المناضل أحمد الجمال.. والضفيرة الحضارية المصرية (4-4)

وهو الخطيب المفوه والمناظر الشرس :
المتابع لكاتبنا الكبير يعرف أنه خطيب مفوه .. عندما يتحدث فى الندوات ويخطب فى المؤتمرات يلهب مشاعر الجماهير .
وعنده ملكة الانتقال من نبرة صوت إلى أخرى صعودا وهبوطا .. لتهب عواصف التصفيق والهتاف .
ويمتلك مهارات الخطابة والتواصل فى الحورات الفكرية والسياسية والخطابة العامة .
وتظهر مواهبه الخطابية جلية فى مناظراته السياسية والثقافية :
مثلما حدث فى مناظراته الشرسة مع الأساتذة : ” سعد الدين إبراهيم , صلاح بسيون , محمود جامع , على سالم , القيادى الوفدى أحمد عودة ” 1)
وفى أحد لقاءاته التليفزيونية وعلى الهواء وبدون إعداد عندما علم أن أحدهم كتب مطالبا باعتبار إرهابى سيناء ” أسرى ” انتفض قائلا :
” هذا تدويل لقضية سيناء وإلغاء للدستور والقوانين المصرية ونسف للبنية التشريعية المصرية وتدخل فى أعمال القضاء .. مثل هذا الكلام – ولا أتكلم عن صاحب الكلام – يدخل فى خانة ونطاق الخيانة لهذا الوطن ” 2)
وهو ابن القرية المصرية ” جناج نموذجا ” :
كاتبنا الكبير ولد بإحدى القرى المصرية ” قرية جناج بوسط الدلتا ” وهو عاشق لقريته متيم بحقولها وأشجارها وحاراتها وعاداتها .. ورزقه الله ذاكرة فذة تختزن الوقائع بجميع تفاصيلها
وقام كاتبنا الكبير بكتابة عشرات المقالات عن ذكرياته بالقرية لتكون مادة خام لعلماء
” الأنثروبولوجى ” .
وهذه عناوين بعض هذه المقالات ” فى ليالى الريف , أشجار فى سكة العبد لله , شهر اللقمة الطرية , عودة إلى الريف , عفريت الهرمونات , الريف والسرقة الحلال , الشجرة الباكية , خالدة الذكر ” الطبلية التى تجتمع العائلة عليها للطعام ” , الزريبة والأرز والطوب والبطالة , شحطات ريفية , خالى عبد الوكيل , مدعكة الكسوة ” .
وفى هذه المقالات يحكى بالتفصيل عن :
” كيفية تحضير القمح للزراعة , وجنى القطن ونقاوة الدودة ودراس القمح وحكايات الجدة والكسوة وحكايات المراهقة ورؤية الفصول المختلفة فى الريف وليالى رمضان وأيام الفيضان وعن الساقية وأشجار الجميز والصفصاف والتوت وغير ذلك كثير ”
فيحكى عن دراس القمح كاملا منذ الحصاد وإحضار المحصول للجرن بواسطة الجمال وكيفية التحميل .. ثم كيفية الدراس بواسطة النورج ثم التذرية حتى إخراج زكاة المحصول فى الجزن 3)
ويحكى عن فطار رمضان على سطح البيت .. منذ انتظار آذان المغرب من على مأذنة المسجد الكبير بالقرية ” المسجد الهاشمى بجناج ” بدون مكبر صوت وكيفية فطور الرجال والنساء ثم قرءاة القرآن فى المندرة ليلا طوال الشهر الكريم بواسطة قارئ راتب .. ولعب الأطفال ليلا باللنضدة والذهاب لأضرحة الأولياء بالقرية 4)
وهذه نماذج لمقالات كاتبنا الكبير عن القرية المصرية :
يقول : ” وفى القيالة – أى القيلولة – تندفع النساء والفتيات والرجال والفتيان إلى رأس الغيط , حيث الترعة والأشجار إياها .. التوت والصفصاف والجميز والسنط والأثل والحور أو السرو وغيرها , ثم تجد غالبيتهم – أو كلهم – قد تمددوا على بطونهم على حافة الترعة وأفواهم تشفط المياة من المجرى مباشرة , لأن القلة أو الزلعة التى فيها مياة نقية نسبيا محجوزة لصاحب الغيط ولعمل الشاى على الراكية .. ثم تفتح الصرر – جمع صرة – المحتوية على وجبة الغذاء ومعظمهم يضع فيها خبزا فلاحيا جافا مصنوعا فى الغالب من خليط من القمح والذرة والحلبة ونسبة القمح أقل , والحلبة لزوم منع العفن .. ومع العيش شوية محدق ” 5)
وفى مقال آخر : ” وفى الدار تتم تربية الطيور لزوم البيض والذبح , وأيضا البيع عند الزنقة والاحتياج لسيولة نقدية .. وكذلك للإهداء أو الزوادة لابن أو أخ مغترب .. ويتحول الأمر لكارثة إذا جاءت ” شوطة ” أو ” فرة ” للقطيع كله أو أصيب واحد ” 6)
ويقول أيضا : ” وعلى المدار يجلس صبى أو فتاة ممسكا ” بالفرقللة ” وهى سوط مجدول جدلا محكما وصلبا من التيل أو الكتان , وله يد حديدية تتدلى من حلقتها العليا شخاليل حديدية , تصدر صوتا بمجرد تحريكها , وهذه اليد اسمهما فى منطقتنا من وسط الدلتا ” الدهوكس ” وهناك ارتباط شرطى عند الماشية بين صوت شخللة الدهوكس وبين أن السوط ” الفرقللة” ستنزل على جلدها .. فتبادر للإسراع فى المشى .. ولكن يكون اليوم أسود من قرون الخروب إذا سقطت البهيمة فى بئر الساقية وزعق صاحبه : ” الحقونى يا خلق هوه ..الحقونا الجاموسة – أو البقرة – وقعت فى البير ” ليهرول الفلاحون من سائر الغيطان المحيطة طالما سمعوا الاستغاثة ” 7)
ولكاتبنا الكبير إبداعات فكرية كثيرة نحتها عبر تعمقه فى قراءة التاريخ المصرى عبر حقبه المتتابعة وعبر خبراته فى الحياة الدينية والثقافية والسياسية المصرية وعبر معرفته العميقة بالوجدان المصرى مثل :
1-خميرة التقدم :
يرى أنه يمكن لمجموعة صغيرة “خميرة ” أن تبدأ التفاعل لتنتقل إلى محيط أوسع فأوسع .
مستشهدا بقول السيد المسيح عليه السلام : ” قليل من الخميرة يخمر العجين كله ” 8)
2- مصر وزهرة اللوتس :
يقول : ” مصر مثل زهرة اللوتس عندما تتماسك تقفل للداخل .. وعندما تفتح تفتح للخارج ؛ لكى تضمن أمنها القومى .. مصر المتماسكة المتوازنة تصبح قوية عندما تسيطر على النهر ” 9)
3- الضفيرة الحضارية المصرية :
يقول :” إن مصر وجدت فكرة الضفيرة .. فكل الأنشطة ضفائر
والمحروسة قد ضفرت أشياء لا تخطر على البال معا ” إيزيس مع العذرا مع أم هاشم ” والشخصيات الثلاثة لقبت بالطاهرة .. ورغم أن أم هاشم تزوجت .. مما يعنى أن الطاهرة لا تعنى البتولية .. وإنما تعنى ” الصبر على المحن ” .
” المرأة فى مصر هى عمود الخيمة .. هى اللى ماسكة مفتاح الكرار .. صابرة محتسبة طاهرة عفيفة تعمل ليل نهار .. هى اللى مجدها المصريون فى رسومهم القديمة .
هى إيزيس:
اللى شافت زوجها أوزوريس وهو بيتقطع من الإله ست فبكت ومن دموعها جاء فيضان ماء النيل ثم جمعت أشلائه وتمددت إلى جواره فحملت حملا معنويا فى حورس.. وربت حورس على الشرف والثأر إلى أن انتقم من ست ” إله الشر ” دى أمنا الكبيرة السيدة الأولى فى مصر هى إيزيس .
هى العذرا :
التى شهدت ابنها وهو لابس تاج من الشوك ومشى على الشوك حافى ومنزلينه مربطينه وملبسينه قميصر أورجوانى وودوه إلى مكان الجلجثة – وفق المعتقد المسيحى – عشان يصلبوه وهى تبكى فقال لها لا تبكى فتحملت المشهد العذرا .
ولكنها وهو طفل رضيع تحملت مشقة السفر من بيت لحم حتى دير المحرق بأسيوط ماشية وراه
هى أم هاشم ” السيدة زينب ” الطاهرة :
اللى شهدت كربلاء وشاهدت أخاها الإمام الحسين رضى الله عنه يذبح فى كربلاء وابنيها عون ومحمد يقتلا فى كربلاء وشاهدت الإمام الحسين وهو يقبض قبضة من دم ابنه عندما ضرب بالنشاب ومات عطشانا وقادت موكب أسرى آل البيت ثم جاءت واحتمت بالمحروسة وأصبحت عميدة آل البيت ”
المصريات النموذج بتاعهم إيزيس والعذرا وأم هاشم … واللى بيجمع بينهن الثلاثة هو
” التضحية والفداء والصبر على المحن ” 10)
4- الخمسة وخميسة :
يقول : ” وأبدعت المحروسة أيضا ” الخمسة وخميسة ” وفى ظنى أن الخميسة تعنى الأسر المقدمة التى زارت مصر ” إبراهيم عليه السلام وأسرته , يعقوب عليه السلام وأسرته , موسى عليه السلام وأسرته , السيد ٠المسيح وأمه ويوسف النجار , آل بيت النبى محمد رضى الله عنهم ” 11)
وبعد هذه الجولة فى حياة ونضال وفكر كاتبنا الكبير أحمد الجمال يتبين لنا الآتى :
1- أن الأستاذ أحمد الجمال من المثقفين الموسوعيين الكبار الذين تعمقوا فى ” التاريخ , والثقافة , والدين , ودخل عالم التصوف , والفلكلور الشعبى , وخاض غمار السياسة من زاوية الوطنية وليس الأيديولوجيا , وعمل ببلاط صاحبة الجلالة , وخاض المناظرات دفاعا عما يؤمن به , ويقف على ثغر الفكر القومى العربى , ويعتبر أيقونة من أيقونات المواطنة والوحدة الوطنية ” .
2- أن كاتبنا الكبير عاش الحياة ويمتلك تجربة ثرية ؛ يجب أن تدرس ليستفاد منها .. وفى نفس الوقت كتب عنها .. مخالفا مقولة الشاعر الهندى الشهير ” طاغور ” : الحياة إما أن تكتب عنها وإما أن تعيشها .
3- أن كاتبنا الكبير من مدرسة فكرية : ” تؤمن بكرامة المثقف والمفكر والصحفى وترفض أن تباع أو تشترى .. تقول كلمتها وتمضى لا تريد جزاء ولا شكورا .. تؤمن برسالتها ودورها .. وتدفع الثمن غاليا فى سبيل الدفاع عن مبادئها وما تؤمن به بكل رضا وحبور فى سبيل توعية الجماهير .. تذوب عشقا فى وطنها وتدافع عنه بالغالى والنفيس ” .
ندعو الله لكاتبنا الكبير بدوام الصحة ودوام التألق الفكرى والصحفى .
الهوامش :
1- مقال ” مقال وحش لا مثيل له ” أحمد الجمال جريدة المصرى اليوم 21-7-2015م
2- لقاء مع عزة مصطفى برنامج صالة التحرير 30-12-2017م قناة صدى البلد
3- مقال ” من الكرار .. ثانية ” أحمد الجمال جريدة المصرى اليوم 7-7-2015م
4- مقال ” من كرار الذكريات ” أحمد الجمال جريدة المصرى اليوم 30-6-2015م
5- مقال ” شطحات ريفية ” أحمد الجمال جريدة المصرى اليوم 20-11-2019م
6- مقال ” الريف .. والسرقة الحلال ” أحمد الجمال جريدة المصرى اليوم 12-2-2020م
7- مقال ” شحطات ريفية ” أحمد الجمال جريدة المصرى اليوم 20-11-2019م
8- مقال ” الخميرة والضفيرة فى دندرة ” أحمد الجمال جريدة المصرى اليوم 15-12-2015م
9- لقاء تليفزيونى للأستاذ أحمد الجمال مع الإعلامى حمدى رزق .. برنامج نظرة على صدى البلد بتاريخ 30-6-2020م
10- المرجع السابق
11- ندوة ” المشترك الثقافى بين الأديان .. حالة مصر ” المجلس الأعلى للثقافة .. لجنة مواجهة التطرف والإرهاب بتاريخ 12-10-2020م

بواسطة
محمد حسينى الحلفاوى - مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق