نمو الروح الجديدة للقومية والاهداف الاقتصادية الخطر الداهم والذاتي لمستقبل الاتحاد الاوروبي
لقد جاء تأسيس الاتحاد الاوروبي في خضم مرحلة مصيرية وتأسيسية للقارة العجوز ، هذه القارة والتي عصفت بها الحروب الدامية والظروف القاسية محدثة بها التغييرات المحورية بالوان ومذاقات مختلفة من السياسة والقانون والقيم والثقافات ، بتقاطع ظرف ايديولوجي في المصلحة، بانه الزمن المناسب للمرحلة التكاملية الصرفة بين الدول في فضاء اتحادي واحد ، موحد المصير ، أحادي الهدف ، وبنظرة مستقبلية وخطة تنموية جامعة وواحدة ، فكان الاتحاد الاوروبي والذي أبصر النور في مرحلة دقيقة للعالم أجمع بشكل عام ولاوروبا بشكل خاص .
حيث تشكل الاتحاد الاوروبي وتم التوقيع على معاهدة باريس المنشئة للجماعة الاوروبية للفحم والصلب في العام 1951 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وفي فترة سطوع ما يسمى بالنظام العالم الجديد والانطلاق الجدي لمنظمة الامم المتحدة من بعد ما فشلت عصبة الامم في مهمتها بحفظ السلام العالمي ، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية برزت اساليب جديدة على الساحة العالمية ، كالمصطلحات الكيانية والقيادية الجديدة والمنطق الجديد في الحفاظ على توازن القوى ، حيث كانت الموجة الاساسية للحفاظ على الكيان والذات والتوسع في السلطة وتحقيق المكاسب تكمن في السعي لتأسيس فضاءات وكيانات واتحادات جامعة تستلم هي الدفة في البناء التحالفات وصناعة الاحداث والقرارات المصيرية العالمية تحت مظلة الامم المتحدة ولكافة ارجاء المعمورة .
في هذه الاثناء شعرت الدول الاوروبية بالرغم من فوزها في الحرب ومشاركتها التأسيسية في بناء النظام الجديد في الغبن المرحلي على الصعيد اللوجيسيتي والقيادي وانتابها الشعور في التراجع والقصور ازاء المارد الاميركي وهو الحليف , والتوجس والريبة من الاتحاد السوفياتي السابق الشريك الجغرافي الجيوبوليتيكي في الارض المختلف حكما في العقيدة والاستراتيجية والاهداف , فامام ذلك السندان وتلك المطرقة كان لا بد للاوروبيين التكامل والتناغم التام والانصهار لحماية وجودهم وكيانهم وللدفاع عن تاريخهم والتأسيس لمستقبلهم بحسب ما تطلب الحاجة والظروف .
كان الانصهار التام في الاتحاد حلم يراود الاوروببين منذ القدم والأزل، حيث خاضت اوروبا العديد من الحروب الدامية فيما بينها بين الملكيات والامبراطوريات والعائلات النبيلة بهدف ايجاد الصيغة المناسبة للتوحد ,غير ان هذا الوقت لم يكن قد حان بعد لتغليب المصلحة العليا الجماعية القارية على الوطنية , حيث جاءت هذه الفرصة من بوابة الامن المشترك , ومن اجل حماية الامن الاستراتيجي الواحد فتوحدت القوميات الاوروبية المختلفة عندئذ في قومية واحدة وهي القومية الاوروبية والتي علت وتسامت على باقي القوميات والمكتسبات الاجتماعية , كنتيجة للحاجة الاوروبية للامن مشترك للدفاع عن النفس والكيان, ومن اجل تفادي الذوبان ومن اجل التوحد في كتلة اقتصادية ضخمة تكون ندا في مواجهة التكتلات الضخمة المتاخصمة والمنافسة مع التكتلات الحليفة .
لقد حلق الاتحاد الاوروبي بعيدا مؤكدا بانه أهم تجربة انصهار واندماج تكاملية في العصر الحديث , صمدت بوجه أزمات ومشاكل عديدة , مرجعا صالحا ومصدرا ملهما ومثالا أعلى لأهم الأسس والمبادئ القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي كرست شكل الدولة الحديثة وثبتت الياتها واساليب حكمها وادارتها .
استمر الاتحاد الاوروبي في التحليق بعيدا وبتكريس نفسه نموذجا جميلة لاسلوب الحياة الجميل والقيم الاوروبية المشتركة والعادات والتقاليد العصرية الى ان وصل الى تناغمه التام بالعملة المشتركة فكانت هذه الفترة المرحلة الذهبية للاندماج , الى ان اتت الازمة المالية العالمية في العام 2008 والتي عصفت بالعالم وفتكت بمؤسساته الكبرى وشركاته العملاقة ومراكز قراره ومن ثم جائحة الكورونا 2020 غير المتوقعة بحسب مدركات سياساتهم السطحية , الامر والذي عرض العديد والكثر من اقتصاديات الدول الى الهتك والتفتيت والدمار , بحيث لم تسلم القارة الاوروبية بشكل عام , والاتحاد الاوروبي بشكل خاص من مفاعيلها ,لقد استطاعت هذه الازمة بغض النظر من كونها مفتعلة او طبيعية بحكم النظام الاقتصادي او تغير شكل العالم وان تبدل من اولويات الدول.
لقد ضربت هذه الازمة الاتحاد الاوروبي في عصبه وادخلته في غيبوبة مؤسساتية ومرفقية ووجودية معرضة الفكر الاندماجي والانصهاري للخطر وفاتحة المجال لاستفاقة المارد الانعزالي والانطوائي ونمو النزعة السلبية للروح القومية والمتمثلة بالشعبوية وجاءت جائحة الكورونا المستفحلة معززة لهذا الشؤم والسواد في المصير , فبعد ما يقارب الستين عام من هذا الاندماج نجد بان الاهداف والاولويات والتي بسببها قد خطت اوروبا خطوتها الاتحادية لم تحقق بالكامل حيث سقط الفكر الانصهاري بالفخ الاقتصادي والمالي وبسببه , فالاهداف الاوروبية الجامعة والتوحيدية والاولويات الاوروبية الصرفة والمتمثلة بالحدود المشتركة الواحدة ونظريات الامن القومي الاوروبي والجيش الاوروبي والسوق الاوروبية المشتركة لم تعد ذلك , اضافة الى ان الاستراتيجيات والتي تنظم علاقاتها بالعالم لم تعد موحدة كذلك .
حيث بدأت هذه التجربة الانصهارية في مختلف ابعادها الكيانية والمؤسساتية والجغرافية والمجتمعية بالاهتزاز والتراجع لصالح الانعزالية والشعبوية وتداعيات ازمة الكورونا خير دليل , اذ خفت وهج التضامن الاوروبي بين دوله الاعضاء لصالح الانطوائية والتقوقع , حيث بدأت تلوح في الافق الاوروبية بوادر مشكلة وصراع تلك القارة والتي عانت من الحروب التنازعات منذ القدم , والسبب المباشر في ذلك الازمات الاقتصادية والمالية والتي لم يكن الاتحاد الاوروبي محصن لها بالكامل ولم يتعامل معها بالجدية المؤسساتية التامة فلم يجدد التزامه بحماية وتقوية التنوع الداخلي ناهيك عن ضياعه لبوصلة التأمين الاتحادي الشامل .
لقد اصيب الاقتصاد الاوروبي بفعل الازمات المالية والاقتصادية والصحية بحالة من الانكماش والتباطؤ , وتراجع نموه وضعف الميزان التجاري للمدفوعات للعديد من دوله الاعضاء الامر الذي انذر بموجة كبرى من الانهيارات والافلاسات , ما مهد الطريق بشكل سلس وممنهج لعودة السلوكيات المتطرفة والافكار الراديكالية المنحرفة والقوميات الانعزالية والسلبيات والمبنية على الاختلاف في العرقي والاثني, بدافع مكافحة الارهاب والهجرات المتكررة وموجة اللاجئين الخطرة , والاهم من ذلك هو عودة ما يسمى بمصطلح الشعوب الاصلية الاوروبية وحمايتها وتحصينها ازاء كل هذه المتحولات الاستراتيجية والايديولوجية والتي غيرت بالاولويات السياسية والاقتصادية والسلوكية للمجتمع بجنوحه نحو نوع من الانانية متخلي بالتدريج عن القيم والافكار والانظمة والتي جاهد وحارب لكي ينشرها على امتداد النص القرن حيث اصبح الشعار مستقبلنا في قوميتنا وليس في اتحادنا .
حيث مس هذا التغيير ايضا المجال السياسي والاولويات الاوروبية , مع صعود التيارات والقوميات الانفصالية والسلوكية الانطوائية والتي اضحت تخاف من الاخر وتتوجس منه , الامر الذي مهد البيئة الحاضنة لاطلاق الموجات البشرية والاجتماعية الانعزالية بدافع حماية الكيان والذات , اضافة الى الانهيار الشامل للاحزاب الوسطية والليبرالية واليسارية حاملة لواء الفكر والمشروع الاندماجي , بتصاعد متواز لاصوات اليمين والمنادية بالانفصال , على الرغم من التقاء المصالح بين النهجين والتقاطع الاستراتيجي السابق والذي افضى الى تأسيس الكيان الموحد , حيث ان اليسار تواق الى البوتقة الاوروبية المتضامنة واليمين يعمل على هدف التكامل الاقتصادي الموحد لبناء كتلة اقتصادية ضخمة كانت نواتها الصلب والحديد متطلبات الصناعات الكبرى بعد الحرب .
للاسف سقط الاتحاد الاوروبي في فخ مبادئه والتي اسسس عليها بسبب عجزه عن الدفاع عنها , فهو الان بين مرحلتين مهمتين ومصيريتين , ذلك ان تأسيس الاتحاد الاوروبي كان لهدفا اقتصاديا مهدت له الظروف الاجتماعية والمالية والسياسية والقانونية والظرفية لتحقيقه , وساهمت في توسعه وبناءه لفترة من الزمن , وها نحن اليوم ولسبب معاكس اقتصاديا لنهج تأسيسه اضافة للازمات الاقتصادية والمالية والصحية تهدد الاتحاد الاوروبي بخطر التفكك والانفراط , ولحاجة المجتمعات لسلوكيات اقتصادية وادارية جديدة ونوعية يعجز عنها وفي تلبيتها الاتحاد الاوروبي لفراغ وقصور مؤسساته , بات لزاما على الاتحاد اما التغيير الجذري والنوعي لاستراتيجيته والمضي قدما بمرونة الواقع نحو الجسم الكلي والمتكامل , او ان عليه ان ينتظر المصير المحتمل ولو انه ليس بقريب .