المسكوت عنه.. في الصراع التجاري الأميركي الصيني

ترى.. هل هناك “مسكوت عنه” في التنافس الحاصل، راهناً، بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، والذي أصبح يُعد واحدًا من العوامل المُحددة للعلاقات الدولية؟؛ ولماذا تُصر الإدارة الأميركية على تصعيد هذا الصراع في الآونة الأخيرة؟.
ثم، هل من الصحيح أن الصراع التجاري بينهما يدور فقط حول فرض الولايات المتحدة تعريفات جمركية محددة خصيصاً للصين (6 يوليو/تموز 2018)، وأن الصين ردت على هذا الإجراء بالمثل في اليوم نفسه؟؛ وإن كان، فأين موقع التصعيد الأميركي بفرض قيود “قاسية” على عملاق الاتصالات الصيني “هواوي”، في هذا الصراع؟.

والأهم، هل يُمثل الصراع، الحالي، مجرد مقدمة لنزاع أكبر بكثير بين الدولتين صاحبتي أكبر اقتصادين في العالم؟.
لا يعنينا كثيراً “المُصرح به” في الصراع التجاري الحاصل بين أميركا والصين، فهو معروف، ومبرراته واضحة، وتكفي متابعة تغريدات الرئيس الأميركي للتعرف على هذه المبررات؛ إلا أن الأهم، في نظرنا، هو محاولة تلمس “المسكوت عنه” في هذا الصراع، والذي يُمثل الأسباب الحقيقية لإصرار ترامب وإدارته على التصعيد.

لعل الخطوة الأولى، هنا، هو التأكيد على أن الصين، ثاني أكبر اقتصاد وأكبر المُصدرين، في الوقت نفسه، على مستوى العالم، هو ما يؤرق الإدارة الأميركية حقاً؛ إذ إنها تُمثل واحدًا من أهم التحديات أمام المحاولة الأمريكية في الهيمنة على العالم. فهي قد استفادت من الانشغال الأميركي بانتصارات “وهمية” في أفغانستان والعراق، وغيرهما، فانتهجت سياسة البناء الهادئ حتى أصبح اقتصادها منافسًا حقيقيًا لنظيره الأميركي، إلى الدرجة التي وصل فيها الميزان التجاري بينهما ـ الذي يُقارب نصف مليار دولار سنويًا ـ إلى أن يكون في صالح الصين، بفارق ليس بالقليل.

ربما يأتي هذا ضمن دوافع الرئيس الأميركي في مواجهة ما يمكن تسميته “التحدي الصيني”، عبر معركة الرسوم الجمركية، والصدام مع هواوي؛ خاصة وأن واشنطن ترى في هذه الأخيرة لاعبًا أساسيًا في مجال الاتصالات من الصعب الالتفاف عليه؛ وبالتالي، فهي ـ من وجهة نظر واشنطن ـ تشكل خطرًا على الأمن القومي الأميركي، بسبب علاقاتها الوثيقة مع الحكومة الصينية.

إلا أن هذا لا يكفي أن يكون سببًا في تصعيد الصراع الحاصل بين الطرفين، من حيث إن الفارق في الميزان التجاري لا يحتاج إلى التصعيد، بقدر ما يحتاج إلى سياسات أخرى أكثر هدوءًا وروِّية؛ فضلًا عن أن التصادم مع هواوي ليس مبررًا للصراع التجاري مع الصين، بل العكس هو الأكثر صحة. ومن ثم، يطرح البعض أن السبب يكمن في “الدور” الصيني في تمويل “الدين” الأميركي، عن طريق شراء أذون الخزانة والسندات الأميركية.

صحيح أن كميات سندات وأذون الخزانة الأميركية الموجودة بحوزة الصين ـ ناهيك عن الدول الأوروبية، وفي مقدمتها ألمانيا ـ “هائلة”؛ وصحيح، أيضًا، أن الصين تقود الائتلاف الدولي المموِّل للدين الأميركي، هذا فضلًا عن كونها اللاعب الرئيس لسياسة سد العجز لدى حكومة واشنطن.. لكن، رغم هذا وذاك، يبقى من الصحيح، كذلك، أنه كلما ازدادت ضغوط واشنطن على عصب الصراع التجاري مع الصين، كلما قلصت حكومة بكين من عمليات شراء أذون الخزانة الأميركية “من دون علم أحد”، ما عدا الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ووزارة الخزانة الأميركية.

يعني هذا، في ما يعنيه، أن سندات وأذون الخزانة الأميركية، هي “ورقة” تفاوضية في يد حكومة بكين، تساعدها على إنجاز الاتفاق التجاري المتعثر مع الولايات المتحدة، عبر محاولة سعي هذه الأخيرة إلى تهدئة الأمور، ربما أكثر من الاندفاع إلى التصعيد.
ويعني هذا، أيضًا، أن “المسكوت عنه” يبدو أكثر عُمقًا، وأكبر تأثيرًا، مما سبق.. إنه القلق الأميركي الناتج عن المشروع الصيني الضخم المعروف بمبادرة “الحزام والطريق”، أو ما يُعرف بــ”طريق الحرير الجديد”؛ هذا، إضافة إلى تزايد القوة العسكرية الصينية خصوصًا في بحر الصين الجنوبي، بل وتمددها إلى شواطئ البحر الأحمر، عبر القاعدة العسكرية الصينية في جيبوتي.
بعبارة أخرى، إن مبادرة الحزام والطريق هي محور الارتكاز في الصراع التجاري الناشب بين أميركا والصين؛ بل، هي ما توضح لماذا يكون الصراع التجاري مع الصين، في الإطار الاقتصادي الأشمل، كان هو الأبرز والأهم لدى ترامب والإدارة الأميركية، ولماذا هو مُقدم حتى على الصراع العسكري مع روسيا.

إذ، يكفي أن نلاحظ أن هذا الطريق يمر عبر 56 دولة، وافقت 50 منها، حتى الآن، على المشاركة فيه، خاصة أنه يربط آسيا بأوروبا وأفريقيا. كما لنا أن نلاحظ، كذلك، إلى أن تلك الدول التي وافقت، لا تنتمي كلها إلى دول العالم “الجنوبي”، بل إن منها ماهو من دول الإطار “الشمالي” من العالم، مثل إيطاليا؛ التي تأتي ضمن الدول السبع الكبرى اقتصاديًا، وتُمثل “ثالث” أكبر اقتصاد داخل الاتحاد الأوروبي، بما يؤشر إليه ذلك من أن انضمام إيطاليا يساوي نصرًا كبيرًا بالنسبة إلى الصين، التي ألقت بثقلها الاقتصادي في بلد أساسي ومؤسس للاتحاد الأوروبي.

إن نظرة فاحصة على تلك المبادرة، توضح أنها تشمل مدّ خطوط سكك حديدية وشق طرق سريعة وبناء مرافئ في القارات الثلاث آسيا وأوروبا وأفريقيا، على نحو تُريد منه بكين ـ ولا ندري كيف يمكن التأكيد على أهمية هذه النقطة ـ أن يُغير وجه الاقتصاد العالمي؛ وإلا لماذا تطرح بكين مبادرة سوف تُكلفها “تريليون” دولار كـ”تقدير مبدئي”؛ أو لماذا هذا التصعيد الأميركي المتنامي للصراع الاقتصادي معها(؟).

لنا أن نلاحظ، أيضاً، أن الصين بإعلانها عن مبادرة “الحزام والطريق”، بدأت في إنشاء منظومة عالمية خاصة بها، عبر قيادتها لها، بمؤسسات دولية جديدة، وبديلة لكل المؤسسات الغربية، أو الأميركية بالأحرى، وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. أضف إلى ذلك، التواجد العسكري الصيني المتزايد في مناطق جغرافية تختص بالمبادرة؛ وهو ما سوف يُنشئ إطارًا جغراسيًا وجغراستيًا جديداً، في إطار محاولة بكين قيادة المنظومة الجديدة للاقتصاد الدولي.

من هنا، يأتي التصعيد الأميركي للصراع الاقتصادي معها، الذي يتضمن في إطاره الصراع مع عملاق الاتصالات الصيني “هواوي”؛ من حيث إن هذه الأخيرة، تعتمد عليها كثير من الدول الأوروبية، في بناء شبكات الجيل الخامس للاتصالات، أكثر من الشركات الأوروبية والأميركية، لأنها تقدم بنية تحتية متقدمة، وحلول تقنية متميزة، وبأسعار “لا تُقارن” بأسعار الشركات الأخرى، بكل ما يعنيه ذلك من دلالات مستقبلية في ظل التحول الرقمي الراهن، وتغير مفهوم السيادة الوطنية للدول؛ وبكل ما يؤشر إليه، في الوقت نفسه، حول حروب الجيلين الخامس والسادس المحتملة.
ما نعاصره، إذًا، هو تحول في النظام الدولي، نحو وضعية قطبية تختلف عن تلك التي عرفها العالم في القرن العشرين الفائت عموماً، وخلال فترة العقدين السابقين تحديداً؛ تلك الفترة التي حاولت فيها الولايات المتحدة فرض هيمنتها على تفاعلات الساحة الدولية.

بواسطة
حسين معلوم - مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق