في حين يجوز للسالك ذي المقام العالي (الأقرب للكمال) أن يكتفي بذكر القلب. لكن عندما يتعلّق الأمر بنشر الإسلام، فلا بدّ من ترديد أسماء الله الحسنى والدعوة إليها جهرًا والتحلّي بها أخلاقيا وسلوكيا.
مستحسنٌ خفضُ الصوت عند الذِّكر إن خَشِيتَ إزعاج مَن حولك بعلوّ صوتك، أو خِفتَ الوقوع في دائرة الرياء.
الجهرية مسمًّى اُستنبط من كلمة الجهر، يُفيد القراءةَ بصوت عالٍ، الدعوة للدّين، وترديد أسماء الله الحسنى بطريقة لا تجعل منك المستمع الوحيد بل كل من حولك أيضا، ليَتمّ بذلك تحقيق التأثير اللازم للدعوة للإسلام.
- جاء في كتاب المكتوب: “إنه لمن أهم الأمور تكوين صداقات مع الفقراء من الناس وحماية حقوقهم. كذا توضيح قداسة الإسلام لهم، ورعايتهم وتغذية أرواحهم. إضافة إلى تقديم حلول لما يكابدونه من صعوبات حياتية وإرشادهم إلى الطريق المستقيم. أبدًا لا تقطع الصلة المقدَّرة لك من الله في تهذيب وإرشاد الخَلق منذ لحظة ولادتهم إلى حين مفارقتهم للحياة “.
بازدياد ترف حياة الإنسان وازدياد ثرواته المادية، غلبت اللامبالاة على سائر أفكاره، ومن ثَمَّ تضخّمت أناه وشهواته وأوهامه. لذا، تدعو الجهرية إلى أن يعيش الإنسان فقيرا معتبرا نفسه مجرّد “مستخلَف” في ما أقامه الله فيه، وأن ينفق كل أمواله في سبيل الله، وأن لا يتوانى في عمل الخير أبدًا.
قال رسول الله ﷺ بما مفاده:
“لا تَضُمُّ النار سوى الأغنياء والعصاة، ولا تَضُمُّ الجنّة سوى الفقراء والمهاجرين، ويَدخل الجنّة غنيّ واحد فقط كلّ خمسمائة سَنَة”
(نصّ الحديث مترجم فقط وغير منقول حرفيا).
لذلك، وجب على الأثرياء أن يتّصفوا بالحكمة: فلا ينظرون إلى ما رزقهم الله وأخلفهم فيه من ممتلكات على أنه ملكية خاصّة مستحَقّة، بل يعتبرون أنفسهم خلفاء فيه لا غير، ويحملون على عواتقهم قدرا كبيرا من المسؤولية تجاه مختلَف نداءات القضايا الدينية وأعمال الخير. أغنياء الدنيا الظافرون بالجنّة هم فقط الحكماء.
هم يعتبرون أنفسهم أوصياء على هذه الأموال لا أكثر، وينفقونها في كافّة سُبُل الخير. هؤلاء الأثرياء يدخلون بِدورهم في زمرة الفقراء. من جهة أخرى، يُعتبر مهاجرا كلّ من ترك بيته من أجل دينه. لذا، يسير الجهريّون عادة مئات الأميال لحضور صلاة الجمعة أو صلاة العيد، ويتكبّدون معاناة سفر طويل فقط من أجل حضور حلقات “الأعمال”.
وندرج هنا قصّة تفيد أنّه: “على رأس كل خمسمائة عام يدخل ثري واحد الجنّة”.
اقترب رجل فقير من باب الجنّة، فأتى ملاك لاستقباله. في اللحظة ذاتها، همَّ رجل غنيّ بالدخول، فترك الملاك الرجل الفقير فورا وحيّى الغنيّ بترحاب كبير وأدخله الجنة. فغضب الفقير غضبا شديدا متذكّرا أحوال الدنيا، حيث اعتاد الناس تملّق الأغنياء واعتادت الكلاب عضّ خِرَق الفقراء، ولكن بشكل لم يكن يتوقّعه، شاهد المبدأ نفسه ينطبق على الملائكة. بعد أن دخل الغنيّ إلى الجنّة، عاد الملاك مرّة أخرى ليُدخِل الفقير أيضا”.
فقال الفقير بغضب للملَك: “لم أكن أتوقّع أبدًا أنّك أيضا تحبّ الأغنياء وتكره الفقراء”. فأجابه هذا الأخير: “لقد أسأت الفهم، لقد مرّ علينا خمسمائة عام هنا حتّى تمكَّنّا من مقابلة رجل ثري واحد، في حين أن الجنّة تمتلأ يوميا بالفقراء”.
فتشكّل في الجهرية، بناءًا على ما سلف، معتقدُ دوام الافتقار إلى الله واعتبار المرء نفسه فقيرا رغم كثرة ماله، وأنّه فقط خليفة في ما أقامه الله فيه من أموال وثروات.
- من الضروري إظهار وشرح الجوهر النظري المعقّد للنقشبندية بأبسط وأوضح لغة وطريقة لتشجيع جميع أنواع الناس على قبولها.
هناك عشر مقامات للترقّي الروحي عند الجهرية. من الراجح أن يُدرك الإنسان اكتمال المقامات التسعة الأولى تدريجيًا نتيجة امتثاله للأحكام عند التزامه بالدين الإسلامي الأصلي. ويتأتّى له ذلك حين يثابر على عبادات خاصّة يوميا وفقا لقدر معيّن يحدّده له مرشده، أما المقام العاشر فلا مجال للمريد لبلوغه بمفرده.
قُسّم القرآن الكريم إلى آيات صريحة وواضحة (متشابهة) يمكن للجميع فهمها، وإلى استعارات مجازية (مشتبهة) يعلمها الشيخ الذي عرّفه الله معانيها المخفية، وهكذا تُنقل بين أجيال الجهرية.
لا يمكن بلوغ المقام العاشر إلا بترقية آيات القرآن الكريم من معانيها الصريحة البيّنة:
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ (3) وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (5)}. (البقرة: الآية 3، 4، 5)
إلى معانيها المجازية المستورة:
“الذين يشهدون الغيب بأمّ أعينهم ويقيمون الصلاة……أولئك على هدى من ربّهم وأولئك هم المفلحون”.
المعنى الظاهري للقرآن هو ما يجب على عامّة الناس ومريدي الصوفية الأدنى مقاما اتّباعه والامتثال له. ظاهر القرآن هو روحه، أما عمقه فَمخفي في معناه المجازي، وهو جوهر القرآن.
لذا فإن أردتَ فهم معاني القرآن الكريم وجب عليك معرفة جوهره وروحه وليس فقط معناه الظاهري، بل وسبب النزول والفئة التي اُستُهدِفت بذلك، والمسائل الإشكالية التي نزل لحلّها، إضافة إلى معرفة ما إذا كانت دلالاته عامّة أم خاصّة. بعد تمكّنك من فهم كل هذه الركائز، ستصبح قادرا على تمييز المعنى الضمني للقرآن انطلاقا من معناه الظاهري.
وهذا التوحيد الاستدلالي المبني على كلّ من السبب، النتيجة، النسبية، الأسلوب والنبوة سيرتقي إلى حالة التوحيد الحقيقية، السرّية الموثوقة وذات البراهين الواضحة.
اِتّباع نص القرآن الصريح هو العمل بمقتضى روحه، واتّباع معناه المجازي هو العمل بمقتضى جوهره. لذلك، أثناء تعلّمك للقرآن، تعرَّف بالموازاة مع ذلك على سبب النزول الحقيقي لكل آية من آياته والمعنى الصحيح لكلّ منها، وكذا الغاية من نزولها والمستهدَف منها حتى يتمكّن لك الاستناد على ما وضّحه وعالجه من إشكاليات إن هي صادفتك مستقبلا في الحياة.
وينطبق الشيء نفسه على الأحاديث. ما دام الحديث موافقا لأحكام القرآن ولمبادئ السنّة النبوية الشريفة، ويفيد الإسلام، أبدا لا تستسهل الحكم عليه بأنه حديث موضوع أو غير موثوق أو ضعيف أو أي شيء آخر من هذا القبيل، بل اعتبره حديثا صحيحا واقْتَد به.
لا يتحقّق إسلام المرء إلّا عند تصديقه التام لكل ما جاء به رسول الله ﷺ. لذا احذر، فمن الممكن أن تفقد هويّتك الإسلامية بمجرّد أن تنظر لحديث صحيح واحد فقط بعين التكذيب أو الشك. خُذ كلّ ما أظهره الرسول ﷺ من معجزات وكل ما أظهره أولياء الله من حدس وكرامات وخوارق للعادة كدليل على الوجود الإلهي وعلى نبوّة سيدنا محمد ﷺ وعلى إمكانية ارتقاء المؤمن في رحلة سيره إلى الله.
هناك إشارات وبراهين تَنتقل بين كلّ جيلين متتاليين، تكون قد اختُبرت وعُرفت بين الناس بناءًا على دلائل واضحة من ميراث المرشد السالف، تُعَدّ هي نفسها إثباتا بيّنا يدلّ على صاحب الإرشاد والسلطة الجديد.
تَوارُث الكرامة هي قاعدة ورثتها الجهرية عن النقشبندية، تتمثّل من جهة في حفاظ الجيل الجديد على الأسس والركائز والملامح نفسها التي شكّلت هويّة الجيل السابق، وتُفيد من جهة أخرى ضرورة تطابق آخر كرامة أظهرها المرشد السابق مع أول كرامة سيظهرها المرشد الجديد، حيث أنها الدليل الجليّ والقاطع على صحّة الولاية.
هناك قول مأثور عند الجهرية:
“لا تُورِث الابن بل الرجل الصحيح، ما عدا إن تَصادف أن كان الابن هو الرجل الصحيح”.
خلال الميراث النقشبندي، قامت الجهرية باكتساب مجموعة من الصفات الخاصّة بها والمعزِّزة لهويّتها.
إضفاء تعديلات مزاجية على الاختيار الربّاني وتأكيدات واهية فيما يتعلّق بهويّة المرشد الجديد استنادا على عامل القرابة والنَّسب بينه وبين المرشد الراحل فقط من أجل نيل بعض المقاصد الدنيوية الدنيئة لا غير، هي أمور خارجة عن الميراث النقشبندي ولا تبثّ له بأيّ صلة على الإطلاق.
“هَمُّ الصوفي حُسن العبادة ودوام التوبة لا تقَصّي وتَتبُّع الكرامات”،
هي كلمات لا ينبغ التلفّظ بها، صدرت عن أناس غلبتهم أنانيتهم واستَعبدتهم مصالحهم الشخصية، فخرجوا بذلك من حيث نواح عديدة عن نطاق عباداتٍ وتقاليد صوفية كثيرة، ولم تَعُد تمثِّل لهم الكرامات وخوارق العادات أي دلائل ظاهرة أو تجلّيات قيّمة.
في مثل هذه الحالات، غالبًا ما تُنكَر حقيقة وجود الكرامات من طرف الأشخاص الذين لم يُعطَوْوا قدرة القيام بها.
عندما يعيش المريد دنياه في حالة فناءٍ عن نفسه وشهواتها، مأخوذا منها إلى الله، عابدا له على الدوام بحالِ تَوَسُّلِ محتضرٍ يفارق الحياة، حينها سيصل إلى حالة من الوقار ينكشف له معها صريح دلائل وعلاماتِ بلوغ المقام العاشر.
بعد أن توالت أوّلا -في ظلّ هذا الميراث- سبعة أجيال في بلاد اليمن، لحِقتْها ثمانية أجيال بعد ذلك في الصين، تحوّلت الجهرية إلى مدرسة فكرية ذات وجود، قائمة بذاتها وتتمتّع بنسق إيديولوجي خاصّ.
المرشد من اختَبر النعيم الحقيقي في العالم اللّامتناهي (عالم الغيبيات، عالم الروح)، وأبان على ذكاء استثنائي وبصيرة نفسية ثاقبة.
هو الّذي يفهم حقًّا علم النفس الإسلامي والحُكم الإسلامي، ويدرك المعنى العميق للزمان والمكان، وكلًّا من الأَفْضِية ثلاثية ورباعية ومتعدّدة الأبعاد، ومعان أخرى جمّة أكثر عمقًا. فقط من حَصَّل هذه الأحوال وأبدى معرفته وتقواه أَدرَك إشاراتِ دلالةٍ تُفيد وُلوجه المقام العاشر.
بالنسبة للميراث الجهري، حين يتأتّى للمرء أن يشرح معاني القرآن العميقة ويستثير دوما الرغبة لدى الناس لتحرّي المصدر الأصلي للإيمان، ويكون في الوقت ذاته منسجما ولا يتعارض بأي شكل من الأشكال مع القرآن والسُّنّة، يتسنّى له عندها إحياء أفئدة المريدين، ويكون ذلك بمثابة علامة وبشرى يَستدلّ بها على بلوغه المقام العاشر.
بالنسبة له، كلّ ما في الدنيا ما هو إلّا اختبار إلهي. وهذا ما مكّنه -بِغَضّ النظر عن ظروف بيئته- من التمسّك بعقيدته ومختلَف طاعاته، حتّى لو بلغت هذه الظروف أعظم درجات القسوة والصعوبة. أما في أوقات الترف والظروف المواتية حين يسُود الرخاء، فلن ينسى جذوره أبدا.
عندما يَحُول الفقير إلى غنيّ، والجاهل إلى متعلِّم، والوضيع إلى نبيل، يظلّ هو دومًا في حال من خشية الله، وقورا، متواضعًا، محافظا على استقامته ومُمتثلا للطريق الصحيح.
بموجب هذا الميراث، حظي المرشد باحترام جميع ضُروب الناس، وبلغ المقام العاشر فكان مرشدا روحيا، يُعِين مريديه على تنقية أرواحهم ووَصْل قلوبهم بقلبه.
ولربّما لعبت هذه الظروف التكوينية الدور الأهم في نجاة الجهرية من الاندثار واستمرارها في الحياة والازدهار رغم مرورها بحوادث عظمى على مرّ التاريخ، كما كان لثروتها الروحية من جهة أخرى تأثير فعّال في هذا البقاء.
- تذكير من ميراث النسبة: كن متواضعا، لطيفا، نبيلا ومهذّبا مع الآخرين.
تكبّر على المتكبّر، قال رسول الله ﷺ: “التكبّر على المتكبّر صدقة”. كن متواضعا ومهذّبا مع المتواضعين المهذّبين اللّطفاء.
ما يشوب عقل المريد يعكّر صفاء قلبه، بينما تنقّي روح الخدمة الإنسانية عقله وتطهّر قلبه.
لذا، وجب علينا الحفاظ على هذه الروح، جوهر الباعث على حبّنا للّه ونيل محبّته ورضاه والارتقاء في مقامات القرب منه عزّ وجلّ.
هناك سبل عديدة تمكّن المرء من بلوغ الطريقة، و “باب خدمة الفقراء” هو أوسع مدخل للتصوّف في النقشبندية، لأجل ذلك أَبقِ قلبك دائما مع الفقراء ومن يعانون.
طبيعة المريد أنّه يتأثّر ممّا يجري من حوله، فإن رأى حيوانا صغيرا يُؤذى، أشفق عليه وتعاطف معه، وإن رأى حصانا يتعرّض للجلد، شعر بذات النزيف يجري في جسده أيضا.
عندما تسُود مثل هذه الرحمة والروح التعاطفية وتترسّخ عادة انسجامية كهذه، ستتشكّل تبعا لذلك الثروة الروحانية الخاصّة بالتماسك الداخلي للجهرية.
“ليس الغنى بالمال بل بالقناعة”. سرّ السعادة البشرية يكمن في الرضا.
“أنعم عليّ ربّي بالقناعة. أنعم عليّ بالرضا “.
وكما قيل في المثل: “من يرضى يسعد دومًا”.
طالما يشعر المرء بالرضا، يستطيع -مهما اشتدّت ظروفه- أن يُبقي عقله في حالة سلام. لن يُثبّط شيءٌ عزيمتَه على الإطلاق ما إذا عاش راضيا ومُفعما بالأمل. سيفيض قلبه دوما لا محالة بطِيب الآمال وجميل التوقّعات.
يربّي مرشد النقشبندية مريده على الحفاظ على عقل راض، لأنّه بذلك سيتمكّن من تحصيل حالة ذهنية لا تعرف الخوف على فراش الموت، وسيعيش على الدوام سعيدا، شجاعا ومتحرّرا من القلق.
تَحرُّر الإنسان من قلقه وخوفه نعمة من نعم الجنّة، حيث لا قلق ولا خوف هناك. لذا على المريد الجهري الحقيقي أن يحرص على الاستمتاع مقدّمًا بها في دنياه قبل آخرته.
خامسا: كيف تعرّفت الجهرية على الميراث النقشبندي
- إن تسامي الصفات الأخلاقية وارتقاء المقامات يكمن في قبول التنوير الروحي من المرشد الحقيقي. وهذا يعني أن عليك أن تُنكِر تمامًا جميع وجهات النظر والمفاهيم والأحكام التي بُنيت على تصوّرات مسبقة ومعطيات متأصّلة في وقت ما من حياتك، وأن تُعيد تفسير وتصحيح كلّ ما تمّ تكوينه بدايةً وفقًا للمفاهيم الصوفية والمعايير الإسلامية، وإعادة فهمه بناءًا على ماهية روح التصوف وارتكازًا على أصل الفكر الجوهري اللامادي للحقيقة.
فيُطرح السؤال الجدلي: “هل تستمرّ الروح في الحياة بعد فناء الجسد؟”
يُعتبر الموت في الميراث الصوفي مجرّد مرحلة من مراحل حياة الإنسان. فبَعد موت الجسد، تستمرّ روح الإنسان في التواجد وتُواصل حياتُه ارتقاءها.
لم يكن النمو المعرفي والروحاني للإنسانية أبدا إنجازا فرديا اُختُصّ به شخص بعينه، إنما كان دائما نتاجَ موروث تراكمي تَنقله أجيال سابقة إلى أجيال تليها.
يستجيب الماء والحجر لسلوكيات الإنسان ومعلوماته، والمعلومة في حد ذاتها لا تعرف نهاية في المكان والزمان. فبمجرّد نشأة الرسالة، لن يكون بالإمكان اختفاؤها أو محوها، وستَشغَل من حينها حيّزا في الوجود لا يندثر.
أجرى عالم ياباني دراسة اكتشف من خلالها أن الماء يتأثر بمشاعر الإنسان ويتغيّر شكل تبلوره وفقا لذلك الأساس.
أساس الانضباط الروحي للتصوف عدم الغفلة عن الله عزّ وجلّ ولو لِيَسيرٍ من الزمن. ففي الصلاة تُقطع جميع الروابط الاجتماعية والأفكار اللاربّانية، وما تبقّى من أوقات فهي محلّ دعاء وتأمّل وعبادة قلبية. فمرِّن قلبك وأَدِمْهُ على الدعاء والتدبّر والعبادة وفي ذات الوقت تأكًد من اتّصاله بما يدور من حوله وعدم انقطاعه عن مجريات دنياه.
أبق قلبك في حضور دائم مع الله بالانشغال بذكره والتقرّب إليه سبحانه، بادئا من فؤادك واصلا إلى كلّ خلية يحتويها جسدك.
تقترن حياة القلب باستمرارية ذكر الله عزّ وجلّ. لذا فأصحاب المقامات العليا من الأتقياء والصالحين يذكرون الله مع كلّ نفَس، وتُعتبر إثما غفلتُهم عن الله ولو لطرفة عين، أضف إلى ذلك عبادة الصوم واستمرارية التوبة.
لا بدّ أن يتأثر قلبك بما يجترّه عقلك من أفكار، فإن كانت تصبّ في حرام أو مكروه صعُب عليك استجماع تركيزك لذكر الله، فانتبه لخواطرك واثبُت على ذكره سبحانه كي تصفو وتترقّى في مقامات الأخيار.
ثمّة حديث نبوي نُقل عبر الميراث النقشبندي يقول: “موتوا قبل أن تموتوا، ومن مات فقد قامت قيامته”.
لذا، اعتبر نفسك ميّتًا وإن كنت ما تزال على قيد الحياة حتى يتسنّى
لقلبك التخلّص من كلّ جشعه إزاء زخرف الدنيا، وأسرع في إتمام ما وُكّلتَ القيام به في هذا العالم مُحسِنا العمل وساعيا للارتقاء في جميع جوانب حياتك.
- يقول المثل الصيني: “العظيم يعيش في المدينة، والضعيف ينأى بنفسه إلى الجبال”.
في الميراث، لا تدعو الجهرية إلى الرهبنة أبدا، فيبرّ المريد والديه ويُحسن معاملة زوجته ويربّي أبناءه وينشغل بتفاصيل حياتهم ويَصِل رحمه وفقا لما تسوقه إليه فطرته الإنسانية، وفي الوقت ذاته يكون آخذا في طريق التقرّب إلى الله، داخلا عليه سبحانه من باب إكرام الأهل والإحسان إليهم. بهذا الشكل سيتأتّى له الجمع بين ما تُمليه عليه طبيعته البشرية وما يستدعيه السبيل إلى الجنّة.
إذا توغّل الإنسان في الجبال، فسيستحيل عليه البرّ بوالديه أو إحسان عشرة زوجته أو تربية أطفاله، كما سيَخفُت اندفاعه الطبيعي لعيش الحياة، وسيفقد وفقًا لذلك سمات طبيعته الإنسانية. لذا ترتكز الجهرية على مبدأ: “العظيم يعيش في المدينة” وتتنكّر لفكرة الرهبنة، وهذا ما هو عليه المنهج الحقيقي للتصوّف.
تَشكَّل مفهوم الرهبانية الإسلامية بادئ الأمر عند الصوفية، حين اُضطُهد أهل التصوّف في فترة من الزمن، تركوا خلالها منازلهم وانزاحوا نحو الشواطئ والجبال ليمارسوا بأريحية متطلّبات عباداتهم الإسلامية.
في البدء، كان الدافع وراء تركهم بيوتَهم رغبتَهم في الهروب من اضطهاد المجتمع، ولأنّهم مُنعوا حينها منعا شديدا من حرّية الاعتقاد واتّباع دين الإسلام، فقد كان رحيلهم إجبارا أكثر منه اختيارا، وعانوا بعد ذلك خسارة طبيعتهم الإنسانية. وعلى هذا الغرار ترهبن جزء كبير من المتصوّفة.
من جهة أخرى، معلوم في ميراث الجهرية أنّنا لا نرتبط بأعداء التصوّف خوفا من أن يُشتِّت ذلك تركيز الناس أو يُعكِّر فهمهم الصحيح للصوفية، بينما يمكننا التعامل معهم في حدود مقنّنة لغَرَض نُصْحِهم والرأفة بهم والدعاء لهم بحسن الخاتمة. غير أنّه لا بدّ لهذا التعامل من أن يخضع لشرط عدم التعارض مع مبادئ عباداتنا أو تشتيت تركيزنا على معتقداتنا.
- يجب أن يتجلّى الجمال الداخلي للصوفي على مظهره، لأنّ الاتّساق بين باطن الإنسان وخارجه شرط من شروط التصوّف، لذا ينبغي على المتصوّف أن يهتمّ بنظافة وأناقة وجمال مظهره.
التأنّق، لبس العمامة، تمشيط اللحية وحسن الهندام عند القيام بالعبادات كلّها سلوكيات نبوية يجب عليك التخلّق بها تشبّها به ﷺ واتّباعا لسنّته.
تدعو الصوفية للاحتراس من المواضع القذرة لأنّها محلّ استتار الشياطين. من أجل ذلك يلزَم الصوفي أكثر من أي شخص آخر أن ينتبه لدوام نظافته وحسن هندامه وبهاء مظهره.
معروف عند أهل الجهرية في مناسباتهم الدينية كالأعياد وحلقات الذكر والأمداح أن يحرسوا على تنظيف وترتيب محيط تواجدهم. وهو حال كل الملتزمين بالشريعة الإسلامية، إذ عادة ما يعيش هؤلاء في منازل نظيفة، مرتّبة ويسودها جوّ صحّي.
كانت هذه أحكام تقوم عليها الجهرية توارثتها من خلال النسبة.
- بمجرد اختيارك مرشدا روحيا حقيقيا، يُلزِمك ميراث النقشبندية بتوليَته كامل ثقتك، فقدْر ضئيل من الشكّ سيعيق لا محالة نموّ شخصيتك وروحانياتك ويمنع ترقّيك.
هناك أناس لن يصلوا إلى أيّ مكان، سيفشلون في بلوغ الشطّ، سيَضيعون ولربّما يرتطمون بالجُروف لغياب المعلِّم الروحي في حياتهم.
قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. (المائدة، الآية 3)
فظنّ الّذين ليس لهم شيخ أو مرشد أن القرآن وحده كاف لهدايتهم، فاستغرقوا فيه مؤمنين باستغنائهم عن دور المرشد. نتيجة لذلك، ظهر بعض الزُّهَّد الذين انغمسوا منفردين في ممارساتهم الصوفية، فقاموا بِـ “الأعمال” بمفردهم وتعبّدوا بطرقهم الخاصّة.
لا تقبل الجهرية مثل هذا التقليد، لأنّ وجهة النظر هذه تتعارض بشكل مباشر مع القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ}. (السجدة، الآية 13)
لذا، فإن الجهرية تدعو لاتّباع المرشد، إذ أنّ من الجليّ أن عاقبة الخروف الوحيد ستكون مختلفة عن عاقبة القطيع.
مجازا، كان لراعٍ قطيعُ غنمٍ تشعر بأنها مسلوبة الحرّية، إذ أنّها كلّما كانت تجد مكانا مُعشوشبا وبه ماء تريد أن ترعى فيه أزاحها صاحبها عنه.
كانت أماكن رعيها محدّدة لا يُسمح لها بتجاوزها وكانت أوقات استراحتها راجعة لقرار الراعي حيث لا يمكنها فعل ذلك وقتما شاءت.
وقتها، كان هناك خروف لا راعيَ له يشاهد ما يحدث لتلك الأغنام، وكانت سعادته لا توصف لأنّه لا ينتمي لقطيعهم.
الخروف: “لحسن الحظّ أنا وحيد ولا راعيَ يتحكّم في تحرّكاتي، أرعى أينما شئت وأنام حيثما رغبت وأستمتع بكامل حرّيتي خلاف أولئك المساكين”.
عندها أتى عليهم الذئب، فأسرع الراعي بضرب الذئب بعصاه، ثمّ حمل بين ذراعيه خروفا عاجزا عن المشي، وأنقذ بكل شجاعة خروفا كان قد سقط في حفرة شديدة العمق ولم يبالِ قَطّ لخطورة الإقدام على ذلك. في نهاية المطاف، وصل الجميع آمنين إلى بيوتهم (رمزا لجنّة الفردوس)، بينما طارد الذئب الخروف المنفرد إلى أن قبض عليه وافترسه، فبئس الخاتمة خاتمة الخروف الوحيد.
تُلقِّن هذه الحكاية درسا عظيما للناس حيث وجوب ممارسة الدين جماعيا والانضمام إلى مدينة الإسلام المحميًة حيث يتواجد المرشد. لذا أضحت الرهبانية نادرة جدّا ومن الصعب إيجادها عند الجهرية لأن جميع الممارسات الدينية الجهرية تُقام في مجموعات، أمّا من انفصلوا عن الجماعة ومارسوا الجهرية بمفردهم فاختفوا تقريبا.
في تاريخ الجهرية، تم انفصال بعض الناس عن الجماعة، فخلال زمن وقاية الله (رضي الله عنه)، الذي كان ينتمي للجيل الرابع والأربعين من نسب رسول الله ﷺ، كان هناك عالِم شاب ذو علم واسع لكنّه مغرور، سمع أن وقاية الله (رضي الله عنه) قد استخلف الإمام العالم (رضي الله عنه) في أمور الدين، فلم يقتنع بذلك القرار وذهب إلى وقاية الله (رضي الله عنه) يسأله من الخليفة، فكان جواب هذا الأخير: “الخليفة مُؤذِّن من مدينة بينغ ليانغ”.
عندئذ قاد العالِم الشاب جماعة من الناس، وذهب ليلقي نظرة على الإمام العالم. فلمّا لقيه قال في قرارة نفسه مزدريا إيّاه: “لا هو أطول منّي ولا أصغر منّي سنّا، إن هو إلّا مجرّد مُؤذِّن”.
فرجع يسأل وقاية الله (رضي الله عنه) مرة ثانية: “من هو خليفتك في الأرض؟”
فأجابه: “لا أحد، كلّ من لم يرض باختيار الله للمُؤذِّن في الخلافة، فليكن خليفة”.
فانفصل عن الجهرية إثر ذلك أولئك الذين أرادوا حيازة الخلافة، ووُثِّقت هذه القصّة في كتب تاريخ نسبة الجهرية.
كذلك تَمّ في عهد الشيخ الإمام العالم (رضي الله عنه) انفصال بعض الناس عن الجماعة، ففي إحدى حلقات الذكر، وضع الشيخ الإمام العالم ثلاث عيدان بخور، أشعل منهم اثنين وترك الأوسط، ففهِم بعض الحاضرين بأن هناك شيئا غير متوقّع سيحدث.
بعد انتهاء حلقة الذكر تلك، قال الشيخ الإمام العالم (رضي الله عنه) للحضور: “اتّبِعوا طريقة الشيخ وقاية الله (رضي الله عنه)، وليتّبع الجيل القادم طريقة الشيخ قطب العالم (رضي الله عنه)” .
فانقسم الناس حينها إلى ثلاث فِرَق:
فرقة طبّقت كل ما أمرها به الشيخ الإمام العالم.
بينما قالت فرقة أخرى: لماذا علينا اتّباع طريقة قطب العالم؟ نتفهّم أمر اتّباع طريقة الشيخ وقاية الله حيث كان المتولّي لأمور ديننا، لكن يُستصعَب علينا فهم سبب تولية أمور ديننا لنسب قطب العالم.
وقالت فرقة أخرى: “لن نتّبع أحدا غير الشيخ الإمام العالم”.
فظهرت مجموعة من الناس مارست الدين بشكل فردي، لكن في نهاية المطاف اندثرت آثارهم جميعا.
- حَوْلَ عُرف الزواج
لا امتناع عن الزواج في تقاليد الجهرية الموروثة عن النقشبندية، وفيه يقول رسول الله ﷺ: “النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي، فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي”، وأضاف بما مفاده: “لِدوا كثيرا وربّوا كثيرا وأنشئوا ذريّاتكم على هدى الله” (نصّ الشطر الثاني من الحديث مترجم فقط وغير منقول حرفيا).
يجوز للمسلم الإعراض عن الزواج إذا لم تتحقّق فيه شروط الزواج، كأن يعاني من عجز جنسي أو عدم قدرةٍ على الولادة أو أيّة أسباب موضوعية أخرى تحُول دون زواجه.
من جهة أخرى، إن كان زواج شخص ما سيؤثّر سلبا على ممارسته
لدينه أو سيوجّه كليّة تفكيره إلى ما يتعلّق بمتع الزواج لا غير، فالحكم فيه أن الزواج لا يناسبه. بينما يكون الزواج صحيحا وضروريا إن لم يكن مصدر تشويش لعقل المسلم، أو سببا يعيق امتثاله لدينه وتركيزه عليه، فمقدرة الإنسان هي التي تَحكُم بوجوب زواجه أو بعدمه.
بالتالي، لا راهب في الجهرية، والزواج منصوح وموصّى به بشدة في عرفها.
تستنكر الجهرية مسألة الطلاق لما جاء في الحديث الشريف:
“ذات يوم، سأل الصحابة رضي الله عنهم رسول الله ﷺ:
أيّهم تكره من الناس أكثر يا رسول الله؟ فأجاب ﷺ: العَجِل بالطلاق، ومن بعد يا رسول الله؟ قال: المخالِف لوالديه، ومن بعد يا رسول الله؟ قال: المرتدّ عن دينه”.
(نصّ الحديث مترجم فقط وغير منقول حرفيا).
وهنا تنبيه على أنّ الطلاق بدون سبب أو باعث شرعي يُعَدّ أعظم من مخالفة الوالدين وحتى الارتداد عن الدين. لذا فإن الجهرية لا تؤيّد فكرة الطلاق، إلّا إذا كانت دواعيه تتناسق مع شروط مأذونية الطلاق في الدين.
يُروى في النقشبندية أنّه: “في حالة الحضور الحقيقي مع الله، يُعَدّ كل نفَس ينبع من القلب أجدى من الإتيان باثنين وسبعين ألف ابن”، ويستند البعض على هذا القول داعين الناس إلى الانقطاع عن الزواج.
من الضروري على كلّ شخص أن يعلم بأن هناك ثلاث مراحل للاتّحاد: أوّلها المعيّة وثانيها الفناء وآخرها البقاء، وقلّة من الناس فقط تستطيع بلوغ المقام الأخير.
يقولون في حالة الفناء الحقيقية: “نفَس واحد نابع من القلب أجدى من اثنين وسبعين ألف ابن”، وجليّ أن هذه المقولة ليست دليلاً على مشروعية الإقلاع عن الزواج، فلا هي حديث شريف ولا هي نصّ قرآني.
لمّا تأمّل العُزّاب في قصر الحياة الدنيا وعجلتها، اعتقدوا أنّ استمرارهم على العزوبة سيعينهم على عبادة الله بشكل أفضل وممارسة دينهم بورع أكبر. و لمّا كان مبتغاهم ذاك شخصيا بحتا نابعا عن حسن نية، تبنّت الجهرية موقفا متسامحا ومتّسما بالاحترام تجاههم، حيث أنّها لا تُصدر أيّة أحكام تعسّفية عن الممتنعين عن الزواج المُنتمين لبعض طرق التصوّف الأخرى.
- ماذا يتوجّب حقّا على النقشبندي فعله أثناء عيشه في هذه الدنيا؟
تنقسم العبادة القلبية عند الجهرية إلى شطرين، شطر سطحي وشطر جوهري. أمّا السطحي فهو التفكّر والتأمّل من غير ممارسة أو تطبيق. وأما الجوهري فهو العطاء، وتكريس النفس لخدمة الدين، وبذل جهود دؤوبة للتحرّر من سطوةِ مادّية الحياة الدنيا وشهوات النفس والأنانية والأنا، لأجل تسخير كلّ سلوكيات الفرد الحياتية لخدمة المبتغى الأسمى “خدمة الخَلق”، وذلك بإرشادهم إلى الحقيقة وتوجيههم للاعتقاد الصحيح.
عندما يتمّ دمج الروح الحقيقية للتصوّف مع كلّ سلوكيات المرء الحياتية، يصير بكلّ فعل هو فاعله طالبا رضا ربّه ولقاءه والوجهة الأخيرة لا غير. حينئذ، يتأتّى له ولوج السبيل المقرِّب إلى الله ونيل مقام القرب منه سبحانه والإبقاء على ثبات روحي وتركيز يدوم طوال الحياة.
عندما تُنقش روح التصوّف الحقّة في قلب المريد، والتي تتمثّل في خدمة كل الخَلق، تسهُل عليه كل أمور الدنيا. فحينما يتمكّن المريد من تجاوز مخاطبة العقول شفهيا إلى لمس الأرواح وهداية القلوب يكون عندئذ سائرا على خطى الهدي النبوي، وهي منزلة عشرات آلاف الأنبياء. وبالتالي إذا استطاع المرء أن يجذب الناس بلسانه ويغيّر أسلوب حياتهم بقوّة روحه، فإنّ مفاهيمه وأحكامه تكون قد حقّقت فهم الحقيقة المطلقة.
سادسا. عوامل الخطر التي تشكّلت في صفوف الجهرية والنقشبندية ترتُّبا عن الميراث
- 1. صنّف أهل السنّة والجماعة (المقصود هنا: النقشبندية) كلّ البلدان تحت ثلاث فئات:
أ. دولة مسلمة، رئيسها أو قائدها مسلم، وتمتثل كلّيا للقرآن والشريعة. تُعدّ حمايتها فرض عين.
ب. بلد ودّي، قادته ليسوا مسلمين، لكنّهم يهتمّون بأمر المسلمين ويسمحون لهم بحريّة العقيدة. فتكون حماية هذا البلد واجبة وتكاد تكون إلزامية.
ج. دولة معادية، زعيمها مسلم أو غير مسلم، لكنّه ظالم ومستبدّ، لا يسمح بحريّة الاعتقاد، ويضطهد المسلمين ويذلّهم، ويطردهم ظلما وعدوانا. الواجب هنا مقاومة هذا الاستبداد الظالم.
بسبب هذا الميراث، قام البعض من ذوي الدوافع الخفيّة بتضخيم النقطة الثالثة والتركيز عليها بشكل متطرّف لتحريض الناس ودفعهم لمحاربة الحكومة.
تذكير: يجب أن نلتزم بقواعد أهل السّنّة والجماعة بشأن هذه القضية، وهي أن قومية “هوي” التي تنتمي لأهل السنّة والجماعة الصينية التقليدية دائما ما تسعى من أجل تحقيق حقّها في الاعتقاد الديني حيث كان ذلك دوما وما يزال همّها الأوّل والأخير. هي لا تهتمّ أو تهدف بأي شكل من الأشكال لشغل مناصب قيادية حكومية، طالما تتمتّع بحريّة الاعتقاد.
طبيعة الإسلام لا تتغيّر. الإسلام هو الاعتقاد والإيمان وطريق الرجوع إلى الله. كل الخلق أَتَوْا من عند الله، غير أنّ منهم من لن يستطيع الرجوع إليه سبحانه نتيجة كفره وخطاياه، فإن هو وجد طريق الإسلام وجد طريق العودة إلى الله.
إذا حصّل المرء أرباحا من خلال الإسلام، فكأنّما استخدم إيمانه كأداة لكسب المال، فيُحوِّل دين الإسلام إلى مؤسّسة ربحية تتاجر بإيمان الخَلق، وينقلب بذلك من مؤمن إلى مرتدّ.
إذا اُستخدِم الإسلام للإطاحة بحكومة البلاد، لا يُعَدّ حينها دينا بل يغدو أداة لإسقاط سلطة الدولة، عندها يتحوّل من عقيدة صحيحة إلى حزب سياسي لا أكثر، فينقلب التديّن إلى رِدّة.
روح الإسلام الصينية ركيزة راسخة ومتينة تحمي الثابت عليها من احتمالية الوقوع في الخطر الأول.
- تشكّلت نقاط الإسلام الحسّاسة على ضوء الفكر المستنبط من الميراث
إن صادفت القضايا التي تخدم الإنسانية عوائق ومقاومات رأى بعض الناس المخرج في حلّين: استمرار العمل الخيّر في خفاء حتى لا يعلم به أحد وبالتالي تحقيق حماية النفس من الأذى أو خوض معركة التغلّب على الشر إلى آخر نفس.
لذلك، تم تشكُّل عدّة نقاط حسّاسة:
الإسلام في حدّ ذاته نقطة حسّاسة، القرآن نقطة حسّاسة، علماء الإسلام المرموقون نقاط حسّاسة، وكذا المساجد هي الأخرى نقاط حسّاسة.
غالبًا ما يكون لهذه النقاط الحسّاسة بعض التأثيرات السلبية، حيث تُستغَلّ من طرف ذوي الدوافع الخفيّة لتحقيق أهدافهم السرّية.
يقول البارئ عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة، الآية 111).
هنا مثلا، استغلّ بعض الأشخاص هذا الحكم القرآني لحثّ الناس على مقايضة حياتهم وممتلكاتهم مقابل الجنّة حتّى وإن عارض ذلك مبادئ الإسلام. في حين أنّ معنى الآية الحقيقي هو بدل الحياة والأموال في أعمال الخير، وفي تمهيد الطريق للناس للسعي من أجل الحقيقة المطلَقة، وليس بدلها من أجل إسقاط الحكومة أو تحويل الإسلام إلى أداة لجلب غايات سياسية. وتعتبر هاتين الغايتين نقطتي خطورة وجب تجنّبهما تماما في ميراث الجهرية.
“لا تخلٍّ عن الدين ولو بالروح، فما ضَرْبُ الأعناق عندنا بشيء إلّا كقبّعات تُطايرها الريح”: شعار أشعل فتيل روح التضحية وشكّل نقطة حسّاسة في الجهرية.
إن السبيل الوحيد لحلّ أيّ صراعات أو نزاعات يكمُن في حفر السّدّ عوض منع جريان مياهه، فعلينا تحديدا تبنّي منهج “كينغ يو” في حفر السّدّ وصرف المياه حتّى نتمكّن من ضبط الفيض بنجاح، أما منهجية ‘ياو’ و ‘شون’ المبنية على إعاقة انسياب مياه السّدّ فلا بدّ من تجنّبها والابتعاد عنها بشكل تامّ. (كادت هذه المنهجية حينها أن تنجح في منع تدفّق المياه، غير أن ارتفاع منسوب هذه الأخيرة دمّر السد وأدّى إلى خسائر عظيمة).
بالتمعّن في تاريخ الجهرية وتاريخ الإسلام في عهد سلالة تشينغ الصينية، وجدنا أن معظم العواقب السيّئة التي طرأت حينذاك تولّدت عن نقاط حسّاسة وانحرافٍ في الأساليب.
تتلخّص تجربة كلّ ما مضى من سنين، في أنّ الطرق الصوفية الصينية (المتمثّلة في الجهرية وثلاث طرق أخرى) انبثقت جميعها عن سنّة نبينا ﷺ وتنتمي لأهل السنّة والجماعة.
يوافق هذا الإرث ما قاله نبيّ الله ﷺ: “يحبّ المسلم وطنه حبّ الطائر عشّه”
(نصّ الحديث مترجم فقط وغير منقول حرفيا).
لا بدّ من تحقيق بيئة متناغمة إن كان المبتغى حريّة حقيقية في الاعتقاد. تتساقط القنابل على منازل فلسطين متهدّمة فوق رؤوس أصحابها وهم يتعبّدون، وتنفجر عبوات ناسفة في مساجدها أثناء صلاة الجماعة. كيف لحريّة العقيدة أن تُنال وكيف للعبادات الإسلامية أن تُمارس في ظلّ هذه الظروف؟ فلنتأمّل مليًّا في هذه المسألة.
يمكن لنقطة حسّاسة واحدة أن تتسبّب في تأثير مضاعَف ومتفاقِم، فإن هي صادفت وجود مرشد، حكَمها وسيطر عليها وحجَمها عن التسبّب في معضلات مستقبلية.
“نفضِّل أن يدين لنا الناس في الدنيا على أن ندين لهم في الآخرة”: عبارة قالها الشيخ عبد الجامع (ما دْجِن وُو) رضي الله عنه المنتمي للجيل الثامن والأربعين من نسب رسول الله ﷺ أدّت إلى نزع فتيل التوتّر بين المريدين وإجهاض بوادر الصراع مع غيرهم من المعتدين.
لم تكن رؤية الشيخ عبد الجامع رضي الله عنه وهو يتعرّض للنقد والاتّهام والإهانة مرّات عديدة خلال الثورة الثقافية في تلك الفترة متقبّلة من طرف بعض المريدين، فطلبوا منه أن يأذَن لهم بسلك سبيل الشهادة، لكنّ الشيخ ابتسم وقال: “نُفضِّل أن يدين لنا الناس في الدنيا على أن ندين لهم في الآخرة”.
بفضل هذه المقولة ظلّت الجهرية آمنة في تلك الفترة، فلم تتورّط في مخاطر كبيرة ولم تعان من مصائب عظمى.
لم يفهم الناس حينها كيف أمكن لطائفة “الأعناق الدامية”، وهي طائفةٌ لسان حالها: “ما ضرْبُ الأعناق عندنا بشيء إلّا كقبّعات تُطايرها الريح” أن تعيش بسلام وأمان بينما كانت تواجه تحدّيات شديدة كتلك.
في واقع الأمر، كان الفضل في كلّ ذلك يعود للرجل الذي بكلمته بثّ السكينة والطمأنينة في قلوب الناس. ونحن ما زلنا حتّى اليوم نهتدي بقوله المأثور كجزء من ميراث الجهرية.
من الممكن العيش في سلام وتناغم، وإنقاذ أمور عديدة من الخطر، وحلّ الكثير من الحيثيات والمشاكل الخفية بِيُسر مُطلق، إذا ما زاد التواصل والتفاهم بين المرشد ومريديه بصفة خاصّة وبين أهل الجهرية وبقيّة الناس بصفة عامّة، فنُحصِّل مستقبلا أكثر جمالا وانسجاما.