نفيسة العلوم والتقى والورع
السيدة نفيسة كريمة الدارين ونفيسة العلم التقية الورعة العابدة الزاهدة ولدت رضي الله عنها وأرضاها ونشأت بمكة عام ١٤٥ ه ، والدها الإمام الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبى طالب رضي الله عنهم أجمعين ، كان واليا على المدينة المنورة في صغرها انتقلت إلى مدينة جدها المصطفي وكان عندها خمس سنوات ، فأهتم والدها رضي الله عنه بأن يلقنها العلوم منذ نعومة أظافرها فكان لديها شغف وولع بالعلوم الدينية فسمعت كتاب الموطأ من الإمام مالك وحفظت القرآن ودرست الحديث وكان جُل اهتمامها بالعبادات. كان أبوها سيدي حسن الأنوار يدعو لها قائلا يا سيدي يا رسول الله إني راض عن نفيسة فرأي في منامه النبي يخبره بأنه ايضا راض عن نفيسة والله راض عنها.
ولما بلغت سن الخامسة عشرة تزوجت رضي الله عنها من إسحاق بن جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين رضي الله عنهم وكان ملقبا بإسحاق المؤتمن فاجتمع النوران نور الحسين ونور الحسن وانجبت السيدة نفيسة منه ولدين القاسم وأم كلثوم.
مكثت رضي الله عنها بالمدينة ثلاثين عاما ، كانت تحج كل عام ماشية وكان من شدة تقواها تبكى بكاءا شديدا متعلقة بأستار الكعبة وتقول إلهي وسيدي ومولاي متعني وفرحنى برضاك عني فلا سبب لى أتسبب به بحجبك عنى .ويسر الله لها بدعائها زيارة قبر خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام مع زوجها .
تعطرت وأزهرت مصر بقدومها مع زوجها سيدنا إسحاق المؤتمن رضي الله عنهما عام ١٩٣ ه ، فما أن سمع أهل مصر بقدومها وتلقاها النساء والرجال بالهوادج من العريش ، واستضافها كبير التجار بمصر جمال الدين عبد الله الجصاص وكان من أهل البر والصلاح فأقامت بداره عدة شهور يأتي إليها الناس من سائر الآفاق لزيارتها المباركة وكثر الخلق علي بابها وعظم الأمر فأشغلها الناس عن عباداتها وأورادها فطلبت عند ذلك الرحيل إلى بلاد الحجاز عند جدها فأبى أهل مصر وهرعوا إلى السري بن الحكم أمير مصر لمنع رحيلها فلما ذهب إليها قالت إني كنت نويت الإقامة عندكم وأنا أمرآه ضعيفة والناس قد أكثروا من المجيء عندي وشغلوني عن أورادي وجمع زادي ومكاني هذا صغير وضاق بهذا الجمع . فقال لها السري سأزيل عنك كل هذا فحدد للناس يومي السبت والأربعاء بالأسبوع لمقابلتها ولتتفرغ للعبادة باقي الأيام وأهداها دار واسعة بدرب السباع بالقاهرة فقبلت الأمر .
كانت السيدة نفيسة زاهدة تقية ورعة روت عنها بنت أخيها زينب بنت يحيي المتوج أنها خدمت عمتها أربعين سنة فما رأتها نامت بليل ولا أفطرت بنهار فسألتها أما ترفقين بنفسك يا عمتاه ؟! فقالت لها كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبات لا يقطعهن إلا الفائزون وذكرت ابنة أخاها عنها أنها كانت تأكل كل ثلاثة أيام أكلة وكانت لها سلة معلقة أمام مصلاها كلما اشتهت شيئا وجدته في السلة وترى عندها ما لا يخطر ببال ولا تعلم من أين يأتى فسألتها متعجبة فقالت لها يا زينب من استقام مع الله تعالى كان الكون بيده وفي طاعته. ومن أقوالها المأثورة كم حاربتني شدة بجيشها فضاق صدري من لقاها وانزعج … حتي إذا آيست من زوالها جاءتني الألطاف تسعي بالفرج.
لها من الفضل الجزيل والمناقب الكثيرة لفضلها وقد أيدها الله بكرامات عدة نذكر بعضها ، فعن سعيد بن الحسن قال توقف النيل في زمانها فجاء الناس إليها وسألوها الدعاء فأعطتهم قناعها فجاءوا إلى النهر وطرحوه فعاد وافراً وزاد زيادة عظيمة. ولما ظلم أحمد بن طولون الناس استغاثوا بها من ظلمه وتوجهوا لها لشكوته فكتبت له قائلة يا أحمد يا ابن طولون ملكتم فأسرتم وقدرتم فقهرتم وخلوتم فعسفتم وردت إليكم الأرزاق فقطعتم هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة لا سيما من قلوب أوجعتموها وأكباد جوعتموها وأجساد عريتموها فمحال أن يموت المظلوم ويبقي الظالم اعملوا ما شئتم فإنا صابرون وجوروا فإن بالله مستجيرون واظلموا فإنا إلي الله متظلمون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فعدل .
كان يتردد إليها الإمام الشافعي ويصلى بها التراويح في مسجدها برمضان ويأتى إليها ويسألها الدعاء وسماع الحديث منها ، وكان إذا مرض يرسل أحدا من أصحابه إليها ويقول لها ابن عمك الشافعي مريض ويسألك الدعاء فتدعو له فلا يرجع القاصد إلا وقد عوفي من مرضه ، ولما مرض الشافعي مرض الموت وأرسل لها قاصدا فقالت له متعه الله بالنظر إلي وجهه الكريم فعلم الشافعي انه ميت وأوصى ان تصلى عليه فصلت عليه مأمومة بالإمام أبو يعقوب البويطي أحد اصحابه . وقال بعض الصالحين ممن حضروا الجنازة سمعت بعد انقضاء الصلاة أن الله تعالى غفر لكل من صلى علي الشافعي وغفر للشافعي بصلاة السيدة نفيسة عليه.
وورد عنها أنها قد حفرت قبرها بيدها وقرات القرآن الكريم فيه ما يقرب من مائة وتسعين ختمة . ومرضت رضي الله عنها في شهر رجب وزاد عليها الألم في اول شهر رمضان وزاد عليها وهي صائمة فدخل عليها الأطباء ينصحوها بالإفطار فقالت واعجباه لي ثلاثون سنة أسأل الله عز وجل أن يتوفاني وأنا صائمة فأفطر فأنشدت تقول :
اصرفوا عني طبيبي .. ودعوني وحبيبي.
زاد بي شوقا إليه…
وغرامي في لهيبي.
وفي أوساط شهر رمضان احتضرت وذكرت قول الله تعالي … لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
وفاضت روحها الطاهرة وانتقلت عام ٢٠٨ ه أي بعد وفاة الإمام الشافعي بأربع سنوات. اراد زوجها إسحاق المؤتمن أن يدفنها بالمدينة فاستجار الناس بأمير مصر ليرد إسحاق عما أراد فأبى إلي أن رأى إسحاق رؤيا يأمره النبي ألا يعارض أهل مصر في نفيسة فإن الرحمة تتنزل عليهم ببركاتها وحظيت وشرفت مصر بوجود مقامها الشريف رضوان الله عليها.