كل الطرق لا تؤدي إلي الحرية

الحرية ؛ هي أن تَخلع عنك ما تُقدس من أشخاصٍ أو أفكارٍ ، و إنتماءات إلي أي فصيلٍ أو فكر أو جماعة ، وتُعلي بدلًا عن ذلك قيم ومبادئ سامية.

الحرية ؛ أن تتحرر من كل ما يقود العقل ويستقطبه.

أن تُناضل وتتعاطف مع الحق والعدالة لأجل التعاطف وحده ومن أجل الإنسانية ودعم القيم الروحية في مقابل لفظ كل أوجه هتك الأدمية وسلب الحيوات والقفز فوق أهم وأعظم ما منحه الخالق للإنسان ألا وهي الكرامة، لا سيما الأنفاس الحُرة التي يَجدر أن لا يُعيق مرورها أيًا من كان.

الحرية؛ أن يتجرد طالِبهُا من كل الأسباب والدوافع الذاتية أي أن تُطلب الحرية لأجل التحرر ولأجل مبادئ حقيقية يعتنقها المرء بالطبع أن تكون مبادئ عادلة تَرمي إلي إنهاء معاناة ضعفاء أو جلب مطالب مهمشين لا تُسمع توسلاتهم، وليس بدافع الإستعراض وحب الظهور والشهرة.

الحرية ؛ ليست تلك الشعارات الرنانة والعبارات الرصينة التي تقشعر لها الأبدان بينما هي في الحقيقة مجرد شعارات زائفة ، نوع من أنواع التجمل المجتمعي الذي يتطلبه الإنتماء إلي فصيل المثقفين والنُخبة ، والرياء الإجتماعي.
– منذ فترة وأنا أقرأ بعض من السير الذاتية لمجموعة شخصيات أثرت في التاريخ و أتأمل حيواتهم ، وأتساءل بحيرة محدثة ذاتي يا للمفارقات العجيبة ، كيف إنتشرت حركاتهم الفكرية فعلي سبيل المثال الماركسية ،الشيوعية ،الليبرالية، الإشتراكية الرأسمالية …..كحركات سياسية وفكرية إلتفت حولها الجموع بغض النظر عن الإتفاق أوالإختلاف معها.
علي سبيل المثال ؛ مبادئ وقيم ” غاندي” السامية والنبيلة جدًا، فإن التأمل في حياة هذا الرجل المتقشف المناضل تجعلك تنبهر بكم القيم والمبادئ التي إعتنقها والتي كانت تهدف كلها لصالح شعبه ، كم الزهد الذي كان يحيا به يجعلك تتيقن مدي الصدق والنبل بداخله..

” جان جاك روسو” الذي عاش حياة مليئة بالتناقضات والتُعس ومات وحيدًا مشردًا ثم تحدث المفارقة أن يُكرم بعد وفاته ويدفن رفاته مع الزعماء والقادة الفرنسيين.. لقد خلف للإنسانية آراءه التربوية التي تُعد الأساس الذي بُنيت عليه التربية الحديثة ، بل الأهم المبادئ الدستورية التي تماهت معها الثورة الفرنسية والتي رسخها من خلال كتابه “العقد الإجتماعي ” نعم فقد كان الأب الروحي لتلك الثورة ، إنه من قال بأن ” الفرد أهم من الدولة “… إن حياة جان جاك روسو بكل ما تحمله من معاناة وإخفاقات توضح أنهم إنصهروا داخل فكرة نيرة أرادوا من خلالها أن ينيروا دروب اللاحقين .. لقد كان يعتنق هؤلاء مبادئ نبيلة تحمل الخير للبشرية أجمعين. ومازلنا نحيا علي خطاهم وآثارهم الحميدة التي تركوها قبل أن يرحلوا عن عالمنا .
” جيفارا ” المناضل الثوري من أجل الحق والذي لم يستسيغ حياته التي كانت تنم عن ترف وراحة إلا أنه آثر المناضلة من أجل شعبه….. وقبل كل هؤلاء “أفلاطون” وفلسفته المميزة وآراءه وأفكاره التي أثرت في التاريخ ، والعديد والعديد من العلماء والمفكرين والمصلحين العرب والغير العرب الذين لا يتسع الوقت للحديث عنهم .

لم يكن هؤلاء يتطلعون إلي شهرة ومجد ؛حيث آنذاك لم تكن الأضواء مسلطة ومبهرة مثل اليوم ، لم يكن هناك صراع مريب حول خطف الأنظار والكاميرات ، لم يكن آنذاك يوجد هوس الشهرة الذي بلغ مبلغه إلي درجة أن يتم تصوير تقديم المساعدات للفقراء ( حلوة اللقطة دي وأنا مش واخد بالي) .

لقد كانوا بمبادئهم ملهمين وصادقين لذا أمن بهم الكثيرين وخلد ذكرهم التاريخ ورغم أن وقتذاك لم تكن توجد وسائل إعلام ونادرًا لو وجدت صحف ، قد تجمع حولهم الآلاف وعشرات الآلاف.

أما الآن بالرغم من كل هذا الإنتشار الإعلامي بشتي الوسائل؛ لا توجد شخصية واحدة مؤثرة .. لماذا؟
لقد فطنت إلي شئ بعد كل هذا التأمل أن هؤلاء المبدعين كانوا إضافة إلي أنهم ولدوا بعقليات عبقرية ومواهب خاصة كانوا أيضًا مخلصين مجتهدين فانيين أعمارهم للعلم أيضا لم يكن أحدهم يعرف الشهرة والأضواء.

– ما كانت لتُستجاب دعوات الحرية وهي غير خالصة
ما كانت لتشق عنان السماء ومن ثم ينزل الغيث والمدد ، وتُرفرف حمامات السلام معلنةً عهدٍ جديدٍ وحياة أكرم إلا لو كانت الدعوات خالصة لا يَشوبها مطامع أو مصالح, ما كانت لتأتي علي حساب المزايدة علي دماء أبرياء وتحقير شأن وطن ، والتنصل من الإنتماء إليه وكأنما باتت سُبة حب الوطن.. الوطن الذي يعني الأرض والتراب .

من يُديرون اللعبة فطنوا إلي نقاط ضعف شعوب الدرجة الثالثة أي شعوب العالم الثالث ، أي الشعوب المتخلفة عفواً هذا المصطلح فج !! معذرة أقصد الشعوب النامية ،هم علموا جيدًا أن العاطفة هي التي تُحركنا فلعبوا علي ذلك الوتر الحساس وراهنوا علي الجواد الرابح وهكذا ربحوا وصاروا يُحركوننا كالدمي حيثما يشاءون.

هم فطنوا جيدًا إلي أن العاطفة تلعب دورًا هاما بما أن العقل مغيب وبما أننا شعوب لم تستفيق بعد من غياهب الخرافات والشعوذة و اللجوء إلي الشيخ ( فلان ) والمبروك ( علان) ليُغير مصائرنا التعسة وحظنا العثر و ليجلب لنا الرزق والحبيب والغائب ، أي شعوب تُخاطبون بعد ؟ عفوًا فنحن مازلنا نصغي جيدًا إلي الشائعات والهلاوس التي تُبث عبر الشاشات الزرقاء .
عفوًا فنحن شعوب لم تتعلم بعد كيف تفكر وتنتقي ما تسمعه وتراه وتقوم بعملية تنقيح وغربلة وفلترة لكل ما هو لا منطقي وهزلي ، و التعقل ولو لمرة واحدة بدلًا عن الإنجراف مع التيار والتبعية الفكرية .

لطالما كانت الأمور في أيدي حفنة تنجح في إشعال براكين غضب وإخمادها في ذات الحين ، من ثم يوصلونك إلي حالة من الإنطفاء والشك والريبة لتجد نفسك مذبذب مضطرب مهزوم وما تلبث سوي أن تُعلن تخبطك وهزيمتك ويأسك .

ولكن حقيقةً عليّ أن أُقر بأننا كلنا مذنبون مشاركون في كل ما وصلت إليه أقدامنا العارية التي قنعت وإرتضت بالسير علي أشواك اللاوعي والتغييب وبالطبع أغلبنا فاشلون إلا من رحم ربي ، فالطفل يُولد ومعه مصيره من الفشل بل إن الأمر يسبق مرحلة الميلاد حيث يبدأ منذ مرحلة النطفة في رحم الأم ، تلك الأم التي لا تُجيد العناية بجنينها الذي تنقل إليه وهو بداخل أحشائها عصبيتها ومزاجها السئ فيولد كذلك عصبي مزاجي ثم تبدأ رحلتها معه من اللا تربية ونقل كم من العقد النفسية إليه والخبرات الطفولية السيئة لتُخرج لنا إنسانًا غير متوافق إجتماعيًا مشوهًا نفسيًا ، وأما عن المدرسة فلست بحاجة إلي ذكر دورها في تنشئة ذلك الإنسان الأجوف الفارغ المستنسخ لملايين النسخ ، لا يمكن إغفال دور المدرسة في تنشئة عقول فارغة تمامًا وأجيال هشة من السهل إستقطابها وغسل أدمغتها لأنها لم تتعلم داخل المدرسة كيف تفكر ، فقط كانت تحفظ معلومات تقدمها مناهج عقيمة ما تلبس سوي أن تُنسي عقب نهاية كل إمتحان ، وهكذا تُعاد الكرة وتدور التروس داخل عملية ديناميكية معقدة ونتكاثر بصورة مرعبة لتتزايد أعددانا التي من المفترض أن تكون ثروة بشرية وليس نكبة وأزمة سكانية، هكذا نتزايد و نحيا ونتدافع لنجد أنفسنا كل منا يُدين الأخر ، كل منا يُسقط فشله وأثامه علي الأخرين كمحاولة بائسة للشعور بالأفضلية وعدم المسئولية عن كل تلك المهازل والكوارث التي تحدث في الحياة ، كل منا خبير ، كل منا لديه الحقيقة والخبر الأكيد ، كل منا يتسابق للإستعراض والظهور .

وأما عن صدق النوايا … أين؟ !!

بواسطة
صفاء عبد الصبور - مصر
المصدر
مقال الرأي يُنشر في الجريدة ويعكس في الأساس رأي الكاتب حول الموضوع الذي كتبه ولا يعبر بالضرورة عن صوت المواطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق